الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم الومضة في ديوان -وحيدا ستمضي- منذر يحيى عيسى

رائد الحواري

2023 / 1 / 29
الادب والفن


عالم الومضة في ديوان
"وحيدا ستمضي"
منذر يحيى عيسى

عندما يتم تناول العمل الأدبي في جلسة واحدة فهذا يشير إلى سلاسته، وإلى قدرة الكاتب على إمتاع القارئ، هذا الأمر ينطبق على أي عمل، بصرف النظر عن جنسه، هذا الديوان يأتي ضمن الأعمال الممتعة، لما فيه من سلاسة وتكثيف، فهناك مجموعة كبيرة من الومضات، تأخذ المتلقي إلى عصر السرعة والاختزال، وهذا يحسب للشاعر وللديوان.
اللافت في هذا الديوان حضور الفراشة، اللون الأزرق، وهذا يعطي مدلول للحرية والفضاء المفتوح الذي يحتاجه الشاعر، لكن هذا لا يعني أنه لم يتناول واقعه في سورية وما تعانيه من ألم بعد أن تكالب عليها الغرب وإتباعه من الأعراب والعجم، فالوجع حاضر في الديوان، وكذلك الأمل، لهذا سنجد قصائد تجمع بين البياض والسواد، وأخرى مطلقة البياض، وأخرى متعلقة بالسواد.
هذا على صعيد المضمون، أما على صعيد الشكل واللغة الأدبية، فقد حرص الشاعر على تقدم ديوانه بلغة أدبية سهلة ومختزلة، بعيدا عن الإنشاء والحشو، من هنا سنحاول التوقف قليلا عند الفنية والجمالية التي استخدمها الشاعر، ونبدأ من قصيدة : هجرة الروح، والتي جاءت بهذا الشكل:

"في مَقامِ الغِيابِ
أَقْرَأُ كُلَّ ما تَقُوْلُهُ الرِّيحْ...
لكي تَعُوْدَ الرُّوْحُ مِنْ هِجْرتِها
أَعْصِرُ عامِداً حَواسِّي لأَشْرَبَها
يَهُلُّ الغَيْثُ فَجْأةً
بلا سَحابْ..."
نلاحظ أن شكل القصيدة جاء على شكل شجرة، وهذا بحد ذاته لافت ويحسب من جمالية القصيدة، ويمكن أن نأخذه إلى رمزية خصب الطبيعة، أما على صعيد المضمون فنجد إشارة إلى غياب الخير/غياب البعل) "مقام الغياب" وأيضا الأمل بعودته وما فيها من خصب، لهذا نجد مجموعة ألفاظ لها علاقة بالماء ومتعلقة به: "الريح، أعصر، لأشربها، الغيث، سحاب" ونلاحظ أن الشاعر يعطي نفسه صفة الخصب: "أعصر عامدا حواسي لأشربها" وليس للبعل، وهذا له علاقة بواقع الشاعر الذي يصر على مخاطبتنا بصيغة "أنا" فهو حريص على أن يحدث أصدقاؤه بصورة حميمية.
ويقول في "ظل وجدار:

"في العاصِفةِ هَرَباً مِنْ نَزَقٍ مُحْتَمَلٍ
أَلْجَأُ إلى ظِلِّكِ الظَّلِيْلِ
فيُوْرِقُ الظِلُّ جِداراً
وتَصْعَدُ العاصِفةُ دُرُوْبَ السَّماءْ..."
الجميل في هذه الومضة أن الشاعر أخر فعل "ألجأ" الأبيض، وقدم "هربا" القاسي، وكأنه أراد أن يزيل القسوة بعد "هربا" لتكون الومضة بعدها ناصعة البياض، لهدا نجد كل الألفاظ ناعمة: ظلك، الظليل، فيورق، الظل، وتصعد، دروب، السماء" وما استخدامه للفظي " القسوة "جدار وعاصفة" إلا لتكامل المعنى الذي تحمله الومضة.
ونلاحظ أن بعد "هربا" جاءت "ظل" مكررة ثلاث مرات، والذي يشير إلى الديمومة والقدسية، وهذا له علاقة ب"هربا وألجأ" فالشاعر يريد البقاء بجانب (الحبيبة) المفترضة/الغائبة لنا والحاضرة له، فالعاصفة جعلته يلتجأ إلى المرأة ليبقى أمنا معها وفيها وبها.

ويقول في "قصب الرؤيا":
" لأَسْتَرِيْحَ مِنْ عَنَتِ الوَقْتِ
أَطْرُقُ بابَ قَصِيْدتِكِ
يُفاجِئُني اللَّوْزُ بطَعْمِهِ الباذِخِ
كأُغْنِياتِ الجِبالِ
ويُعْلِنُ الرَّبِيْعُ
قِيامةَ الأَرْضِ
بِساطاً مُوشَّىً بقَصَبِ الرُّؤْيا
ووَرْدِ المَجازْ..."
عناصر الفرح تتمثل في "الكتابة، المرأة، الطبيعة، التمرد، نجد في هذه الومضة، الكتابة في: "قصيدتك، كأغنيات" والطبيعة في: "اللوز، الجبال، الربيع، الأرض، بقصب، وورد" ونجد حضور المرأة: "قصيدتك،" والتمرد في "قيامة" هناك إشارة إلى خصب البعل جاء من خلال "ويعلن الربيع" وما حضور الغناء والطبيعة بهذه الكثافة إلا ناتج عن أثر الخير والفرح الذي يأتي به الربيع/البعل.
ومن جمالة هذه الومضة أنها تقرأ أكثر من مرة، لوجود عناصر روحية/عاطفية ـ الحاجة إلى المرأة ـ دون أن يذكرها أو يدخل في التفاصيل، فالشاعر اكتفى ب"أطرق باب قصيدتك" ليفتح أمامه كل هذا الخير والبياض والجمال، وتناوله المرأة بهذه (الغيابية) يعطيها صفة العلو/القدسية، فهي لا تُروى، لكنها حاضرة ومؤثرة، فهل "كعشتار" التي يأتي معها الخصب والنماء والجمال.

ويقدم حضور المرأة بصورة خاطفة في "إبراقة":
"مُخِيفٌ غِيابُكِ
لكنَّ إبراقةَ شَوْقٍ خاطفةٍ
تَجْعَلُ المَسافةَ
أَقْرَبَ مِنَ الجَفْنِ إلى العَينْ..."

الجميل في هذه الومضة أن الشاعر يجعل المرأة غائبة، فهو لا يتحدث عنها بصورة مباشرة وأنها بصيغة الغائب، وهذا يعطيها شيء من القدسية والمكانة الرفيعة، وإذا ما توقفنا عن الومضة نجد العلاقة بين "إبراقة" من جهة وبين والجفن والعين من جهة أخرى.
"إبراقة" يمكن أخذها إلى أنها تصغير" للبرق، وأيضا على أنها الوجه/الهيئة اللمعة/الساطعة/الجاذبة، فالسرعة حاضرة في كلاهما، لكن أثر "إبراقة" تُبقي أثرها في النفس، فالمرأة التي تقدر أن تترك/تُحدث هذا الأثر بخطفة عين هي خارقة/غير عادية.

الأداة الأهم عند الشاعر هي الكتابة، لأنه بها يكون شاعرا، ودونها يمسي شخصا (عاديا)، يحدثنا "منذر يحيى عيسى" عن علاقته بالقصيدة في "نداء القصيدة":
" كلَّما قُلْتُ: إنَّي نَجَوْتُ
يَهْمِسُ في أُذُني الفَجْرُ
رُوَيْداً هناكَ قَصيدةٌ لمْ تَكْتَمِلْ بَعدْ...
أَيَّتُها السَّماءُ، أيَّتُها الأرضُ:
إلى متى هذا الفَتقُ؟
أَلَا تَسْمَعانِ أَصواتَ الحَنِينْ؟!."
إذا ما توقفنا عند العنوان "نداء القصيدة" وصيغة النداء التي جاءت في الومضة: أيتها السماء، أيتها الأرض" نصل إلى المساحة/الجهة التي وجه لها النداء والتي لا تحد ولا تقاس، واللافت أن الشاعر يفتتح القول/الحديث بصورة خافتة "قلت، يهمس" ثم يعطيه مساحة هائلة، وفي الخاتمة يستخدم صيغة الجمع "أصوات" كل هذا لأن المتحدث/المتكلم عنه هو القصيدة/الشعر، الذي يجب أن يسمع له ومن الجميع.

وفي ومضة سكرة القصيدة، يقول:
"ذاتَ سَهْرةٍ
قَرَّرَتِ القَصِيْدةُ مُعاقَرةَ خَمْرةِ الخابِيةِ
فاشْتَعَلَتْ وَجْداً وسَناً
عِنْدَها بَدَأَتْ طُيُوْرُ الوَقْتِ
رَقْصةَ الفَرَحْ..."
نلاحظ أن الشاعر يؤنسن القصيدة، وهذا يعطي الومضة لمسة جمالية، وإذا ما عدنا إلى الألفاظ نجد بصيغة المؤنث تتغلب على المذكر: "قررت، سهرة، القصيدة، خمرة، الخابية، فأشعلت، رقصة" بينما المذكر جاء بحالة أقل: "وجدا وسنا، طيور، الوقت الفرح" وإذا علمنا أن المذكر جاء بحال المتأثر/التابع للمؤنث: " فأشعت وجدا وسنا" نعلم قوة الأنثى ومدى أثرها على المذكر.
وبما أن الومضة متعلقة بالقصيدة، المؤنث فهذا جعل الومضة مطلقة البياض، فكل الألفاظ جاءت ناعمة وتخدم حالة البهجة/الفرح، وهذا يعود إلى أن القصيدة تشير إلى عنصر الفرح/الكتابة، وإلى أنها أنثى/أمرة، وهذا ما جعل بياضها ناصها ومطلقا.

وإشارة إلى أن الشاعر يكتب من قلبه وما يحمله في داخله من فرح/هموم يقول في ومضة "حبر اللوعة":

"حِبْري الذي أَكْتُبُ بهِ
عُصارةُ قَلْبٍ
أَتْعَبَتْهُ اللَّهْفةُ، وقَلَقُ الانْتِظارْ..."

وهذا يعطي مدلولا إلى أن الأدب/الشعر/القصيدة تكتب بدم القلب، وتخرج بعد مخاض مؤلم وموجع، الجميل في ما جاء في الومضة أن الشاعر اقرن اللهفة بالتعب، والانتظار بالقلق، بمعنى أن هناك تعب جسدي، وضغط نفسي/قلق. وبما أن هناك صيغة مؤنثة "أتعبته اللهفة، وصيغة مذكر "قلق الانتظار" فهذا يأخذنا إلى كثرة وتنوع الضغوطات على الشاعر الذي يكتب ألمه وألم شعبه ووطنه.


التحدي ومواجهة الصعاب حالة تكيف معها السوري، فهي جزء من التراث الديني منذ حمل فكرة غياب البعل وما يتركه من قحط وجذب على الأرض ومن عليها، وصولا إلى الآية القرآنية إن مع العسر يسرى" الشاعر يقدم صورة التحدي مكن خلال ومضة : شجرة عارية":

"تَساقَطَتِ الأَوْراقُ
في مَهَبِّ الأَيّامِ
وبَقِيَتْ شَجَرةُ العُمْرِ
بعُرْيِها الفاضِحِ
تَتَحَدَّى صَقِيْعَ شِتائِها
حالِمةً بدِفْءٍ قَدْ يَكُونْ..."
الجميل في هذه الومضة أنها تكثر من السواد/الألم: "تساقطت، مهب، بعريها، الفاضح، صقيع" لكن قوة الأمل "تتحدى، حالمة، بدفء" جاءت بقوتها وأثرها توازي السواد، فبدى للقارئ أن هناك صراع بين "الصقيع/دفء، بعريها الفاضح/تتحدى، حالمة". وبما أن الحديث يدور حول أنثى/شجرة فهذا يمنحها تعاطف المتلقي وانحيازه لها، فكيف لهذا العارية أن تواجه الصقيع؟.
ومن مظاهر الصراع ما جاء في ومضة "ماء مقدس":

"أَبَتِ الدُّمُوْعُ أنْ تَظَلَّ حَبِيْسةَ المآقي
فانْفَجَرَتْ كماءٍ مُقَدَّسٍ
تَرْوِي تُرْبةً مُشاغِبةً
وتَنْشُرُ عَبَقَهَا
في فَضاءِ زُرْقةٍ خالِدةْ..."
جمالية الومضة تكمن في خروجها عن المألوف، فالدموع تفجرت تروي، وهذه الصورة كافية لأثارة المتلقي وجعله يهيم بكيف تم تركيبها/صياغتها، ولم تقتصر الجمالية على فعل "فانفجرت/تروي" بل تعدها إلى المستفيد من الري/تربة مشاغبة، وهذا يأخذنا إلى تمرد وما يحمله من فرح، وبما أن نتيجة الري جاءت إيجابية "تنشر عبقها في فضاء زرقة خالدة" فقد منحت شعورا بالفرح والبهجة.،

هذا على صعيد الفكرة، أما عن طريقة تقديم الومضة، فنجدها بدأ بالقسوة/الألم: دموع، حبيسة" ثم حالة صراع وتحدي: "فانفجرت لتروي تربة مشاغبة، ثم انتهاء الصراع/الثورة وحصول الفرج/الفرح "تنشر عبقها، زرقة السماء".
واللفات في النتيجة أن الثورة/التمرد لم يقتصر أثره الإيجابي على الأرض فحسب بل امتد ووصل إلى السماء، من هنا جاءت زرقة السماء وهي من المفردات كثيرة الاستخدام في الديوان.

الشاعر الجيد هو الذي يقدم الحزن/الألم بأقل الأضرار على المتلقي، يحدثنا عن الألم في "مرارة الهجران" قائلا:
"عندَما تَعْصِفُ الرِّيْحُ
أَسْمَعُ المَوْتى، وهُمْ في مَساكِنِهم الرَّطْبةِ
الكئيبةْ...
أَسْمَعُهم يُشارِكونَ الأَشْجارَ
الأنينْ,,,
ويَشْكُوْنَ موتاً آخرَ، مَرارةَ الهِجْرانْ ..."
اللافت في هذه الومضة، سماع صوت الأموات مرتين: "أسمع/أسمعهم"، وما ينطقون به أيضا مرتين: "الأنين، يشكون" ونجد أن حالة المفرد متعلق بالأنين: "أسمع/الأنين"، والجمع: :أسمعهم/يشكون" وهذا يأخذنا إلى شيء من الفانتازيا (سماع أصوت الموتى)، ويأخذنا إلى فكرة السوري القديم عن العالم السفلي، وما فيه من ظلمة وطين/رطوبة، ومسألة زيارة الموتى ومعرفتهم/شعورهم بالأحياء الذين يزورنهم أو لا يزورنهم حاضرة أيضا في المعتقدات الدينية على مر العصور، ومسألة (تلبس الأشجار أرواحا بشرية) أيضا لها جذور تراثية، كل هذا يجعل فضاء الومضة متعدد الأقطاب وممتد زمانيا وفكريا، وهذا ما يزيد الألم الكامن في مضمون الومضة وفي ألفاظها القاسية: "الموتى/موتا، الكئيبة، يشكون، الأنين، مرارة، الهجران".

مقابل الألم والسواد هناك أمل بالحياة، فالموت تتبعه حياة أخرى، يحدثنا الشاعر عن هذه الأمل في ومضة: "مطر الزرقة":
" الأرضُ عَطْشى
والعُشْبُ يَقْتاتُ النَّدى
ضَجِرَتِ الأرضُ
من مُلُوْحةِ الدَّمْعِ
وما بَيْنَنا رَمادْ
كمُهْلِ البَراكينِ الطّائِشةْ...
هَلْ تُمْطِرُ السَّماءُ قَلِيْلاً
مِنْ زُرْقتِها
أو يُبْعَثُ نَبِيٌّ مِنْ جَدِيدْ؟!.."

قلنا في المقدمة أن الشاعر يركز على الفراشة والفضاء المفتوح/السماء، اللون الأزرق، في هذه الومضة يمكننا التعرف على طريقة تعامل الشاعر مع الفضاء، الأمل، في مقدمة الومضة نجد حياة (متواضعة) "العشب يقتات الندى" وهذا جعل الأم/الأرض "ضجرت"، فهنا أول خروج على المألوف أنسنة الأرض وضجرها.
فالأرض وحدها (لا تصلح للحياة)، إذا لم يكن لها علاقة بالسماء، بالماء الآتي من أعلى، لهذا نجد الأرض المجردة عن محيطها قدمت بصورة قاسية: "عطشى، ضجرت، ملوحة، الدمع، رماد، البراكين، الطائشة، لكن الخير/الخصب يكمن في السماء: "تمطر، زرقتها، يبعث، نبي، جديد" هذا التكامل/التزاوج بين الأرض والسماء هو الجميل أدبيا، فهو حرر الومضة من حالة القسوة ونقلها إلى حالة الفرح، وأيضا أعطى معنى/فكرة الخصب/الخير القادم من السماء.
ونلاحظ أن خصب/خير السماء لم يقتصر على ما هو مادي فحسب: "تمطر من زرقتها" بل تعداه إلى ما هو روحي/أخلاقي/ديني/جمالي "يبعث نبي" هذا نظر السوري قديما غلى الخير الخصب، فهو خصب مادي يغذي الجسد، وخصب روحي يسمو بالنفس.
الديوان من منشورات دار المتن، بغداد، العراق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/