الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جذور الحداثة الغربية (2)

أياد الزهيري

2023 / 1 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ذكرنا في الحلقة السابقة بشكل موجزالسمات الخاصة بالحداثة ,ونذكرها هنا مرتاً أخرى لكي يستحضرها القاريء في ذهنه . محور هذه الحلقة هو تثبيت أدعاءنا بمنسوبية سمات الحداثة التي أَصَّل لها رواد الحداثة الغربية الى جذورها في الميثلوجيا الأغريقية القديمة . هذا التأصيل لا يعني نفي ما جاء به هؤلاء الرواد من أبداع حداثي في كل الجوانب الفلسفية والعلمية والدينية والفنية والأجتماعية , فالأبداع حاضر بقوة بالتوازي مع قوة تأصيلهم له من منشئه الأول , الذي وضع أساسه أسلافهم من اليونانين والرومانيين القدامى . من المهم الأشارة الى نقطة حساسة وبالغة الأهمية , الا وهو أن لا حداثة بالمعنى الحقيقي للحداثة بدون أبداع , فالبعد الأبداعي مرتكز صميمي للأبداع , وقد حقق الحداثويون الأوربيون الأوائل هذا الشرط , بعكس الكثير من المفكرين والكتاب العرب الذين دعوا الى تقليد الحداثة الغربية , ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور طه حسين الذي دعى الى منظور تجديدي من خلال تقليد المنهجية الغربية كما هي , في سلبيتها وأيجابيتها , من دون أن يأخذ بنظر الأعتبار خصوصية شعوب الشرق الأوسط ولا ميراثهم الحضاري , حيث يقول (( علينا أن نتشارك الحضارة الراهنة معهم , بكل جوانبها الأيجابية والسلبية) وقد ربط الرجل ما أراده لمصر بالحداثة الغربية , حتى أنه ذهب في دعوته الى أن تكون ثقافة مصر ثقافة غربية أوربية لا شرقية , وقد حذى حذوه كل من منصور فهمي وسلامة موسى الذي رفض رفضاً كلياً ما أسماه أدعاءات قائلة بشخصية مصر العربية أو الآسيوية , حتى أن هذا الرجل جعل من أحتلال نابليون لمصر , كما أحتلال بريطانيا لها , هو تحرير لمصر من كابوس هويتهم الشرقية , فهذا النوع من الكتّاب يدعون الى تغير الهوية كأجراء ضروري للتحديث . من الجدير بالذكر أذا كان طه حسين وأمثاله قد دعوا الى التغريب فكراً , فأن دول الخليج , والآن السعودية بدأت تسير على خطاهم , بتقليد الحداثة الغربية في جانبها الرفاهي , تقليداً أعمى , والأدهي أن نقل أنجازات الحداثة الغربية لهذه البلدان يتم بأيدي أجنبية , أي أنهم لا يتبنوا طريقة التفكير الحضاري , بل التركيز على التمتع بالأنجاز الحداثي الأوربي بجانبه المادي ( عمارات, مسابح, سيارات فارهة, مدينة ملاهي, مطاعم ...) وهذا يُسمى تغريب وأستلاب حضاري , لأنه فاقد لشرط الأبداع الذي نوه عنه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري في الكثير من كتاباته وخاصة في كتابه (الحداثة ومابعد الحداثة) ,الذي أشترط عملية الأبداع في عملية التحديث , بأعتبار الحداثة مفهوماً معرفياً , والتي تحتاج الى أستيعاب لها وأبداع فيها وبالتالي بناء مشروع حضاري يتناغم مع البيئة المراد أقامة مشروع الحضارة فيها , وطبيعة الموروث الحضاري للشعب الذي يقطن في هذه البيئة . نرى هناك أختلاف كبير بين طه حسين الذي يدعو للأخذ بالحداثة الغربية بحلوها ومرها , بسلبيتها وأيجابيتها , وبين الدكتورعبد الوهاب المسيري الذي يدعو للتميز بين البعد المظلم والبعد المنير في الحضارة الغربية, لذا والقول للمسيري أن معرفة وفحص جذور الحداثة سيجنبنا الكثير من المطبات والوقوع في شبكتها العنكبوتية , مما يجعل التخلص من آثارها السلبية أمر غير سهل , أو على الأقل يجعلنا حذرين في تناولها والتعاطي مع بعض مفرداتها. وأن هذا التحذير من المسيري , هناك الكثير مما يبرره , سواء على مستوى الواقع الذي خلف مشاكل أجتماعية ونفسية وسياسية خطيرة , كما على مستوى مفكرين غربيين حذروا منها , ولنا فيما كتبه (أوسفالد شبينغلر) في كتابه ( أنهيار الغرب) الذي حذر فيه عن تداعيات الحداثة الغربية وما جَرته من مأساة , وفيه تنبأ بمصير مظلم لأوربا , وفي هذا السياق كتب كذلك هسرل في كتابه ( أزمة العلوم الأوربية) , وهناك من كانت له ردود فعل قوية أتجاه الحداثة الغربية , وما أفرزته من واقع لا يبشر بخير مما دعا أيريك فولجين الى أحياء المسيحية الأفلاطونية , وكما دعت (حنه أرندت) الألمانية الأصل الى العودة الى العالم القديم .
من كل ما تقدم تقتضي الضرورة معرفة جذور الحداثة الغربية بداعي خطورة أنعكاسها على متلقيها , ومن يأخذ بها طوعاً أو قسراً ,كما يحدث لنا اليوم من موجة حداثوية بسياقات مشبوهه لأنها تتعامل مع منتوجات الحداثة وليس مع بنية الحداثة وشروطها المعرفية , وكما قيل لا أحد يولد أبناً للقدر , وبناءاً على ذلك لكل شيء أصل يكون سبب لولادته.
بالحقيقة لعبت الكنيسة بمنظومتها الفكرية المنافية للعقل , وما جاءت به من قيم لا تمت للواقع , بل ساهمت في أفساده وخرابه , وكان ضحيته الأنسان الأوربي , كما لعًب رجال الكنيسة دوراً زاد من أستغلال الناس بشكل بشع , بل وزادوا من معاناة الأنسان الأوربي بالتحالف مع الأقطاع والحاكم المستبد فكانوا خير عون لهم , في أدخال أوربا في نفق مظلم , وكانت النتيجة هي العصور الوسطى , الموصوفه بالمظلمة , وهي كانت من أبشع العصور التي مرت بها أوربا عبر تاريخها الطويل. هذه المعاناة , دعت أحد رجال الكنيسة بالثورة على الواقع السيء لها وهو الراهب مارتين لوثر (1483-1546م) مؤسس المذهب البروتستانتي . هذا الراهب شخص ظلامات وفساد الكنيسة ورجالاتها , وانهم أحد أهم أسباب أنحطاط المجتمعات الأوربية , ولكن لا يمكننا أن نتناسى ممن سبقه من الرهبان , وهو المدعو فرانسيشكو بيترارك (1304-1374م) في أيطاليا , وهو واحد من أوائل الأنسانيين الذين مهدوا لعصر النهضة , وأحياناً يُسمى بأب الأنسانية , وكان رجل دين , وعمل مبعوث دبلوماسي للكنيسة , (وقد أعتقد بيترارك بأن الحياة المسيحية لا تتطلب مجرد أيمان ومناسك , بل ممارسات أخلاقية أيضاً , وأن هذا الشكل من الأخلاق لا يتحقق الا من خلال فهم أعمق لما يعني أن تكون أنسان , وهذا لا يستوحى من الكتاب المقدس فحسب , بل من النماذج الأخلاقية للعصور القديمة) (الجذور اللاهوتية للحداثة) . فهذا رجل الدين المسيحي دعا الى دمج الروح الوثنية والروح المسيحية معاً . يتضح لنا أن التمهيد للحداثة كان في البداية أو المحفز له ردة فعل بعض رهبان وقساوسة الكنيسة على واقعها الهزيل والفاسد , وما جلبه من سوء وخيبات على الواقع الأوربي . فقد كانت في أوربا بداية حركة أصلاح , يقودها بعض الأشخاص من أمثال ما ذكرنا, ولكن بنفس الوقت كانت هناك حركة فكرية سبقت الحداثة أيضاً , وهي تنتمي للمسيحية كذلك تُعرف بالأسمانية , وقد جاءت بمفاهيم مغايرة للمألوف في حينه , وخاصة مفهوم الفردانية , حيث تقوم في جوهرها على أن لكل فرد مادي أو أنساني جوهره الخاص , ولا يؤمن بمبدأ الكليات التي تميزت بها الفلسفة المدرسية الأرسطية الأفلاطونية , وكانت تؤكد على التغير , وان هناك أرادة فردية لكل شيء بالوجود , وحتى الله يتغير في أرادته بين فترة وأخرى, ولا تلزمه حدود كلية , هذه الحركة الفكرية كانت أحد المنابع التي أثرت في حركة الحداثة الغربية. أذن لا يمكننا العبور على بعض رجال الدين المسيحي في التمهيد لفكرة الحداثة .
كما تحرك رجال من داخل الكنيسة رغبةً بأصلاحها. كذلك تحرك البعض من أجل التغير أمتعاضاً منها , وهم من خارجها, وهؤلاء يوصفون برواد النهضة الأوربية . هؤلاء الرواد , من أمثال عمانؤيل كانط وسبينوزا , وجون لوك , وأغست كونت , وفولتير وغيرهم الكثير مما لا يتسع المحل لذكرهم , كان هؤلاء من الساخطين على الكنيسة الأوربية , والمتهمين لها بأن لها القسط الأكبر فيما تعاني منه أوربا من أنحطاط , وشعوبها من بؤس شديد القسوة , وما يعانية الأنسان الفرد من محق وأستلاب لشخصيته. فلقد عقدوا النية هؤلاء الرواد الى الميل بوجوههم نحو أثنا وما تختزنه من تراث أسطوري قديم , مرتكزين علية كمنطلق لنهضة تنقذ أوربا من واقعها المزري وتخليص أنسانها المستلب من قبل الثلاثي ( كنيسة-أقطاع-أمبراطور) , فوجدوا في السرد الأسطوري الأغريقي ضالتهم ,فأسسوا عليه نهضتهم الأوربية .
من المؤكد لا يمكن أن تقوم أي نهضة حضارية الا على من يمهد لها من أسس ومرتكزات , تكون لها منصة أنطلاق , وقد أشار الفيلسوف والمؤرخ الأيطالي (جيامباتيستا فيكو) الذي عاش في القرن السابع عشر بأن الأساطير الأغريقية هي البنية الأساسية للحداثة الغربية , ومما قاله في هذا المضمار ( من المستحيل بمكان ولادة حضارة في طرفة عين. بل كل حضارة لا بد وأن تقوم على الخلفيات الثقافية للمجتمع الذي تنشأ فيه على ضوء مسيرة تكاملية ) مثلوجيا الحداثة ص12 , ولا غرابة في تبني الغربيون فيما يتبنونه من قيم من جذورهم الأسطورية , فالباحثة البريطانية (كارين أرمسترونج ) تقول أن (أساطير كل ثقافة تعتبر مصدراً تعليمياً للقيم التي يتبناها أبناء تلك الثقافة) . ويمكننا الأستشاهد كذلك بما يقول به فيرنرمايجر بأن حتى فلسفة أفلاطون وأرسطو تعتبر الأساس الفلسفي والركيزة التي تقومت عليها الفلسفة الغربية , تعد هي الأخرى ذات جذور أسطورية أغريقية , كما في نظرية (النفس) الأفلاطونية , ونظرية (المحبة) الأرسطية التي تحكي عن المحبة الكامنة في ذات المتحرك المنزه عن الحركة (ميثلوجيا الحداثة ص 23 . أن ما ذُكر أعلاه على حد قول المفكرون والفلاسفة الأوربيون , بأن ما يتمتع به الأوربيون وما يختزنونه في لا شعورهم من فكر ومفاهيم أسطورية , هو الحافز والمرتكز الذي تقومت علية النزعة العقلية الغربية الحديثة , وهنا نذكر للروائي والناقد الأجتماعي الألماني (توماس مان) رأياً يقول فيه ضرورة سعي الباحثين والعلماء لأستكشاف العلاقات المتبادلة بين التجربة الأوربية الحديثة والأساطير الأغريقية , حتى وأن أعتبرت الحداثة أمراً مبتدعاً... والحقيقة أن الرؤية المنطقية الدقيقة تؤكد على وجود تناسب بين العالم الغربي المعاصر وبين ماضيه وأساطيره بصفتها أصولاً حديثة..) (ميثلوجيا الحداثة ص 25 . مهما قلنا عن آخرين لكن لا يمكننا الا أن نذكر ما يقوله المتخصص الضليع بالمثلوجيا الأغريقية ( جيامباتيستا فيكو) في قوله ( أن الميثلوجيا تعين العلماء والباحثين على معرفة الجذور الثقافية للمجتمعات البشرية) (ميثلوجيا الحداثة ص49) .
فلو تتبعنا بعض مفاهيم الحداثة الغربية الأساسية ومنها النزعة الأنسانوية , والتي تعتبر الأنسان هو المحور في كل شيء , معياراً وعملاً وتوجيهاً , وهو الفاعل والراسم التاريخي لمسيرة الأحداث عبر الزمن. فالأنسانوية حقل مدارها الأنسان , وهو من يتعامل مع الطبيعة ويتفحصها ويستنفذ أغراضه منها , فأنشغاله وتفكيره بها خلق عنده تصورات فسر من خلالها ما يجري عليها , ومن يقف وراء وجودها وما يطرأ عليها من ظواهر وأحداث , وقد فسر ذلك بأن وراء كل ظاهرة طبيعية اله , وقد أضفى على هذا الاله صفات البشر , ولكن لا يفنى كما يُفنى البشر , ولكن جماح خيال الأنسان صور هذا الاله بقدرات وميزات أعظم من قدرات الأنسان, ومن هنا تكون البداية في وضع اللمسات الأولى للأنسانوية . من هنا ومن خلال مرور الزمن بدأ الأنسان يتقمص دور الاله أملاً بالخلود , وهذا ما دونه هوميروس وهوسيود في أساطيرهما , فأخذ الأنسان يتقمص دور أبن الالة و أخرى بأنه نصف آلهة ونصف أنسان , الى أن وصل الى مرحلة أقصاءها من مكانها والأحلال محلها , أملاً بالفوز بالخلود الذي ينشده . هذا الأحلال مكان الالهه والذي تمخض عن صراعات وصلت الى حد قتل هذه الآلهة كما حدث لمردوخ الاله الشاب ابن الاله أيا الذي قتل الآلهة تعامة , وكما كرونوس بقتله لوالده أورانوس الذي قطعة بالمنجل , فهؤلاء الآلهة القتله لهم صفات البشر , وهم مولودون وهذه تؤكد قربهم الشديد من الخصائص البشرية . فالأنسان كائن تواق للخلود وبما أنه ليس باله فقد تلمس الخلود من خلال أعمال عظيمة يقدمها تكون سبباً لخلود ذكره , وخير مثال هو أخيليوس الذي لعب دوراً مهم وكبيراً في حرب طروادة , وعبر عن أرادة حديدية في مقاتلة العدو وتحقيق الأنتصار عليه , وهو عمل يبرز فيه قدراته الأنسانية الفريدة , ومن خلال ما قدمه , فهو يعكس المسيرة التي يمكن أن يرتقي لها الأنسان في رحلة تكاملية لكي يصل خلالها الأنسان الى المرتكز الأساسي بالكون على حد قول الشاعر والفيلسوف الروماني تيتوس لوكريتوس. فرواد الحداثة أتخذوا من الأبطال الأسطوريين , سواء كانت شخصيات تخيلية أو واقعية رمزيه لبلوغ الأنسان الغربي صورة بالغة القوة والرقي , والذي يطلق علية نيتشه بالأنسان الأعلى , حتى أن هذا الأنسان بنظر نيتشه يأخذ مكان الاله بعد أن أعلن في مقولة مشهوره له عن موت الاله , واصبح الأنسان ذو خصائص سوبرمانية لا يحتاج بها الى اله. أن المتتبع للأسطورة الأغريقيه , وخاصة في المرحلة الثالثة لها , مرحلة الأبطال الأسطورين , الذين أحتلوا مكانة الآلهة , هم ما يطمح رواد الحداثة الى صناعة الأنسان الأوربي على غرارهم , وهذه مرحلة يدخل فيها الأنسان مرحلة الأقتدار , وهي مرحلة تجعله ينفك أرتباطه بشكل تام عن الماورائيات , وأن الأنسان الأوربي يصبح كأخيليوس صاحب اليد الطولى في جميع القضايا في كل شؤون الحياة , وهو الآمر الناهي في كل الأمور. هذا النموذج الذي يجمع القوة , والسعي الى الهيمنة , عن طريق بناء أرادة حديدية , هوالنمزذج الذي بواسطته يتحقق بناء الأمبريالية الغربية , والتي أعتبرها فاكوياما المرحلة الحتمية بالتاريخ.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير