الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معرض الكتاب … على اسم مصر .. وذكرياتي

فاطمة ناعوت

2023 / 1 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


[email protected]


هذا معرضُ القاهرة الدولي للكتاب في عامه الرابع والخمسين. عريقٌ وشابٌّ في آن. عريقٌ في تاريخه الطويل، وشابٌّ في حيويته وتجدّده. وأعلنت د. "نيفين الكيلاني" وزيرة الثقافة، اختيار "على اسم مصر"، عنوانًا لمعرض هذا العام، و"هويّة مصر.. الثقافة وسؤال المستقبل" شعارًا له. ووقع اختيار اللجنة العليا للمعرض، برئاسة د. "أحمد بهي" على اسم الشاعر الخالد "صلاح جاهين" ليكون شخصية المعرض؛ ومن هنا كانت عبارة "على اسم مصر"، كما اختيرت "المملكة الأردنية الهاشمية" ضيف الشرف لهذا العام.
وكعادته يزورنا معرضُ الكتاب القاهرةَ مع نهايات شهر يناير؛ وكأنما لكي يغسل أوجاعَ عام مضى مشحونٍ بالتعب والكفاح في معركة بناء الوطن في ثوبه الجديد الناهض الواعد بإذن الله. وكأنما ارتباطٌ "أدبي معنوي" بين الكتاب وبداية العام؛ لأن القراءةَ هي البداية. بدايةٌ لكل جميل وثريّ. وثمّةُ ارتباطٌ "عملي" بين الكتاب والشتاء؛ لأن القراءة تمنحُ الدفءَ للعقل والقلب معًا.
ذكرياتي مع الكتاب، لا تنتهي. وتحتاج إلى مجلداتٍ وجداولَ من المداد، إن قررتُ يومًا أن أقصّها كشريط بانورامي غزير المَشاهد. منذ طفولتي، كنتُ أقتطعُ من مصروفي قرشًا فوق قرش، انتظارًا لإجازة نصف العام، حيث تكون "المكافأةُ" هي زيارة المعرض، بعد شهور من تعب المدارس وأوامرَ طاغيةٍ بالاستذكار من أمي الحاسمة، رحمها الله، التي تحظرُ قراءة أي كتاب إلا "كتاب المدرسة"، نُشدانًا للتفوق والتميّز ودخول "كليات القمّة" كما يطلقون على الطب والهندسة، ولي تحفّظ على المسمّى. فجميعُ العلوم والفنون قممٌ شواهقُ. وكنتُ أبتكرُ "الحِيَل" من أجل عيون الكتاب. أولُّها تخبئةُ الكتاب المنشود قراءته داخل الكتاب الدراسي، وقراءته خلسةً، بعيدًا عن عيون أمي. وكانت المعضلةُ في الكتب الضخمة، التي لا تستوعبها أجسادُ الكتبُ المدرسية النحيلة. فكان أن قطّعتُ "الفردوس المفقود" إلى ملازمَ صغيرةٍ خبئتُها في صندوق اللعب تحت سريري. وكلَّ ليلة أدسُّ "فردوسةً من الفراديس" داخل كتاب التاريخ (الذي لا أحبه )، وكأنني أعاقبُ "مِلتون" على ضخامة ملحمته الشعرية، ولا أعبأ بنظرات الغضب التي كانت تتطاير من عينيه الزرقاوين وهو محبوسٌ في الكتاب المدرسيّ. أو كأنني أعاقبُ التاريخ ذاته.
ثم جاء دور الميثولوجيا الإغريقية. صعبٌ عليّ أن أُقطّع الالياذة والأوديسا! ليس رحمةً بـ "هوميروس" الأعمى لئلا يتألم إن حبستُه في ظلام كتاب المدرسة؛ فالأعمى لا يزعجه الظلامُ، بل خوفًا من كبير الآلهة "زيوس" وزوجته الشريرة "هيرا" ومكائدها المخيفة. ربما أمرتْ "هيرا" جبلَ الأوليمپ بأن ينهدم فوق رأسي وأنا نائمة، إن حبستها في كتاب. أو ترسل ورائي العملاق ذا المئة عين ليعذّبني قبل أن يموت وتتحوّل عيونُه إلى دوائرَ فوق ريش طاووس. أو ربما تأمر إله البحر "بوسيدون" بأن يرميني في جوفه فأتوه كما تاه أوديسيوس في الأمواج عشر سنين. وربما تربطني "هيرا" الشريرةُ بين جبلين وتجعل طائر الرخّ ينهش كبدي إلى الأبد كما فُعل بـ "بروميثيوس”. أو ربما تعطيني "صندوق النوم" الأبديّ، كما فعلت "ڤينوس" مع "سايكي”.
ولأن الخوفَ أبو الابتكار، ابتكرتُ حيلةًً جديدة لخداع أمي. كنت "أمثّل" النومَ حين تُدثّرني أمي بالأغطية في سريري، فتطفئ نور غرفتي وتخرج. وما أن تغلق البابَ وراءها، أفتحُ عينيّ وأظلُّ أحملقُ في السقف المظلم ربع ساعة، أنشغل خلالها بتسميع قطعة من "النصوص" من درس العربي الذي أحبه، أو أرسم في ذهني خريطةً من الجغرافيا التي لا أحبها، حتى يرتاح ضميري. ثم أتسللُ من الفراش. أفتح شيشَ نافذة غرفتي قليلا. أختلسُ النظرَ إلى نافذة غرفة أمي. وما أن ينطفئ نورُ غرفتها، أنزل تحت سريري، وأشعل الأباجورة الصغيرة التي أخبئها في صندوق اللعب أيضًا، ثم أنبطح فوق الكتاب، وأبدأ طقس "الالتهام". سنواتٌ طوال أسرني فيها "أخيلُ" السريعُ الخُطو، و"أوديسيوس" الفارس النبيل. كنتُ أنتظرُ عودته إلى "إيثاكا" مثلما تنتظره زوجته الجميلة "بانيلوب”. أغزلُ معها على النَّول صباحًا، فإن جاء الليلُ نقضتُ معها ما غزلناه في النهار.
وجاء معرضُ الكتاب هذا العام، لكن أمي لم تعد موجودة، لأخبئ منها الكتبَ كما كنتُ أفعل في طفولتي. الكتبُ مرصوصة فوق أرفف مكتبات بيتي، ولا أجد مَن يمنعني من قراءتها. فيا أمي التي تركتني وطارت إلى السماوات العلا، عودي إليّ ساعةً واحدةً، وأنا أهجرُ الكتبَ والدفاتر والأقلام لأنظر في عينيكِ البُنيتين الجميلتين، ولا أشبع.
يا حبيبتي ماما "سهير"، التي طارت وتركتني أتعتَّرُ في وحدتي، إن كنتِ تقرأين هذا الآن من الجنّة حيث أنتِ، فسامحيني، وزوريني في الحُلم، حتى تفرحي معي بخروج حفيدك "عمر" من شرنقة "التوحّد" نحو براح الضوء.

***

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #