الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النفق السائر

أحمد عبد العظيم طه

2023 / 1 / 31
الادب والفن


π
الألاميج..
لا توجد مدينة بهذا الاسم.


- في العالم ماءً ويابسة ً، وللعالم سماءٍ وغلافٍ جويٍ؛ وشمسٌ يعتبرها العالم له. ولكن يا أخي ما الذي يجعل للعالم قيمة ًمميزة ًعن تلك العوالم التي نرى أضواءها في السماء ليلاً؟
- ليتنا شربنا هذا البلاء بالنهار.. ههـ.. عندئذٍ لم تكنْ لتسأل في أمرٍ كهذا.. الشمس كانتْ سَتُعْميكْ عن هذه النجوم الفاجرة.. لكن ماذا نفعل؟! ليتنا نقدْر على إعادة الشمس.. هههـ..
- لا تكُنْ واقعيًا معه هكذا يا جلامِأ.. أنتَ تعرفه من صِغَرِهْ.. مَنْجومْ.. دَعْهُ يُفَضفِضْ ويقول، فبالتأكيد أن لديّهِ إجابةٍ عن سؤالهِ.. أليّسَ كذلك يا مَجأل؟
- صديقي أنتَ يا أملج.. دائمًا توَسِّع لي لأقول.. وأنا لديّ إجابة ٌبالفعل.. لكنها قد لا تروق لكَ أو لجلامِأ، لكني سأقولها على أية حال.. في خيالي أرى أن ما يُعطي القيمة المُضافة فيُميّز عالمنا عن بقيّة العوالم الأخرى – المُتَخيّلة أيضًا بالطبع، هو وجوده بنا وليس وجودنا فيه.. هناكَ إيمانًا هائِلاً بذلك عند الناس، حتى وإن كان أغلبهم لا يُدركُ المعنى أو يَغْتربُ عنه.. إنني دومًا أعتقد أنه لو جُمِعَ هذا الإيمان الهائل بيومٍ مِنَ الأيام؛ لَصَنَعَ عالمًا مُوازيًا للعالم.. عالمًا رهيبًا من حيث أبعادِهِ الجمالية!!..
وَرَدَ إليّهِمْ جليئ يلهث لفرط المشي الذي مشاه مُسْرعًا (تِبْعًا لإحساسِهِ بأنه قد تأخر عليّهم كثيرًا)، وبعد أنْ سَلّمْ وسَلّموا، وسألوه عن تأخْرهِ، وأجابهم بأبيه الذي أمرهُ أنْ يغْسِلَ السيارة مِنَ الخارج والداخل قبل تسليمها إلى المعْرِضْ، وأضافَ أنه لمْ يُعامِلهُ كزبونٍ قد دفعَ كامِلاً إيجارَ ما استأجره مِنْ مرْكَبةٍ ودونَ أيّةِ مُحاباةٍ؛ إذ أصرَّ على معاملته بأبويةٍ زاعقةٍ..
قال جلامِأ: لا تنْدمْ كثيرًا، لمْ يَفُتْكَ الكثير، فقط بعضُ سفاسيطٍ صغيرةٍ، مُعتادةً مِنْ أخينا (وأشار بلسانِهِ نحو مجأل)..
قال جليئ: أنا لا أُعِدُ كلامَ مجأل سفاسيط.. تَكلّمْ عن نفسك فقط.. ثمَّ تعالَ ههُنا!.. سأظلُ أُعلّمكْ إلى متى! قُلْ لي إلى متى؟!.. قُلتُ لكَ عندما تلّمِز شخصًا لشخصٍ آخر لا يستقيم أنْ يجيء اللمْزُ هكذا جماعيًا كالمجانين!!..
- هههـ...
- هههـ...
- هههـ...
- خُرِبَ بيتُ شيطانِكَ يا جليئ.. دائمًا تأتي بالتائِهةِ مِنْ مكانٍ ما.. تاهتْ!
- لَحِقَكَ في مكانك.. هه.. صحيح أمْ لا؟
- بالطبع جليئ شخصٌ حادُ الذكاء ويفْهمُ جيّدًا فيما أقولْ.. ههـ..
- ما رأيُكُمْ أنْ نقومَ بالتمشْي رِفقةَ هذه السيجارة الأخيرة؟ لقد تيبْسَ ظهري مِنَ الجلوس

قالَ جليئ: أنْ أنا معكَ يا أمْلَجْ، وقالَ جلامِأ بينما ينْظـُرُ إلى مجأل ساخرًا: أنْ وأنا كذلك، قالَ مجأل نافخًا دُخَانْ سيجارةً عادية ًباتجاهِ السماءْ: "الجماعة ُمبروكة ًدائمًا.. سأصحبكمْ بلا شكْ"

في هذا الليلِ الصحراويِ الخابلِ، بدتْ الألاميجْ (وتعني البحر العظيم باللغة السواحيلية) مدينة أشباحٍ عامِرةٍ، لأنهُ كان المئاتِ يتمشْونَ بمجموعةٍ أو فرادىَ فوقَ الممْشى المُعَدْ على ساحِلِ البحر الأحمر مباشرة ً، لكنهمْ كانوا مئاتٍ صامتةٍ فلا يَسْمَعُ الغادي مِنَ الآتي سِوَىَ هسيس في أحسنِ الأحْوالْ.
وكان ذلك السمت الاجتماعي العام في الحقيقة من الأدبيات الاجتماعية المُحْدثةِ على شعب الألاميج بتعدُدْ أعراقه، وقد فسْرَ أحد دكاترة معهد الألاميج العالي للحاسبات ذلك بقوله في مقدمة إحدى كتبه "يمكن الجَزْمْ بأن المُكَوِّنْ الإنساني بألاميج البحر الأحمر قد تغيّر على المُسْتوى السلوكي الاجتماعي إلى مدىً ملحوظٍ خلال العقدين الفائتيّنْ. فقد أفلح الزْخْمْ الاجتماعي الناتج عن وفرةٍ عدديةٍ بالأجيال الجديدةِ؛ في تدْشين – ومِنْ ثَمَّ تجذير – أنماطٍ سلوكيّةٍ مُسْتَحْدَثةٍ مثل كذا وكذا وكذا (نقاطٍ كثيرةٍ وعناصِرْ..). مثلما يُمكن أنْ يُأَولَ ذلك التغيّر – مِنْ بعدِ نظرةٍ تحليليةٍ عميقةٍ، أنهُ يُعدُّ إحدى تجلّيّاتْ الاقتصادْ الجديد منذُ اكْتشافْ هذا الكمْ الفُجائي مِنْ أحافير الجِنْسِنْجْ الرمْلي على طولِ الساحِلِ الأحْمرْ. لقد تأتْى لهذا المُكَوِّنِ الإنساني عبر عقْدَيّنِ
؛ النْمو وسْطَ وعاءٍ اقتصاديٍ طفريٍ مُغايِرٍ لما سبقهُ ما أدىَ إلى............"

/
خَرَجَتْ جلائيناتْ من قاعة المحاضرات دون ادنى استفادةٍ، فَفِكْرَها الذي كان مشغولاً بشدةٍ بأملجْ قد منعها مِنْ فَهْمِ أي شيء؛ ليلةَ أمسْ انتظَرَتْ تيليفونهُ حتى الساعةِ الثانيةِ صباحًا لكنهُ الذي لمْ يُتلفِنْ لها، وهي التي حتمًا قد نجحتْ في مُقاوَمةْ نفسها وكبْحِ شوقها لصوتهِ لأنها ذكية ًوتَعْلمْ أنهُ يَقْصِدْ ذلك.. كلّمَها مرتين ويُريدُ في الثالثةِ أنْ تُكلِّمْهُ هي..
ذَهَبَتْ إلى كافيتريا المعهد رفقة صديقاتها، ورأتْهُ بطرّفِ عينها جالسًا مع أصدقائه يتكلمون.. ابتاعتْ عصيرًا ورقائق شوفان كالباقيات ثم خرجَتْ معهن كأنها لمْ ترهُ. وحين تلفن لها بعد نصف ساعة تقريبًا لمْ تردْ عليه أولَ اتصالٍ، رَدَّتْ في الثاني عندما زغدتها نجئيله الجالسة ُإلى جوارها بالأتوبيس في جنبها مُحفْزةً، قالت لهُ: خيرًا؟!
فقال لها: مالِكْ؟
قالت وهي تُقيِّدْ طبقة صوتِها لتبدو هادئة ً: مالَكْ إنتَ ومالي؟ ماذا تريد بالضبطِ يا أملجْ؟
قالَ بـِسَهَاءٍ خافِتٍ: أنْ تُجيبي.
قالتْ بغيظٍ: وبَعْدْ؟
قالَ ضاحِكًا: لا بَعْدْ يُمْكِنُنِي تأكيده.. فالحُبُّ يصنع ما بعده دون استشارة أحدْ.
قالت: إذنْ اجعلني أُحِبْكْ!
قالَ: أنا أفْعَلْ.


***


في التاريخْ أنتَ لا تستطيعْ سوى تأدية دورك


كانتْ الخمْرُ شديدةْ المرارةِ، أو بالأدقِّ تُثيرُ الاشمئْزاز عِندَ شارِبِها، الشيّءُ الذي حثَّ صادق البؤجه على الابتسامْ بخبثٍ والقولِ لنُدَمائِهْ: "حلاوتها في مرارتها". لكنَّ عيد الفلاح الذي كان مِنْ رأيِهِ أنْ يَظَلّوا على نوعِهِمْ القديمْ لمْ يُعْجِبْهُ هذا التبرير، فقال: "أديكْ شرّبتنا على مزاجك.. اشربها كلها لوحدك بقى.. بلاش قرف".
قال صادق البؤجه بتحدٍ وهو يَجْرعُ كأسًا مرةً واحدةً: "وانا موافق.. تدفع كام؟".
تدَخْلَ محمد الحِنتْ كمن يصطاد بالماءِ العَكِرْ: "كمان هيدفع!.. ما كفايه اللي دفعه في الأذى دا يا أخي.. ألّا صحيح إنت تقدر تشرب التلات تربع ده لوحدك؟".
قال صادق البؤجه بـِرِسِوِ حالٍ: "طبعًا، دا أنا سفاح، بس الخوف لترجعوا تقولوا ماشربناش وماتكيّفناش وبلاء أزرق.."
قال عيد الفلاح بـِرِسِوٍمُكافئ: "لا متخافشي محدش هيقول حاجه.. اعملها انت بس وورينا المزازه واللذاذه"
وقال أمين الكلّاف بينما يرتشف بتقزز مِنْ كوبٍ بيدهِ: "أنا ممكن أقعد أشرب في دول طول الليل واحتمال مخلصْهُمشي.. يعني اطمْن.. مِشْ هتلاقي حد مِعترض".
وقال محمد الحِنتْ: "أنا عن نفسي منصحكش تخوض التجربه الوسخه ديًا.. وطبعًا مِشْ عشان التلاتين جنيه اللي انا دافعهم.. إنما عشان عارفك هتُقع مِنْ طولك قبل ما توصل نُصها".
:....................
:..........................
:..................................
:...................................

كان الجو العام فوق السطوح بتلك الليلة الصيفية اللطيفة يدفع إلى الإقدام على المُغامرة الصغيرة، وقد بدأ صادق البؤجه في إدارة الفكرة ملّيًا برأسه، فهو إن أقدم سيّندمْ وإن تراجع لنْ يسْلَمْ، لذا قال لهم بسرعةٍ: وآدي دين أمْ الإزازه أهيـ... (تهشمت الزجاجة إلى قِطعٍ كثيرةٍ بالمساحة الخالية أمام جلستهم؛ وصنعَ السائل بقعة كبيرة على الأرضية الإسمنتية لها شكلٌ متناثر يتناسب مع طبيعة الخمر).. نظر أحدهم إلى الآخر وانطلقوا في ضحك مغرضٍ تبعه كلام...

- فلحت يا بؤجه عرفت تُملص، بس دا مش معناتُه إن انا ليّ تلاتين جنيه..
- انا مش عايز حاجه بس انت متجبش النوع دا تاني أبدًا.. تمام!..
- صلوا عـ النبي.. هو بكره هيكيّفنا على حسابه.. مش كده صح يا بؤجه؟..
- ....................
- .....................
- ...........................


***

£
المُبالغةُ في شيءٍ تُفْسِدُهُ، لكنَّ المُبالغةُ في المُبالغةُ لا تفعل


سيكتب القصة (استيقظ جابر صباحًا.. فتح النافذة.. وشعر بلا جدوى أي شيء)، فكَّرَ أنَّ جابرًا رُبْما تمنى بسريرتِهِ أنْ يستحيلَ عدمًا (قد يكونُ المُتسبب بالشعور هو ثِقَلِ كثرة الديون – مُضافٌ لأوّزانِ المُطالبات الوجوديةِ الثقيلة ُمِنَ الأصلِ)، ولكن ما الذي يُمكنهُ استنقاذ جابر مِنْ ذلك الشعور التخليقي الأليمْ يا تُرى؟ وما عساها ستكونُ الفائدة إذا جرى استنقاذًا مؤقتًا عبر المُسكنات!
(.. أخذَ حمامًا ساخنًا ومكث يتجول بغرفتِهِ.. لا يَزالُ الشعور يملأهُ بانتفاءِ الجدوى عن أي فعلٍ – أو شيء) لابدَّ مِنَ الزمان والمكان معًا كذريعتين أساسيتين عند إجراءِ الحلول الجذريةِ (.. ظهر بيده مُفْتاحًا نُحاسيًا برَّاقاً بينما يقبعُ حدَّ النافذة.. فبدا ينتظِرُ تَعَامُدْ الشمس فوق وجْهِهِ)...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق