الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان الجوهرة المفقودة

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 1 / 31
الادب والفن


رواية للفتيان








الجوهرة المفقودة








طلال حسن



شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ السندباد

2 ـ الجارية جوهرة

3 ـ فتاة

4 ـ التاجر حمدان

5 ـ الربان

6 ـ البحارة







البداية
ــــــــــــــــــ
بعد ليلة مفعمة بالعواصف ، والسفن التي تتقاذفها أمواج كالجبال ، والجزر المنثورة كاللؤلؤ وسط البحار ، ، والجواري و .. و .. فتح السندباد عينيه ، وتنفس الصعداء ، إنه في فراشه الوثير ، وضوء الشمس يصله عبر الستائر الشفافة لغرفة نومه في القصر .
واعتدل في فراشه مبتسماً ، حين دخلت عليه جاريته المفضلة ، ذات البشرة البنية ، والعينين البنيتين ، والشعر الحرير الذي بلون الليالي المقمرة ، تحمل في يدها زهرة ، يلمع الندى على بتلاتها الشذية ، وابتسمت له الابتسامة التي يحبها ، وقالت بصوت كالتغريد : طاب صباحك ، يا مولاي .
ومدّ السندباد يده ، وأخذ منها الزهرة الشذية ، وقربها من أنفه ، وقال : أهلاً لؤلؤة .
ونظرت الجارية إليه ، وقد اتسعت ابتسامتها ، وقالت : الفطور جاهز ، يا مولاي .
وراح السندباد يتأملها ملياً ، ثم قال : دعيني أفطر بالنظر إلى عينيك ، ووجهك الصباح ، يا فتاة .

وتراجعت ابتسامة الجارية بعض الشيء ، وقالت في صوت يشوبه القلق : مولاي ، كما تعرف ، ليس اسمي فتاة ، وإنما .. جوهرة .
وغامت عينا السندباد ، وقال والزهرة مازالت في يده : أنتِ الجوهرة فتاة ، آه .. فتاة .
وتلاشت ابتسامة الجارية ، التي يحبها السندباد ، وقالت : مولاي ، لابدّ أنك تعرف جارية ، اسمها فتاة ، ولكن لا أظن أنها بجمالي ، أنا جوهرتك .
ونهض السندباد من فراشه ، ووقف قرب النافذة ، ونظر عبرها إلى البعيد ، الذي لا يحده حدود ، وقال كأنما يحدث نفسه : أنا عرفت .. فتاة .
وتنهدت الجارية جواهر ، وقالت : الحمد لله ، أنك عرفتها ، يا مولاي ، وهذا أفضل من أعرف ، فعرفت ماض ، والماضي ماضي ، كما يقول سيبويه .
ونظر السندباد إليها ، ترى هل يراها أم يرى الماضي ؟ وقال كمن يحدث نفسه : الماضي ليس ماض ، مادام يعيش في أعماقي ، ولا أنساه .
واقتربت الجارية جوهرة منه ، وقالت : لقد حدثتني عن كثيرات من الجواري وغير الجواري ، لكنك ، يا مولاي ، لم تحدثني عن هذه ال .. فتاة .
ولاذ السندباد بالصمت ، وقد رحل بعيداً ، بعيداً جداً ، إلى جزيرة بعيدة وسط البحر ، فمالت الجارية جوهرة عليه ، وقالت : مولاي ..
وأفتق السندباد ، وقال : نعم .
فتابعت الجارية جوهر قائلة : أرجوك ، يا مولاي ، حدثني عن هذه أل .. فتاة .
وابتسم السندباد ، وقد عاد من كلّ أسفاره الماضية البعيدة ونظر إلى جاريته الأثيرة ، وقال : جوهرة ، أظنّ أنكِ قلت ، إن الفطور جاهز .
لكن الجارية جوهرة لم تجاره ، وقالت : مولاي ، أريد أن تحدثني عن .. فتاة .
وحدق السندباد فيها ، وقال : سأحدثك عنها ..
وقالت جوهرة بدلال : الآن .
وهزّ السندباد رأسه ، وقال : الآن ؟ لا ، الحديث عن .. فتاة .. ، يتطلب جواً خاصاً .
وأمالت جواهر رأسها المكلل بشعرها البني الجميل ، وغمزت بإحدى عينيها البنيتين الجميلتين ، وقالت : سأوفر لك هذا الجو .
وتابع السندباد قائلاً بصوت حالم : ربما الليلة ، في الحديقة ، قرب نافورة الماء ، والنجوم ترصع السماء ، ووسطها يضيء القمر ..
وهمت جوهرة أن تتكلم ، لكن السندباد اتجه نحو الباب بخطوات سريعة ، وهو يقول : جوهرة ، إنني جائع ، أريد أن أفطر .
ولحقت به جوهرة ، وقالت : مولاي ..
وفتح السندباد الباب ، وقال : لا تتعجلي ، يا جوهرة ، سيأتي الليل ، مهما طال النهار عليكِ ، وستأتي النجوم والقمر ، وعندها أحدثك عن ..فتاة .
















" 2 "
ــــــــــــــــــ
جاء الليل ، وسرى بهدوء بعيداً عن النهار ، وبدت النجوم في السماء متراصة متغامزة ، وسطع القمر بينها ، مطلاً بنوره الشاحب على الكون .
وفي طرف قصيّ من حديقة القصر ، راحت النافورة توشوش بمائها الصافي كالمرآة ، متجاوبة مع بعض البلابل ، التي راقها أن تغرد بين أغصان الأشجار ، المكللة بالأزهار وندى الليل .
وعلى ضوء القمر ، تحت النجوم ، جلس السندباد قرب النافورة ، وجلست جوهرة قبالته ، وقد أرادت لنفسها ، بتزينها وارتدائها أحلى ملابسها ، أن تسطع أكثر من القمر ، وكيف لا وفي الأفق ، ولو في الماضي ، امرأة يقول السندباد ، أن اسمها .. فتاة ؟
ومالت جوهرة برأسها المكلل بشعر كالحرير ، وقالت بصوت ساحر : مولاي ..
ونظر السندباد إليها ، على ضوء القمر ، وقال لها : لقد وعدتكِ أن أحدثك ، وسأحدثكِ .
وسكت ملياً ، وبدا وكأنه ينصت إلى وشوشة ماء النافورة ، الذي يتدافع إلى الأعلى ، في نور القمر ، الذي يتوسط النجوم في السماء .
وراح سندباد يغيب شيئاً فشيئاً في تلافيف الماضي ، ثم قال بصوت لا يبدو أنه يمت بصلة للحاضر : بعد أن بقيت في قصري ببغداد ، أياماً وأشهراً ، وجوهرة والجواري الأخريات حولي ، عاودني الحنين إلى السفر ، ونسيت أو تناسيت العهد الذي قطعته على نفسي ، بترك السفر ومغرياته ومخاطره ، والبقاء في بغداد الأمان والسلام والمحبة .
انتابني الملل مما حولي ، واستبد بي الحنين للمغامرة والمجهول ، فذهبت إلى البصرة ، وأستقليت سفينة مع بعض التجار ، وذهبنا إلى الصين ، وتنقلنا في مدنها العديدة ، نبيع ونشتري ونجني الأرباح الوفيرة ، وسرعان ما غلبني الحنين إلى بغداد ، وما في بغداد من دعة ومسرات وراحة وأمان ، فقررت السفر من الصين ، والعودة إلى حياتي في بغداد .
واستقليت مع بعض التجار ، سفينة من أفضل السفن ، يقودها ربان متمرس ، وخبير ببحار العالم ، راح يمخر بنا البحار ، في طريق العودة إلى بغداد .
وككل رحلة شاقة من رحلاتي العديدة ، عند العودة وأنا متعب ، ومتشوق للراحة والسلام ، وعدتُ نفسي ، وعداً قاطعاً ، أن تكون هذه الرحلة هي الرحلة الأخيرة ، كفى رحيل وتنقل من بلد إلى بلد ، ومن جزيرة إلى جزيرة ، وسط مخاطر لا تحصى ، لقد آن أن أستقر في عاصمة العالم بغداد ، وأعيش حياتي التي أريدها .
وذات يوم ، ونحن في وسط البحر ، تلبدت السماء بالغيوم ، وبدأت الريح تنشط وتشتدّ ، وكنت مع صاحبي التاجر حمدان على سطح السفينة ، فنظر حوله بشيء من القلق ، وقال : أخي سندباد ..
وشعرت بقلقه ، ومخاوفه المتزايدة ، فأجبته قائلاً بصوت حاولت أن يكون هادئاً : نعم ، يا أخي حمدان .
فتابع حمدان قائلاً : هذه الريح لا تطمئن .
ونظرت إليه ، وقلت له ربما لأطمئن نفسي ، قبل أن أحاول طمأنته : هذه رياح عادية ، ولا أظنها ستشتد ، أو تتحول إلى عاصفة خطرة .
وتلفت حمدان حوله ، وقد تزايد قلقه ، وزاغت عيناه ، وقال : هذه المنطقة من البحر ، من أشد المناطق خطورة ، وهي معروفة بعواصفها الشديدة الهوجاء ، وقد غرقت فيها أكثر من سفينة هذا العام .
وابتسمتُ لصاحبي حمدان ، أنا أعرف أن ابتسامتي مبعثها القلق ، الذي أثاره حديث حمدان والريح التي راحت تشتدّ ، وقلتُ : لا تقلق ، ولا تصغي إلى كلام الآخرين ، ثم إن سفينتنا سفينة جديدة وقوية ، وربانها رجل متمرس ، وقد خبر هذا البحر بالذات ، ومعظم رحلاته كانت في بحر الصين .
ولاذ حمدان بالصمت ، وبدا أن كلامي لم يخفف من قلقه ، فقد استدار ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : إنني متعب ، يا صاحبي ، سأذهب إلى القمرة ، وقد أخرج إلى السطح ، إذا هدأت هذه الريح العاصفة .
لكن التاجر حمدان المسكين ، لم يعرف أنه لن يخرج من قمرته ، إلا ليغوص مع أشلاء السفينة ، وجميع ركابها ، إلى أعماق البحر المظلمة الباردة .
فقد هبت عاصفة مع المساء ، وراحت تهيّج البحر ، وتفجر أمواجه المتصاعدة ، حتى غدت كالجبال ، ومنذ البداية أسرع الربان إلى السطح ، وتولى قيادة السفينة بنفسه ، وصاح بالركاب المتواجدين على السطح : هيا أسرعوا إلى الداخل ، العاصفة تشتد ، والخطر يتزايد .
ولاذ الركاب بداخل المركب ، وكنتُ واحداً منهم ، والعاصفة تضرب السفينة ، والأمواج المتفجرة تهاجمها من جميع الجهات ، وهي تزأر كما تزأر الوحوش الكاسرة ، حين تهاجم فرائسها .
وفي قمرتنا ، التي كانت تتأرجح بعنف مع تأرجح السفينة ، رأيت صاحبي التاجر حمدان ، يُقذف من جهة إلى جهة ، وما أن رآني ، حتى هتف بصوت مرتعب ، كأنه يستنجد بي : سندباد ، أخي ، سنغرق ..
وقبل أن أردّ عليه بشيء ، انكفأ على فراشه ، وتشبث بالسرير ، وهو يتمتم بصوت مرتعش : يا رب ، يا أرحم الراحمين ، نجني من هذا البلاء ، ليس من أجلي ، وإنما من أجل زوجتي الحاجة التقية ، وأولادي ، و .. وإذا نجوت ، ووصلت بغداد سالماً ، سأضحي بأكبر وأسمن كبش ، بل بثور ..
لكن سبق السيف العذل ، ولم تشفع للتاجر حمدان دعواته ، أو وعوده ، فقد تحطمت السفينة بين الأمواج الجبال ، ولم ينجُ من الكارثة ، لا حمدان ، ولا الربان المتمرس ، ولا أي واحد من الركاب ، وقبروا جميعاً في أعماق البحر المظلمة الباردة .
وفي العتمة الصاخبة ، بين الأمواج الهائجة ، كما لو كانت قطيعاً من الثيران المستثارة ، وقعت يداي المستغيثتان على لوح من الخشب ، فتشبثتُ به ، وتطلعت إلى الخلاص ، وإن كنتُ متيقناً أنني سألحق عاجلاً أو آجلاً بصاحبي حمدان .









" 3 "
ـــــــــــــــــ
انتابني شيئاً فشيئاً إحساس ما قبل الإفاقة من النوم ، لم أحس لا بالعاصفة ، ولا بالأمواج ، ولا بالتهاوي إلى الأعماق ، مع الغرقى وأشلاء السفينة .
وشيئاً فشيئاً فتحتُ عينيّ المتعبتين ، خضرة أشبه بالنباتات المتشابكة ، وأصوات طيور مختلفة ، وهدير أمواج البحر ، وهي تتحطم على الصخور .
وأطل عليّ وجه فتيّ ، فيه سمرة ، وعيناها بلون البن ، وابتسمت لي ، يا له من حلم ، أم أنني في الآخرة ؟ وتمتمت متسائلاً : أين أنا ؟
وابتسم لي الوجه ، أهو وجه فتى أم فتاة ؟ ليتكلم الوجه ، وسأعرف ، وجاءني الكلام رقيقاً عذبا ، يذكرني بصوت جارية من جواريّ : أنتَ هنا .
وعرفتُ ، هذا ليس صوت فتى ، إنها فتاة ، وحدقت فيها ملياً ، أتأمل ملامحها الدقيقة ، المرسومة بخطوط وألوان فتان مقتدر ، وتساءلت ثانية : أين هنا ؟
واتسعت ابتسامتها الجميلة ، وجاءني الصوت العذب ثانية : اعتدل قليلاً ، وانظر حولك ، وستعرف بعض الشيء عما أنت في وسطه .
وحاولت أن أعتدل ، لكني لم أستطع ، فمدت إليّ يدين فتيتين عاريتين ، ساعدتاني برفق ، فاعتدلت جالساً ، وتطلعت حولي ، ثم قلت بصوت واهن : يُفترض أنني في أعماق البحر ، مع الغرقى وأشلاء المركب و ..
وجاءني صوتها مرة أخرى ، وهي مازالت تطل عليّ بوجهها الفتي الأسمر ، قائلة : لستَ في أعماق البحر ، أنت حيّ ، لقد أنقذتك .
وصمتت لحظة ، ثمّ قالت : لقد وجدتك على الشاطىء ، وبالقرب منك لوح من الخشب ، لابدّ أنه من خشب السفينة ، التي كنت عليها .
وتراءت لي العاصفة ، والبحر ، وأمواجه الجبال القاتلة ، وتحطم السفينة إلى أشلاء ، وهلاك كلّ من فيها ، وقلت وكأني أحدث نفسي : نعم ، كنت في سفينة ، عائداً من الصين إلى بغداد ، مع بعض التجار ، فضربتنا عاصفة هوجاء ، أثارت أمواجاً كالجبال ، حطمت سفينتنا ، وألقتنا إلى الأعماق .
وسمعت صوتها ، وكأنه آت من حلم بعيد : أنت متعب ، يا سندباد ، الأفضل أن تنام ، وترتح .
ونمتُ ، استغرقت في النوم ، لكن هل ارتحت ؟ آه الراحة لا تأتي هكذا بسهولة ، وأفقتُ من سباتي ، وكأني نمتُ أياماً طويلة ، وفتحت عينيّ ، لا خضرة ، ولا نهار ، ولا الوجه الفتي الأسمر ولا العينان اللتان بلون البن ، وفي الخارج نور شاحب ، وصمت ، أهو الليل ؟
وتحاملت على نفسي ، ونهضت بهدوء ، واتجهت بخطوات مهزوزة بطيئة إلى الخارج ، وتوقفت حين رأيت الفتاة ترقد على حشية قريبة من المدخل ، لابد أنها مستغرقة في نوم عميق ، فواصلت طريقي بهدوء شديد ، كي لا أوقظها من نومها .
وجلست أمام السقيفة ، والقمر يغمر بنوره الشاحب ، الجزيرة الصغيرة ، والبحر الذي يمتد إلى الأفق ، تُرى أحقيقي ما أنا فيه ؟ أم أنني غارق مع أصحابي وأشلاء السفينة ، في أعماق البحر المظلمة الباردة ؟ لكن .. هل الغريق يحلم ؟ من يدري .
وانتبهت إلى الفتاة السمراء ، التي عيناها بلون البن ، تقترب مني ، وتجلس إلى جانبي ، ثم رمقتني بنظرة سريعة ، وقالت : الليل هنا جميل .
والتفتُ إليها ، وحدقت فيها برهة ، وقلت : سألتك أين أنا ، لكني لم تجيبي على سؤالي بشكل واضح .
وابتسمت الفتاة ، وردت عليّ دون أن تلتفت : نحن الآن في الليل ، غداً نهاراً سآخذك في جولة ، وستعرف المكان الذي أنت فيه .
ونظرتُ إليها صامتاً ، ثم قلت لها : أشكركِ لإنقاذي ، أنا تاجر من بغداد ، اسمي سندباد .
وابتسمت الفتاة ابتسامتها الساحرة ، وقالت : أهلاً ومرحباً بك ، سمعت عن بغداد ، يقال أنها مدينة جميلة ، وهي عاصمة الدنيا .
ثم نهضتْ ، وقالت : الأفضل أن تعود إلى فراشك ، يا سندباد ، نحن مازلنا في منصف الليل ، ولك أن تنام وترتاح أكثر ، تصبح على خير .
ونهضتُ بدوري ، وتركت الليل والقمر والجزيرة والبحر ورائي ، ودخلت السقيفة ، وتمددت ثانية في فراشي ، وأغمضت عينيّ ، وقبل أن أستغرق في نوم عميق ، انتبهت إلى أن الفتاة الغريبة ، الغامضة ، لم تقل لي حتى الآن ، ما اسمها .












" 4 "
ــــــــــــــــــــــ
أفقتُ على صوت عرفته من وقت قريب ، كأنه آتٍ من حلم بعيد : سندباد ..
وفتحتُ عينيّ اللتين لم يفارقهما النعاس بعد ، وإذا الفتاة بابتسامتها الساحرة ، وبشرتها السمراء وعينيها اللتان بلون البن ، تطلّ عليّ ، وتقول : طاب ظهرك .
واعتدلتُ مبتسماً ، وقلت لها : أهلاً بالنهار..
ونهضت من فراشي ، وتابعت قائلاً وأنا أبتسم لها : هذه تحية غريبة ، لكنها جميلة ، وإن كنت لم أسمع مثلها من قبل ، لا في بغداد ، ولا في أية مدينة أخرى .
وأشارت إلى سفرة الطعام ، وقالت : تعال ، لابدّ أنك جائع ، طعام الغداء جاهز .
وابتسمتُ ثانية ، وقلت : تقصدين الإفطار .
فردت الفتاة قائلة : نحن في منتصف النهار ، يا سندباد ، والإفطار يكون صباحاً .
وتطلعت عبر مدخل السقيفة ، آه يبدو أن الفتاة على حق ، فالشمس تسطع في الخارج ، والطيور في أوج نشاطها ومناغاتها ، وأشارت الفتاة إلى السفرة ، وقالت : هيا يا سندباد ، قبل أن يبرد الطعام .
وجلست أمام السفرة ، التي توسطتها سمكة تكفي لأكثر من اثنين ، فابتسمتُ للفتاة ، وقلت : ظننت أنني سأتغدى ، كالأيام السابقة بحليب الغزلان .
وردت الفتاة قائلة : لا ، لقد شفيت ، ولن تحتاج إلى الحليب إلا في الإفطار .
وابتسمت ، وقلت : أصارحك ، إن حليب الغزلان لذيذ ، وربما ألذ من حليب الأغنام .
وردت الفتاة مازحة : لا عليكَ ، سآتيك بحليب الغزلان الآن إذا أردت .
ومددت يدي إلى السمكة المشوية ، وقلت ضاحكاً : كلا ، هذه السمكة شهية ، وسآكل منها .
وران الصمت علينا ، أنا وهذه الفتاة الغريبة الغامضة ، ورحنا نأكل السمكة المشوية ، وبعد أن اكتفيت ، قلت للفتاة : سمكة لذيذة جداً ، لم آكل بلذتها من قبل ، رغم أنني أكلت الكثير من السمك المشوي في بغداد .
واتسعت ابتسامة الفتاة ، وقالت : مادامت قد أعجبتك هذه السمكة ، سأشوي لك سمكة كلّ يوم .
وتراجعت متكئاً إلى فراشي ، وقلت لها : لابدّ أنك تشوين الطيور والغزلان أيضاً بنفس الطريقة .
وتوقفت الفتاة عن تناول الطعام ، وقد بدا الكدر على ملامحها ، وقالت بشيء من الحدة : هذه الجزيرة ملاذ آمن للغزلان والطيور ، ولم أسمح لنفسي أن أتعرض لها ، أو أصيد واحداً منها ..
ونهضت من مكاني ، وأنا أقول : لا يجب أن نتركها للوحوش فقط ، إن لحومها لذيذة ومفيدة .
وانكبت الفتاة تلملم بقايا الطعام ، وهي تقول : لا وحوش في هذه الجزيرة الصغيرة ، وليس فيها أحد معي غيرك ، وأنت إنسان .
ولذت بالصمت ، وقد غمرتني الدهشة ، وأخذت الفتاة بقايا الطعام ، ومضت لترميها في مكان ما خارج السقيفة ، وحين عادت ، نظرت إليّ مبتسمة ، وقالت : سندباد ، البارحة وعدتك أن نتجول في هذه الجزيرة ، لنمضِ ونتجول إذا أحببت .
وتملكني الحماس ، فقلت لها : طبعاً أحب ، إنني متشوق إلى التجول في أرجاء الجزيرة ، والتعرف على ما فيها من نباتات وحيوانات وطيور .
وعلى الفور ، قالت الفتاة : هيا إذن ، لنبدأ الآن .
وبدأنا التجول في الجزيرة ، الفتاة تتقدمني ، وهي تتحدث ، وأنا أسير في أعقابها ، أصغي إلى حديثها ، والحقيقة أن الجزيرة ، على صغرها وغموضها ، كانت من أجمل الجزر التي رأيتها في حياتي .
ولاحظت ، وأنا أصغي للفتاة ، وجود الكثير من الأشجار المثمرة ، بعضها ما هو مألوف عندنا ، وبعضها الآخر ، كان مما لم أرَ ما يماثله ، لا في العراق ، ولا في البلدان التي زرتها في رحلاتي العديدة .
ورمقتُ الفتاة بنظرة سريعة ، وقلتُ لها : لديكم أشجار مثمرة كثيرة ، ولابد أن بعضها تحمل ثماراً لذيذة ، ولكن على ما يبدو ليس لديكم أشجار نخيل .
وتمتمت الفتاة متسائلة : نخيل !
أجبتها : نعم ، وهي من أجمل الأشجار في العالم .
وفكرت الفتاة ملياً ، ثمّ قالت : سمعت عن هذه الأشجار ، لكني لم أرها ، ولم أذق ثمارها .
وابتسمت لها ، وتابعت قائلاً : نحن نسمي النخلة ، العمة ، عمتنا النخلة ، لأن كلّ ما فيها مفيد لنا ، ثمارها أفضل وألذّ غذاء عندنا ، وجذعها وسعفها يستخدم في بناء البيوت ، وصناعة مختلف الآثاث المنزلية .
وأشارت الفتاة إلى بعض الأشجار ، التي تتدلى الثمار المختلفة من أغصانها ، وقالت : تذوق هذه الثمار الجميلة ، ولابد أن بعضها غير معروف في بلدك ، وستعرف كم هي لذيذة .
وتناهت من بين أغصان الأشجار ، أصوات طيور مختلفة ، فأنصتُ إليها ملياً ، ثمّ قلتُ وقد تملكتني الدهشة والاستمتاع : آه ما أعذب هذه الأصوات ..
وصمتُ لحظة ، ثمّ استطردت قائلاً : نحن أيضاً لنا طيور كثيرة ومتنوعة ، بعضها للزينة مثل هذه الطيور الجميلة المغردة ، وبعضها الآخر دواجن لإنتاج بيض المائدة واللحوم و ..
وسكتّ حين رأيت الفتاة تهز رأسها ، وتذكرت ما قالته عن الغزلان والطيور ، ونظرت إليّ ، وقالت : نحن هنا لا نمس حتى بيض الطيور ، فهي طيور المستقبل ، ونحن نحترم المستقبل ، ونحرص عليه .
ونظرت إليها ، وقلت : يا للحيرة ، ماذا نأكل هنا إذن ؟
فردت الفتاة قائلة : نأكل ما يجود به البحر ، وتعطيه الأشجار في هذه الجزيرة .
واستأنفتُ سيري ، وقلت وكأني أحدث نفسي : لو بقيت في هذه الجزيرة لمت من الجوع .
وسارت الفتاة في أعقابي ، وهي تقول بصوت هادىء : إنني أفضل أن أموت من الجوع ، على أن آكل أصدقائي الأحياء ، من الغزلان والطيور .









" 5 "
ـــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، وبعد أن تناولنا طعام الإفطار ، نهضت الفتاة من مكانها ، وقالت بصوتها العذب : سأذهب الآن إلى البحر ، وأصطاد لنا سمكة .
ونهضتُ بدوري ، لكني لم أتفوه بكلمة واحدة ، فنظرت الفتاة إليّ ، وقالت : الجو معتدل اليوم ، ليتك تأتي معي ، وتتعلم صيد السمك .
لم أردّ على طلبها ، وإنما خرجت من السقيفة ، ورحت أنظر إلى أشجار الجزيرة ، فلحقت الفتاة بي ، ووقفت إلى جانبي ، وقالت : تعال معي ، واجلس على صخرة من صخور الشاطىء ، إذا كنت متعباً .
فالتفتُ إليها ، وقلت لها : لا أريد أن أذهب اليوم إلى البحر ، سأذهب وأتجول وحدي بين الأشجار ، وأقطف بعض الثمار ، وآكلها .
فقالت الفتاة لي : كما تشاء .
ومضت متجهة نحو البحر ، الذي كان يلمع تحت أشعة الشمس ، وهي تقول : حاول أن لا تتأخر في الغابة ، أريد أن نتغدى معاً .
لم أرد عليها بشيء ، ورحت أتابعها بعينيّ الحائرتين ، وهي تنحدر بخفة أنثى الوعل نحو البحر ، حتى اختفت تماماً بين الصخور ، المطلة على الشاطىء .
واستدرت عن البحر ، ومضيت نحو الغابة ، ورحت أتجول بين أشجارها ، أتذوق ثمرة من هذه الشجرة ، وثمرة من شجرة أخرى وأخرى ، مما لا يوجد ما يماثلها ، لا في بلدنا ، ولا في البلدان الأخرى ، التي زرتها في رحلاتي العديدة .
وخلال تجولي بين أشجار الغابة ، وتمتعي بتناول مختلف الثمار ، صادفت أكثر من غزال ، لكنها جميعاً كانت تحدق فيّ من بعيد ، ثم تتسلل بين الأشجار ، وتختفي عن أنظاري .
وخفق قلبي حين برزت من بين الأشجار ، غزالة فتية ومعها خشف جميل للغاية ، وتذكرت أنني رأيت نفس الغزالة في المنام ليلة البارحة ، ولمحت الخوف في عينيها ، إذ رأتني من بعيد ، فدفعت خشفها خائفة على عجل ، وعادت بسرعة من حيث أتت .
وحوالي منتصف النهار ، توقفت مذهولاً وأنا أتشمم ، هذه الرائحة الشهية ، سبق لي وأن شممتها مراراً ، في قصري ببغداد ، وفي أطراف البادية ، إنها رائحة شواء ، نعم رائحة غزال يُشوى .
وبدون تردد ، رحت أتتبع مصدر الرائحة ، وأنا متأكد أن حاسة شمي لا تخدعني ، لكن الفتاة تقول ، أن هذه الجزيرة الصغيرة غير مأهولة ، ثم إن قتل الغزال ، وشيه على النار ، جريمة لا تغتفر .
وتوقفتُ مذهولاً ، حين وقعت عيناي المتسعتين ، في فسحة بين الأشجار ، على رجل في عمري ، بل وفيه ملامح مني ، يشوي غزالاً على سفود .
أهذا يُعقل ؟
ويبدو أن الرجل شعر بوجودي ، فقد توقف عن تحريك السفود فوق النار ، ورفع رأسه إليّ ، وابتسم ابتسامة غريبة ، ثم خاطبني قائلاً : طاب يومك .
وأجبته مرتبكاً : طاب يومك .
وأشار الرجل لي ، وهو يقول : تعال ، اقترب .
وبدون إرادة مني ، وعلى شيء من التردد والخوف ، اقتربت منه ، وتوقفت على بعد ، وقلت له : شممتُ رائحة شواء ، لكني لم أصدق حاسة شمي .
وقهقه الرجل بصوت خافت غريب ، وقال : صدق ، يا صاحبي ، إن حاسة الشم لا تكذب .
وقطع بمديته الحادة ، قطعة من لحم الغزال ، وراح يأكلها بتلذذ ، وهو يتطلع إليّ بعينيه الغريبتين ، وقال : لقد نضج الغزال ، آه ما ألذه .
ثم قطع قطعة أخرى ، وقدمها لي بيد ملوثة بالدم ، وقال ، وابتسامته الغريبة تسيل فوق شفتيه : تفضل ، تذوقها ، أنت تحب لحم الغزال .
ونظرتُ إلى قطعة اللحم ، المحمرة الشهية اللذيذة ، التي تفوح منها رائحة كأنما العنبر ، وتمنيت بيني وبين نفسي ، أن أمدّ يدي ، وآخذها منه ، وألتهمها ، فلا ألذّ عندي من لحم الغزال المشوي .
وتابع الرجل قائلاً ، ويده ممدودة إليّ بقطعة اللحم المشوية : مدّ يدك ، يا رجل ، كن شجاعاً ، فأنا أعرف أنك مثلي ، تحب هذا النوع من اللحم .
لكني ، رغم كلّ شيء ، لم أمدّ يدي ، ولم آخذ قطعة اللحم المشوية ، بل تراجعت إلى الوراء ، والرجل يحدق فيّ بعينيه الشرهتين ، ثم التهم قطعة اللحم ، وراح يمزق بمديته الحادة جسد الغزال ، ويفترس ما يمزقه من الغزال ، وهو يضحك بشكل هستيري .
واستدرت بسرعة ، وقد داخلني شعور بالخوف ، فقد بدا لي الرجل ، في لحظة ما ، أنه ذئب مسعور ، يفترس غزالاً حياً ، وأسرعت عائداً من حيث أتيت .
وقبل أن أصل إلى السقيفة ، شممتّ رائحة شواء ، وانقبض قلبي في صدري ، أهو غزال يُشوى على النار ، آه يا للجنون ، إن الفتاة ترى ، أن قتل الغزال ، وأكله ، من أعمال الوحوش .
ودخلتُ السقيفة ، وإذا الفتاة تعد السفرة ، ويبدو أنها أحست بوجودي ، فالتفتت إليّ مبتسمة ، وقالت : جئت في الوقت المناسب ، إن الطعام سيجهز قريباً .
وحدقت فيها ، وربما قلت بشيء من الحدة ، دون تعمد مني : ماذا تشوين ؟
فاتسعت ابتسامتها الفرحة ، والتمعت عيناها البنيتان الجميلتان ، وقالت بصوتها الهادىء : أشوي سمكة لنتغدى بها ، اصطدتها اليوم من البحر .
ولذت بالصمت ، وقد اعتراني شيء من التردد والخجل وانطفأت ابتسامة الفتاة ، واقتربت مني ، وحدقت فيّ بعينين غريبتين ، وقالت : أخشى أن تكون قد رأيت شيئاً في الغابة أثار ريبتك وانزعاجك .
هربتُ بعيني الحائرتين منها ، ولم أردّ عليها بشيء ، فتساءلت قائلة : ما الأمر ؟
فأجبتها : لا شيء .
ثم جلستُ إلى السفرة ، مغالباً عواطفي الجياشة ، دون أن أنظر إليها وقلتُ ك : إنني جائع ، هاتي السمكة ، إذا كانت قد نضجت .
فاستدارت الفتاة على عجل ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : سآتي بها حالاً .



" 6 "
ــــــــــــــــــــ
أفقتُ في ساعة متأخرة من الليل ، وقد غمرني الخوف والعرق ، والحقيقة أن نومي كان مضطرباً ، عانيت فيه من كابوس كان يتكرر ، ويتكرر ، ويتكرر .
وفي هذا الكابوس الخانق ، كنتُ أراني أطارد غزالة فتية ، وقد تملكها الخوف ، تدفع أمامها خشفها ، وأنا أطاردهما والسكين في يدي .
ولكي أتخلص من هذا الكابوس ، الذي يفاجئوني كلما أغفيت ، نهضت من فراشي ، وجلست خارج السقيفة ، تحت ضوء القمر ، أتنفس بعمق محاولاً أن أستعيد توازني ، وأفيق إلى نفسي .
وجاءت الفتاة ، وجلست صامتة إلى جانبي ، فرمقتها بنظرة سريعة ، وقلت لها : أراك أفقتِ من النوم ، كما في الليلة السابقة ، نحن في منتصف الليل .
فنظرت إليّ بعينيها الجميلتين ، وقالت بصوتها الهادىء : لا أستطيع أن أنام ، وأنت أرق .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لقد تجولتَ اليوم ، ساعات عديدة في أرجاء الجزيرة .
وصمتّ ملياً ، دون أن أنظر إليها ، ثم قلتُ : هذه الجزيرة ساحرة ، وجميلة جداً ، وغنية بالمياه العذبة ، والأشجار المثمرة ، والطيور والغزلان ، و ..
وصمتّ أنتظر تعليقاً منها ، لكنها آثرت الصمت ، فتابعت قائلاً : البحر ، كما قلتِ لي مرة ، يلقي بين فترة وأخرى ، أشلاء السفن الغارقة ، وجثث بحارة ومسافرين و .. ، لابد أنه ، وربما هذا أمر نادر ، ألقى إنساناً حياً ، على الرمق الأخير ..
ونظرت الفتاة إليّ ، وقد التمعت عيناها ، وقالت : هذه هدايا الثمينة نادرة جداً ، وأنت الهدية الوحيدة ، التي رماها البحر لي حتى الآن .
ورمقتها بنظرة سريعة ، ربما لكي لا تقرأ ما قد يظهر في عينيّ مما رأيته في الجزيرة ، وقلتُ : لعل البحر ألقى حياً غيري ، وتسلل إلى أعماق الجزيرة .
وردت الفتاة مبتسمة : هذا ما أتمناه ، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن ، ولو وصل إنسان حيّ ، بأية طريقة من الطرق ، لكنتُ رأيته ، فالجزيرة صغيرة جداً .
ولذت بالصمت فترة ليست قصيرة ، ثم قلت كما لو كنت أحدث نفسي : لا أدري ماذا أقول ، مهما يكن ، لن أتجول وحدي في هذه الغابة مرة أخرى .
والتفتت الفتاة إليّ ، وعلى شفتيها ، وفي عينيها الجميلتين ، ابتسامة غريبة ، ثم قالت : لا عليك ، غداً سأذهب لصيد السك من البحر ، تعال معي .
ونهضتُ من مكاني ، ثم قلت : نعم ، سآتي للبحر معك ، أنا لا أريد أن أبقى وحدي .
ونهضت الفتاة بدورها ، وقالت : لن أدعك وحدك ، سآخذك إلى البحر ، وأعلمك صيد السمك .
ثم سارت متجهة نحو فراشها ، وهي تقول : تصبح على خير ، يا سندباد .
وأجبتها : تصبحين على خير .
وأويتُ أنا الآخر إلى فراشي ، وتمددت فيه ، وحاولت أن لا أغمض عينيّ ، خشية أن أنام ، فيفاجئني الكابوس مرة أخرى ، وأرى الغزالة وخشفها ، وأنا أركض لاهثاً وراءهما ، والسكين في يدي ، حتى أتهاوى من التعب والرعب ، لكني رغم ذلك ، غلبني النعاس ، وسرعان ما غرقت في نوم عميق .
وأيقظتني الفتاة صباح اليوم التالي ، بابتسامتها الندية ، وصوتها الهادىء ، قائلة : سندباد ، طعام الفطور جاهز ، سنذهب اليوم إلى البحر .
وبعد أن انتهينا من تناول طعام الإفطار ، وكان بينه ثمار طازجة لذيذة ، وحليب غزلان ، هبت الفتاة ناهضة ، وهي تهتف : هيا البحر ينادينا .
واتجهتْ إلى خارج السقيفة ، فنهضتُ بدوري ، ولحقت بها ، وانحدرنا معاً نحو شاطىء البحر ، ونحن نتبادل الحديث ، وإن كانت الفتاة هي التي تتحدث وتضحك ، وكنت أنا أصغي .
ولاحظت ، ونحن ذاهبان للصيد السمك ، أن الفتاة لا تحمل سنارة ، ولا شبكة ، ولا حربة ، ولا أية أداة من أدوات صيد السمك ، وحين اقتربنا من الصخور المطلة على الشاطىء ، قالت الفتاة : البارحة حدثتك عما يلقيه البحرة ، من أشلاء السفن والغرقى ، لكن فاتني أن أحدثك ، عن الرجال الوحوش الذين يأتون بقوارب صغيرة سريعة ، وهم من أكلة لحوم البشر .
وتوقفت مرتعباً ، وقد تراءى لي هؤلاء الرجال الوحوش ، بقواربهم الصغيرة السريعة ، وحرابهم القاتلة ، يندفعون عل الشاطىء ، و .. ويفترسوننا .
وتوقفت الفتاة عند الشاطىء الرملي ، ونظرت إليّ ، وقد بدت الدهشة في عينيها الجميلتين ، وقالت : لا تقلق ، يا سندباد ، هؤلاء الوحوش نادراً ما يأتون إلى الجزيرة ، وحتى عندما يأتون ، لا يتوغلون فيها ، ويبقون قليلاً على الشاطىء ، ثم يعودون من حيث أتوا .
وبقيت في مكاني صامتاً ، فاستأنفت الفتاة سيرها ، متجهة نحو البحر ، وهي تقول : تعال ، وانظر كيف أصطاد السمك ، لعلك تتعلم الصيد .
لكني بقيت في مكاني ، فوق صخور الشاطىء ، ولم ألحق بها ، ولو أنني كنت متشوقاً لمعرفة كيف تصطاد السمك ، دون أية أداة من أدواة الصيد .
وجلست على صخرة تطل على الشاطىء الرملي ، دون أن أجرؤ على اللحاق بالفتاة ، والاقتراب من البحر ، وحتى بيني وبين نفس ، لا أريد أن أعترف ، أنني في أعماقي ، كنت أخاف الوحوش ، آكلو لحوم البشر .
















" 7 "
ـــــــــــــــــــ
منذ الصباح الباكر ، خرجنا من السقيفة ، بعد أن تناولنا طعام الإفطار ، وانحدرت أنا والفتاة نحو البحر ، الذي كان يمتد منتشياً ، تحت أشعة الشمس .
وعلى العكس مني ، راحت الفتاة تتقافز بخفة ورشاقة من صخرة إلى صخرة ، وأنا أسير وراءها متوجساً متعثراً ، بل وخائفاً ، وكأن وراء كل صخرة من الصخور ، يكمن وحش من آكلي لحوم البشر .
وبين فترة وأخرى ، كنت أتوقف عن السير ، وأتلفت حولي ، وعيناي تدوران في المكان ، حتى أن الفتاة التفتت إليّ مرة ، وهتفت بي : ما الأمر ، يا سندباد ؟ أخشى أنك متعب بعض الشيء .
واستأنفت سيري ، محاولاً اللحاق بها ، وأنا أقول : لستُ متعباً ، ربما لم أنم جيداً ليلة البارحة .
ورمقتني بنظرة سريعة ، وقالت دون أن تتوقف : عد إلى السقيفة إذا أردت ، وارتح حتى أعود .
وواصلت سيري في أثرها ، ولكن ببطء متزايد ، وأنا أقول ، ربما على العكس مما أريد : لا ، لست متعاً ، لنذهب إلى البحر ، ونصطد السمك .
وتوقفتُ ، وقلبي يخفق بشدة متزايدة ، وعيناي تركضان لاهثتين بين الصخور ، إذ خيل إليّ ، أنني أسمع ضجيجاً غريباً متوحشاً ، يصدر من أماكن مختلفة ، لم أستطع أن أحددها ، وكدت أصرخ طالباً النجدة من الفتاة ، لكني تماسكت ، وكتمت صرختي .
وانحدرت الفتاة نحو الصخور ، وهتفت بي : سأسبقك إلى الشاطىء ، الحق بي ، يا سندباد ، وأجلس على الرمال ، قرب ماء البحر ، وسترتاح .
لكني لم ألحق بها ، وبقيتُ متسمراً في مكاني ، وفجأة .. وكما في كابوس خانق ، اندفع من وراء الصخور ، عدد من الرجال ، شبه عراة ، والحراب في أيديهم ، وانقضوا بسرعة البرق على الفتاة ، وهم يطلقون صيحات وحشية ، وأمسكوا بها ، وهي تتلوى وتصرخ .
صُعقت ، وأصابني ما يشبه الشلل ، ما العمل ؟
هل أترك الفتاة لهم ؟
سيأخذونها ، ويفترسونها ، إنهم وحوش من آكلي لحوم البشر ، عليّ أن أنقذها ، لكن كيف ؟ إنهم وحوش ، سيأخذوني معها ، ويفترسونني ..
وانطلقوا بالفتاة نحو قواربهم الصغيرة السريعة ، التي جاءوا بها إلى الجزيرة ، دون أن يلتفتوا إليّ ، وكأنهم لا يرونني ، رغم أنني لم أكن كثير البعد عنهم .
وقررت أن ألحق بهم ، وأحاول إنقاذ الفتاة من بين براثنهم ، مهما كان الثمن ، لكني وجدتني مسمراً في مكاني ، لا أقوى على الحركة ، وأنا أراهم يبتعدون بقواربهم ، والفتاة بينهم تصرخ وتستغيث ، دون أن أسمع صوتها ، حتى غابوا .
ووقفت في مكاني ، بين الصخور القريبة من الشاطىء ، وقد لفني صمت شامل ، لا صوت يصدر من البحر ، ولا من الأشجار ، ولا من الطيور ، وتناهى إليّ صوتها ، آتٍ من بعيد ، تهتف : سندباد .. سندباد .
وفتحت عينيّ ، أين البحر ، والشاطىء ، والصخور ، والأشجار ، و .. وجاءني صوت الفتاة هادئاً فرحاً : انهض ، يا سندباد ، الغداء جاهز .
واعتدلت في الفراش ، وقلبي مازال يخفق بشدة ، لقد أخذها الرجال المتوحشون ، آكلو لحوم البشر ، أمام عينيّ الغاضبتين المرعوبتين ، وابتعدوا بها بقواربهم الصغيرة السريعة ، حتى غابوا في البحر ، وجاءني صوتها ثنية : سيبرد الطعام ، يا سندباد .
ونظرت إليها متمتماً : فتاة !
وضحكت فتاة ، وقالت : عندما أفقت صباحاً ، رأيتك مستغرقاً في نوم عميق ، فتركتك نائماً ، وذهبت وحدي إلى البحر ، واصطدتُ سمكة ستعجبك .
وتحاملتُ على نفسي ، وكأني عائد من معركة صعبة ، وجلست إلى السفرة ، وجلست فتاة قبالتي ، ورحنا نتناول الطعام ، وفتاة تثرثر ، دون أن أصغي إليها ، أو أفهم من ثرثرتها أي شيء .
ورمقتها بنظرة خاطفة متوجسة ، وقلت لها متردداً : أرجو أن لا يكون قد ضايقك أحد ، على الشاطىء هذا الصباح ، وأنت تصيدين السمك .
وضحكت فتاة ، دون أن تتوقف عن تناول الطعام ، وقالت بصوت مرح : في الحقيقة ، حاولت سلحفاة عجوز أن تخيفني ، لكن دون جدوى .
تساءلت متمتماً : سلحفاة !
وتابعت فتاة قائلة ، وهي تضحك : قالت لي ، حذارِ ، يا فتاة ، حذارِ ، حذارِ .
وتوقفت فتاة لحظة ، ثم تابعت قائلة : الرجال المتوحشون ، آكلو لحوم البشر ، سيأتون بقواربهم الصغيرة السريعة ..
وتمتمت ثانية متسائلاً : الرجال المتوحشون !
ومرة أخرى تابعت فتاة قائلة : أردت أن أردّ لها الصاع صاعين ، فقلتُ لها ، الرجال المتوحشون لا يأكلون البشر فقط ، وإنما يأكلون السلاحف أيضاً ، وخاصة السلاحف الطاعنة في السن ، وعلى الفور ، أسرعت السلحفاة العجوز ، بأسرع ما تستطيع ، وغاصت في أعماق البحر المظلمة الباردة .
وتوقفتُ عن تناول الطعام ، وتراجعت زاحفاً إلى الوراء ، فنظرت فتاة إليّ بعينيها الجميلتين ، وقد ازداد غموضهما ، وقالت : لم تأكل شيئاً .
فقلت لها ، دون أن أنظر إليها : شبعت .
واستمرت هي في تناول الطعام ، وهي تقول بصوت هادىء : ماء البحر منعش الآن ، لنذهب بعد الغداء ، ونستحم قريباً من الشاطىء .
ونظرتُ عبر مدخل السقيفة إلى البحر ، وكانت مياهه هادئة مسالمة تسطع تحت أشعة الشمس ، وقلت لها : كلا ، لا أريد أن أذهب إلى البحر .










" 8 "
ـــــــــــــــــــ
على العكس من الأيام السابقة ، أفقت اليوم قبل الفتاة ، والشمس قد استيقظت للتو ، وحين فتحت الفتاة عينيها الجميلتين ، بادرتها قائلاً : طاب صباحكِ .
وأشرقت بوجهها الأسمر ، والتمعت عيناها اللتان بلون البن ، وأضاءت ابتسامتها الغامضة ، وقالت : طاب صباحك ، لقد سبقتني اليوم ، وهذا فأل حسن .
واعتدلتُ في فراشي ، وقلت لها : أريد أن أفطر اليوم بحليب غزالة لذيذ .
ونهضت الفتاة بنشاطها المعهود ، واتجهت إلى الخارج ، وهي تقول : حليب غزالة ، وفواكه طازجة .
فابتسمت لها ، وهتفت قائلاً : الفواكه أريد أن آكلها من الأشجار مباشرة .
وتباطأت عند المدخل ، وقالت : حسناً ، سنذهب إلى الغابة ، وبعدها أريد أن تأتي معي إلى البحر .
فقلتُ لها : يومنا هذا سيكون حافلاً ، الغابة ثم البحر ، ليكن .. فلنبدأ .
وبدأنا جولتنا في الغابة ، بعد الإفطار مباشرة ، وأخذتني الفتاة إلى مناطق ، لم أصلها في الجولة السابقة ، ورأينا أشجاراً جديدة ، تذوقت ثمار معظمها ، وكانت في الحقيقة ، ذات مذاق مدهش ، لكن ما كان يشغلني طول الوقت ، ذلك الرجل الغريب ، الذي رأيته البارحة ، يشوي الغزال على النار .
وخلال جولتنا بين الأشجار ، صادفنا العديد من الغزلان ، لكنها كانت تتحاشاني ، وتنظر بتودد إلى الفتاة ، ثم تنسل مبتعدة ، هي وخشوفها .
وتباطأت في سيري حتى توقفت ، فقد تناهت إلى حاسة شمي ، نفس الرائحة التي شممتها البارحة ، والتي عرفت أن مصدرها ، كان الغزال الذي كان يشويه على النار، ذلك الرجل الغريب .
ويبدو أن الفتاة انتبهت إلى حالتي ، لكنها لم تظهر ذلك ، وتوقفت بعد حين ، ثمّ التفتت إليّ ، وقالت : لابدّ أنك تعبت ، يا سندباد .
فأجبتها وأنا مشغول بالرائحة الغريبة ، وأجبتها قائلاً : لا ، لم أتعب بعد .
وسكت برهة ، ثم قلت : ألا تشمين رائحة غريبة ؟
أجابتني مبتسمة : نعم .
فسألتها : ماذا تشمين ؟
فأجابت قائلة : أشمّ رائحة الأزهار .
فقلت لها : لكن هناك رائحة ، تشبه رائحة شيء تلمسه ألسنة النار ، فيحترق .
وسكتت لحظة ، تشممت خلالها ما حولها ، ثم قالت : ربما هذه رائحة نباتات ، تبدو واضحة ، عندما تشتد حرارة الشمس في السماء .
وقلتُ لها متردداً : خيل إليّ أنها رائحة شواء .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : الحواس تخدعنا أحياناً ، وتوهمنا بأشياء لا وجود لها .
واستدارت ، وهي تقول : لا أريد أن تتعب أكثر ، لنعد إلى السقيفة .
وقفلنا عائدين إلى السقيفة ، وطوال الطريق ، لم تتفوه الفتاة بكلمة واحدة ، ومن جهتي التزمت الصمت ، وإن كانت رائحة الشواء تطاردني حيثما مشيت .
وبعد الغداء ، نظرت الفتاة إليّ، وقالت : آن الأوان ، لقد تجولنا في أرجاء الغابة ، لنذهب ألآن إلى البحر ، إذا لم تكن متعباً ، يا سندباد .
فنهضت من مكاني ، وقلبي منقبض ، وقلت لها : لستُ متعباً ، خذيني إلى البحر .
ومضت الفتاة تسير ، منحدرة نحو شاطىء البحر ، وتعمدتُ أن أسير على مقربة منها ، وكأني ألوذ بها من قوة مجهولة غريبة ، ورمقتها بنظرة سريعة مترددة ، وقلت : هؤلاء الرجال المتوحشون ..
وتباطأت الفتاة قليلاً ، وقالت دون أن تلتفت إليّ : أرجوك ، لا تشغل نفسك بهم ، إنهم رجال تافهون ، متخلفون ، لا يستحقون اهتمامك .
لم أصغِ إلى الفتاة ، وتابعتُ قائلاً : يبدو أن هؤلاء المتوحشون ، يأتون من جزر قريبة .
وواصلت الفتاة سيرها نحو الشاطىء ، وردت قائلة : لا أظنّ ، يا سندباد ، ثم أنه لا يوجد ما يجذبهم إلى هذه الجزيرة الصغيرة .
ونظرتُ إليها ، وقلتُ : إنني في الحقيقة ، أخاف عليكِ منهم ، إنهم رجال متوحشون .
وقفزت الفتاة إلى الشاطىء الرملي ، وهي تقول : اطمئن ، يا سندباد ، لن يصلوا إليّ ، مهما كانت الظروف ، ولن أدع أحداً يأخذك مني ، أنت ابن هذه الجزيرة .
وهبطت أنا الآخر إلى الشاطىء ، ومشينا جنباً إلى جنب على الرمال ، كانت أمواج البحر عالية بعض الشيء الآن ، وراحت ترتطم بالشاطىء ، وتتكسر بصوت صاخب على الصخور ، ورمقت الفتاة بنظرة سريعة ، وقلت : لو كان البحر هادئاً ، لسبحنا في البحر .
ونظرت الفتاة إليّ ، وقالت : غداً ربما تهدأ الريح ، ويهدأ معها البحر ، سنأتي ونسبح معاً .
وتوقفت الفتاة ، والريح تثير أمواج البحر ، ونظرت إلى البعيد ، وتوقفت بدوري ، ونظرت إلى حيث تنظر ، لكني لم أرَ غير الماء والسماء وبضعة غيمات ، وتلفت حولي ، وقلت لها حائراً : يبدو أن الحديث عن الرجال المتوحشين قد أقلقك بعض الشيء .
وأشارت الفتاة إلى الغيمات ، المتعلقة في أقصى الأفق ، وقالت بشيء من الخوف ، وهي تسير مبتعدة عن الشاطىء الرملي : كلا ، هناك شيء غامض في الأفق ، هذا ما يخيفني ، لنبتعد عن هذا المكان .
وتلفتّ حولي مرة أخرى ، لا وجود لأي شيء ينذر بالخطر ، لكني مع ذلك ، أسرعت في أثرها ، ومضينا عائدين إلى السقيفة .













" 9 "
ــــــــــــــــــ
نمتُ مبكراً هذا اليوم ، لا أدري لماذا ، لكن نومي لم يكن مريحاً ، وانقضّت عليّ في منامي ، رياح عاصفة ، وسفينة شراعية تتقاذفها أمواج كجبال ضربها زلزال قوي ، فتحولها إلى أشلاء ، سرعان ما تبتلعها أعماق البحر ، مع الغرقى من الركاب والبحارة .
وأفقتُ مرات ، ومرات عدت إلى النوم ، وفي كلّ مرة ، تنقضّ عليّ نفس العاصفة والأمواج والسفينة والغرقى وأعماق البحر ، ويضاف إليها في بعض الأحيان ، رجال كالوحوش الكاسرة ، لهم أنياب كأنياب الذئاب المتعطشة للدماء ، يطاردونني من مكان إلى مكان ، ولا أتخلص منهم إلا بالهرب من النوم ، والتشبث بأذيال الاستيقاظ من الحلم الكابوس .
وحوالي منتصف الليل ، استيقظت وقلبي يخفق رعباً ، والعرق يغطي وجهي الهارب ، وتنفست بعمق متلفتاً حولي ، لعلي أتمالك نفسي ، الصمت والهدوء في كلّ مكان ، والقمر يتمشى في السماء المرصعة بالنجوم ، و .. وفي مدخل السقيفة ، تحت ضوء القمر ، تجلس الفتاة جامدة ، لا تريم ، وقد أولتني ظهرها .
عجباً ، ما الذي أيقظها في هذا الوقت من الليل ؟ لعله حلم مما يراودني من أحلام ، أو لعلها تذكرت وطنها الأول ، و .. من يدري ، إنها فتاة .
ونهضت من فراشي بهدوء ، واقتربت منها ، دون أن تحس بي على ما يبدو ، لكني عندما جلست إلى جانبها ، قالت دون أن تلتفت لي : سندباد .
أجبتها : نعم ، سندباد .
وحدقتُ فيها ، وقلت : ليتني أعرف بما اسميكِ .
وحدقت فيّ مطولاً ، وكالعادة تجاهلت ما أريده ، وقالت بصوتها الهادىء : كلما أنظر إليك ، يا سندباد ، يخالجني شعور ، أرجو أن لا يكون صحيحاً ، بأنك غير سعيد بوجودك في هذه الجزيرة .
ورمقتها بنظرة سريعة ، ثم أبعدت عينيّ عنها ، ونظرت مطولاً إلى الآفاق البعيدة ، المظلمة رغم نور القمر ، وقلت لها : لولاكِ لجننت أو متّ .
ومدت الفتاة يدها ، وربتت برفق على يدي ، وقالت : سندباد ، أنا معك دائماً .
وصمتت برهة ، ثم نظرت إليّ ، وعلى شفتيها ابتسامة في شحوب ضوء القمر ، وقالت : لعلي أحسّ ما تعانيه ، يا سندباد ، أنت تفتقد جنتك بغداد .
وهززتُ رأسي موافقاً ، ثم نظرت إليها ، وقلبي يشفّ في صدري ، وقلت : فتاة ..
أجابت : نعم .
فتابعت قائلاً بما يشبه الرجاء : لابدّ أن أخرج يوماً ما من هذه الجزيرة ، وأعود إلى بغداد ..
وصمتُ لحظة ، ولاذت هي بالصمت ، ولم تتفوه بكلمة واحدة ، وإن قالت عيناها الكثير مما أرادت أن تقوله ، فملت عليها ، وهمست لها : تعالي معي .
فقالت : إنني معك ، يا سندباد .
قلت لها ثانية ، لعلي أصل إلى حقيقة موقفها : تعالي معي إلى بغداد .
وابتسمت ثانية ابتسامتها ، التي في شحوب ضوء القمر ، وقالت : إنني معك ، فأنا جزء منكَ .
لا فائدة ، لن تقولها بكلمة صريحة ، كما لم تقل اسمها الحقيقي ، لكن مهما يكن ، فالأمل موجود ، ولن أدع قبسه يخفت ، مهما كان الأمر .
ونهضت الفتاة ، وقالت بصوت لا أثر فيه للنعاس : الوقت متأخر ، يا سندباد ، سأذهب إلى فراشي ، لعلي أنام ، تصبح على خير .
ودون أن ألتفت إليها ، هتفتُ بها : لن أعود إلى بغداد ، إلا وأنتِ معي .
لم تتوقف ، ولم تلتفت إليّ ، وقالت بصوتها الهادىء : غداً نذهب إلى البحر ، ونسبح معاً .
ولذت بالصمت ، ثم تمتمت بصوت خافت ، لا يكاد يُسمع ، وكأني أتمتم لنفسي : تصبحين على خير .
ولبثتُ جالساً وحدي ، تحت ضوء القمر ، وقد تلبدت مشاعري ، إنها لم تردّ عليّ صراحة ، ربما ليس لأنها لا تريد أن تترك هذا المكان ، وتأتي معي إلى بغداد ، وإنما لأنها تعرف أن من المستحيل مغادرة هذه الجزيرة ، الضائعة وسط البحر .
وعلى ضوء القمر الشاحب ، نظرت إلى الآفاق المغرقة في البعد ، ولاح لي في الأفق ، عند التقاء البحر بالسماء ، ما يشبه السفينة الشراعية ، أهو سراب ، أم غيمة عابرة ؟ آه من خيالات الليل وأوهامه .
وتحاملتُ على نفسي ، ونهضت بصعوبة ، ثم مضيتُ إلى فراشي ، ورمقت الفتاة بنظرة سريعة ، وهي متمددة في فراشها ، وقد أغمضت عينيها ، وداخلني شعور بأنها لم تنم ، ولن تنام ، مهما حاولت ، وواصلت السير إلى فراشي ، الذي ينتظرني بفارغ الصبر ، ويتوعدني بكوابيسه ، التي لا تنتهي .
وتوقفت جامداً ، محدقاً في فراشي ، وقلبي يخفق ، ثم تمددت فيه ، ليكن ما يكون ، إنني بحاجة إلى النوم ، وسأنام ، مهما كلفني الأمر .
وأغمضتُ عينيّ المتعبتين ، ودعيت النوم أن يجيء ، يجيء برفق ، ولا يتأخر ، وجاء النوم ، وقد كان رحيماً بي ، فقد استبدل كوابيسه المليئة بالعواصف ، والأمواج ، وأشلاء السفينة ، والغرقى ، وأعماق البحر المظلمة الباردة ، بحلم أشبه بأحلام اليقظة ، ابتداء بما خيل لي أنني شاهدته في الآفاق البعيدة ، عند التقاء البحر بالسماء ، وإذا ما ظننته غيمة عابرة ، كان سفينة شراعية كبيرة ، راحت تقترب .. وتقترب .. من الجزيرة .

















" 10 "
ــــــــــــــــــــ
أفقتُ في اليوم التالي ، والشمس تغمر المكان خارج السقيفة ، بأشعتها الدافئة المرحة ، إنه الضحى إذن ، ترى لماذا تركتني الفتاة نائماً حتى الآن ، ولم توقظني كما تفعل معي كلّ يوم ؟
وهممتُ أن أناديها ، لكني توقفتُ مذهولاً ، حين تناهت إليّ ، ربما من شاطىء البحر ، أصوت أشبه ما تكون بالأصوات البشرية ، أهي حاسة السمع ، التي تخدعني هذه المرة ، أم .. ؟ فلأتأكد ، لعلها أصوات بشر بحق ، والويل لي إذا كانت أصوات الرجال المتوحشين ، آكلي اللحوم البشرية .
ونهضت من فراشي ، وأسرعت إلى خارج السقيفة ، وطارت عيناي نحو البحر ، الذي كانت مياهه الزرقاء تسطع تحت أشعة الشمس ، وخفق قلبي بشدة ، يا للفرح ، إنها سفينة شراعية ، تقف بعيداً بعض الشيء عن الشاطىء ، أهذه حقيقة أم .. ؟ لعل عينيّ ..
وأسرعت أتقافز متخفياً خلف الصخور ، حتى وصلت صخرة كبيرة ، تطل على الشاطىء ، فكمنت وراءها ، ورحت أراقب السفينة عن كثب .
وعلى مقربة من الشاطىء الرملي ، في مياه البحر الضحلة ، رأيت ثلاثة قوارب ، ينشغل حوالي عشرة بحارة ، في نقل قرب الماء إليها ، وكذلك بعض سلال الفواكه المختلفة ، مما هو موجود في الجزيرة .
إذن ما رأيته ليلة البارحة ، على ضوء القمر ، عند التقاء البحر بالسماء ، ليس وهماً ، وليس مجرد سراب ، وإنما حقيقة ، حقيقة واقعة ، أهو حقيقة فعلاً ؟ وهؤلاء البحارة ، ألا يمكن أن يكونوا من الرجال المتوحشين آكلي لحوم البشر ؟
لكن ها هي السفينة الشراعية في البحر ، وأولئك هم بحارة حقيقيون يكادون أن ينتهوا من نقل قرب الماء وسلال الفواكه إلى القوارب الثلاثة ، ما العمل ؟
وتلفتُ حولي ، أين الفتاة ؟ لم أرها حين خرجتُ من السقيفة ، يا ويلي ، وجمدت مرعوباً ، إنني لم أرً فراشها في السقيفة ، ماذا يعني هذا ؟
وركب البحارة في القوارب الثلاثة ، وراحوا يجذفون مبتعدين عن الشاطىء ، إنها فرصتي ، للخروج من هذه الجزيرة القاتلة ، وربما لن تتكرر ثانية ، يا ويلي ، أين الفتاة ؟ لا أستطيع أن أذهب ، وأتركها هنا ..
وخرجت من وراء الصخرة ، واندفعت راكضاً بجنون حيث القوارب الثلاثة ، تشق البحر متجهة نحو السفينة الشراعية ، ورحت ألوّح للبحارة ، وأصيح بأعلى صوتي : النجدة .. أنقذوني .. النجدة .. النجدة .
ويبدو أن أحد البحارة ، رآني وهو يجذف ، فترك المجذاف ، وهبّ واقفاً وسط المركب ، وهو يصيح : توقفوا ، توقفوا ، هناك رجل على الشاطىء .
وأوقف البحارة القارب ، والتفتوا إليّ ، ورأوني أخوض في الماء نحوهم ، وأنا ألوّح لهم بيديّ ، وأصيح بأعلى صوتي : النجدة .. النجدة .
فتراجعوا بقاربهم نحوي ، وما أن وصلوا إليّ ، حتى قفزوا جميعاً إلى الماء ، وأحاطوا بي ، وهم يمطروني بأسئلتهم :
ـ من أنت ؟
ـ ما الذي جاء بك إلى هذه الجزيرة ؟
ـ كيف وصلت إلى هنا ؟
، هل جئت وحدك ؟
ورفعت يديّ ، وأنا ألهث ، وقلتُ : مهلاً .. مهلاً ..
وخاطبهم أحدهم قائلاً : أصغوا إليه ..
والتفت إليّ ، وقال : تكلم .
وتنفست بعمق ، ثم قلت : إنني تاجر من بغداد ، اسمي سندباد ، وقد تحطمت السفينة التي كنت فيها ، ولم ينجُ من ركابها أحد غيري .
وصمت لحظة ، لألتقط أنفاس ، وأواصل كلامي ، لكن أحد البحرة خاطبني قائلاً : يبدو أنك بقيت في هذه الجزيرة المنعزلة فترة طويلة .
وحدقت فيه مذهولاً ، وقلت : لا أعرف في الحقيقة كم بقيت ، ربما أسابيع ، ربما أشهراً ، وربما .. لا أدري بالضبط كم بقيت .
والتفت أحدهم إلى رفاقه ، وقال : لعله بقي فترة طويلة ، انظروا إلى لحيته وشعر رأسه .
وحدق فيّ بحار آخر ، وقال : لا يهم هذا الآن ، فلنأخذه إلى الربان في السفينة ، هيا .
وسحبوني إلى القارب ، لكني قاومتهم ، وأنا أصيح : مهلاً ، هناك فتاة كانت معي على الجزيرة .
وأمهلوني لحظة ، وسألني أحدهم : أكانت معك في السفينة التي غرقت في البحر ؟
فقلتُ وأنا ألهث : كلا ، وإنما كانت في الجزيرة وحدها ، وهي التي أنقذتني من الموت .
وهزّ آخر رأسه ، وقال ، وهو يدفعني إلى القارب : المسكين ، يبدو أنه فقد عقله .
فصحت وأنا أقاومه بشدة : لستُ مجنوناً ، لستُ مجنوناً ، لقد عشنا معاً ، أنا وهذه الفتاة ، ولن أذهب وأتركها وحدها في هذه الجزيرة المنقطعة .
لكن البحار ، وبعض من كانوا معه ، دفعوني عنوة إلى القارب ، وصاح بي واحد منهم : تعال ، سنأخذك إلى السفينة ، ونقدمك إلى الربان .
لكني رحت أقاومهم ، وأنا أصيح : يجب أن ننقذ الفتاة ، إنها وحدها ، وسيفترسها الرجال المتوحشون ، آكلو لحوم البشر .
واحتضنني أحدهم ، وقال لي بصوت هادىء : تمالك نفسك ، واسمعني جيداً ، نحن نعرف هذه الجزيرة جيداً ، وهي جزيرة غير مأهولة ، ليس فيها غير الطيور والغزلان ، سنأخذك معنا ، ولابد أن القبطان سيرعاك ، ويرسلك من أحد الموانىء ، إلى وطنك .
لكني رغم ذلك ، حاولت عبثاً أن أفهم ذلك البحار ، بأني في تمام عقلي ، وأني لست مجنوناً ، وأن الفتاة المسكين ، التي وعدتها أن آخذها معي إلى بغداد ، ستبقى وحدها على الجزيرة ، وستموت وحيدة ، إن لم يأكلها الرجال المتوحشون قبل ذلك .







النهاية
ـــــــــــــــــــــ
توقف سندباد عن الكلام ، وقد بدا عليه الإرهاق والتأثر ، الليل مازال هو الليل ، والنافورة مازال ماؤها يتدفق متعالياً ، والقمر هو القمر ، ومازال يطل على العالم ، ويخلع عليه ثوبه الأبيض الشاحب .
ونظرت الجارية جوهرة إليه ، وعلى شفتيها الرمانيتين شبح ابتسامة ، وقالت : مولاي ..
ونظر سندباد إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت جوهرة قائلة بصوتها الساحر : ليتك تدخل جناحك ، وتأوي إلى فراشك ، وترتاح .
وتمتم سندباد بصوت واهن ، كمن يتمتم إلى نفسه : يبدو أنني لن أرتاح .
وابتسمت جوهرة له ، وقالت بصوتها الذي تعرف أنه يحبه : آه لقد أتعبتكَ هذه الرحلة .
وأطرق سندباد رأسه متعباً ، وصمت برهة ، ثم تمتم بصوته الواهن : لم يتعبني في هذه الرحلة ، غير من أنقذتني من الموت ، فتاة .
وهمهمت جوهرة : هم م م م م ..
ورفع سندباد عينيه إليها ، وحدق فيها ملياً ، ثمّ قال لها : يبدو أنكِ تغارين منها .
ونهضت جوهرة ، وقالت : لو كانت فتاة حقيقية ، لربما غرت منها بعض الشيء .
وقبل أن يرد سندباد عليها ، أقبلت جارية من داخل القصر ، وانحت لسندباد ، وقالت لجوهرة : سيدتي ، طعام العشاء جاهز .
ونظر سندباد إلى جوهرة ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت له : أمرتهم أن يشوا لك بعض طيور الدراج ، وغزالاً فتياً ، جاء به أحد الصيادين البارحة .
فنهض سندباد وقد تعكرت ملامحه ، ومضى مبتعداً نحو القصر ، وهو يقول : كلا ، لا أريد على الغداء أو العشاء ، لا الدراج ولا الغزال .
ووقفت الجارية جوهر صامتة ، ثم التفتت إلى الجارية ، وقالت لها بصوت جاف حاد : أبعدوا الدراج والغزال عن المائدة ، هيا أسرعي .
وبعد أن تناولوا الغداء ، أوى السندباد إلى فراشه متعباً ، واستلقى فيه ، وأقبلت الجارية جوهرة ، وجلست على طرف الفراش قريباً منه ، وقالت له : لم تأكل على العشاء شيئاً يذكر ، يا مولاي .
لم ينظر السندباد إليها ، وإنما أطرق رأسه ، وقال بصوت خافت : لقد شبعت .
ونظرت الجارية جوهرة إليه ، وقالت مترددة : تبدو متعباً ، يا مولاي سندباد ، سأذهب إلى جناحي ، إذا كنت تريد أن تنام ، وترتاح .
فمدّ السندباد يده ، وأمسك يدها برفق ، وقال لها : لا ، لا تذهبي ، ابقي إلى جانبي .
والتفت نحو النافذة ، ونظر عبرها إلى السماء المرصعة بالنجوم ، فابتسمت جوهرة ، وقالت له : لدينا للإفطار غداً حليب غزلان ..
ونظر سندباد إليها مبتسماً ، فتابعت الجارية جوهرة قائلة : ولدينا أيضاً فواكه طازجة .
وهزّ سندباد رأسه ، ثم نظر إلى البعيد عبر النافذة والليل ، وقال : لا قيمة لها بدون .. فتاة .
ولاذت الجارية جوهرة بالصمت ، ثمّ قالت : أظن ، يا مولاي ، أنك لا تخالف ما قاله لك البحار الأخير ، الذي تحدث إليك في القارب .
ونظر سندباد نحوها ، وأدركت جوهرة ، أنه لا يراها ، لكنها سمعته يقول : نعم ، ما قاله البحار صحيح ، لكن فتاة تبقى موجودة في داخلي .
وصمت السندباد برهة ليست قصيرة ، ثم قال كمن يحدث نفسه : قد يكون خيالي هو من صنع فتاة ، لحاجتي إلى إنسان ، إلى امرأة تقف إلى جانبي ، في تلك الجزيرة الموحشة المنقطعة ، ولولا تلك الفتاة لربما ما بقيت على قيد الحياة حتى الآن .
ونظرت جوهرة إليه ، وقد علت شفتيها ابتسامة جميلة ، وقالت بصوت حرصت أن يكون هادئاً : ما يعزيني ، يا مولاي ، أن تلك الفتاة ، التي احتجتها ، وأعطاها لك خيالك ، كانت لها ملامحي .
وحدق السندباد فيها صامتاً ، فتابعت قائلة : سمراء ، عيناها بلون القهوة ، عيناها سوداوان ، جميلتان تشعان كما الجوهرة .
وضحكت جوهرة ، وهزّ السندباد رأسه مبتسماً ، فمالت عليه ، وقالت : مولاي ..
قال السندباد : آه منكِ .
وتابعت جوهرة قائلة : لو رأيت فتاة ، ولو في الحلم ، تشير لك بيدها العاج .. تعال ..
وغالب السندباد ابتسامته ، وقال : جوهرة ، ابقي في أعماقي ، لا تغادريها ، أنا لا أريد أن أرحل مرة أخرى ، لأي سبب كان ، لقد أتعبتني رحلاتي السبع ، أريد أن أبقى في بغداد ، وجوهرة إلى جانبي .
وأغمض السندباد عينيه المتعبتين ، وجوهرة تشع في أعماقه ، وتضيء له العتمات ، وأغفى بعد قليل ، واستغرق في نوم عميق ، وسرعان ما نهضت من أعماقه العطشى ، سفن شراعية تمخر البحار ، وجزر تعج بالطيور والغزلان ، وشواطىء رملية تلمسها الأمواج وتنسحب عنها ، ومن بعيد ، بعيد جداً ، عند جزيرة تبدو ضائعة وسط البحر ، تراء ت له فتاة شابة ، تلوح له بيدها العاج .. أن تعال .


8 / 9 / 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما