الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبيعة صامتة

أحمد عبد العظيم طه

2023 / 2 / 2
الادب والفن


في المطلق لا مكان للزمان؛ ذلكم أنه الوجود.


- لا تحرص على الكمال إلى درجة غير مطلوبة.. فهذا يعد نقصًا يا رئيس!
هكذا كان يقول المساعد الميكانيكي سعيد أبو جلوان لمهندس ميكانيكا القوى أنطونين أنيول بينما الأخير يفك للمرة الثالثة صامولة كبيرة كي يعيد تركيبها من نقطة معينة في بداية أسنان القلاووظ، وقد قال أنطونين أنيول دون أن يلتفت عما يفعل: يا صديقي.. النصح والوعظ مجرد عبارات جيدة التركيب. ثم استطرد وهو ينفخ فراغ الصامولة بعد أن أصبحت بين أصابعه: لابد أن يكون للمعنى مكانًا بداخلك أولاً.

- كلامك جيد.. جيد حقًا.. لكن أرجو أن تدعني أقوم بتركيبها هذه المرة.
- لا بأس بشرط ألا تنتهي مدببة على الغطاء، أريدها مستوية كما كانت.

أمسك سعيد أبو جلوان بالصامولة وشرع في ربطها مباشرة، من غير أن يقيسها على مقدمة البازغ من المسمار، ومن غير أن يراوح بنظره بين مقدمة المسمار وسطح الغطاء، ومن غير أن يتحسس حلزونية القلاووظ والمفتاح يتقدم بالصامولة (المسائل التي كان أنطونين أنيول يفعلها آناء محاولاته الفاشلة)، فقط هو كان يربطها كما تُربط أي صامولة بالعالم، وكان من رأيه أنه لا يوجد بالأمر كيمياء أو تعقيد مما يختلقه أنطونين أنيول ويطيل به الوقت لغرض مجهول، فالتذرع بالدقة هنا في غير محله، بل الأمر كله ليس مهمًا إن كان لا يتعدى التتميم الدوري على محركات فرعية احتياطية ليس بها غلطة!، لذا فمن الغريب أن تأخذ إعادة غطاء آخرها إلى الوضعية المغلقة ما ينيف على نصف الساعة، وحتى لو سلم سعيد أبو جلوان أن هنالك ثمة مشكلة في الشكل النهائي لصامولة من أربعة فوق غطاء المحرك، فلن يعد هذا عطبًا جللاً يستدعي الوقوف أمامه نصف ساعة لبحثه، إذا الغطاء يقينًا لن يتخلخل قيد مليمتر من مكانه!، كما أنه بالنهاية غطاء لشيء وتبعًا لذلك فهو عرضة للفك والتركيب مرارًا وتكرارًا امتثالاً لطبيعته الوظيفية، ومن المرشح جدًا أن يصير الشكل المدبب للصامولة فوق الغطاء هذه المرة؛ شكلاً شديد الاستواء في المرة القادمة...

- .. لا زالت مدببة.. محاولتك فاشلة كذلك ولكنك تستطيع الانصراف.. تبدو جائعًا.. أنا سأحاول بها.
- حظًا موفقًا يا رئيس..
عقب صعوده من الباطن الميكانيكي للسفينة إلى الطابق العمالي الثاني، كان أول من صادف في طريقه إلى قمرته هو كريستوفر إمبرت أحد ضباط اللاسلكي المحدثين - والذي قيل لسعيد أبو جلوان أنه منقول من سفينة بضائع إلى هنا ليس لشطارته في اللاسلكي، وأن يبقى حريصًا في الكلام معه. صافحه كريستوفر إمبرت بحرارة متفحصًا كم البقع والأوساخ الطازجة فوق أفروله بنظرات خاطفة، ووقف يتكلم معه عن سوء رائحة المبيد الذي تم رشه أمس بقمرات الطابق..
- صرصور هنا أو هناك لا يستأهل كل هذا التركيز، أنه مركز إلى درجة مزعجة، أتدري شيئًا.. أنا لم أنم غير ساعتين من الثمانية!..
- القدامى بالطابق تعودوا هذه الرائحة، تزول بعد عدة أسابيع، أنت كذلك ستعتادها بعد أن تصير قديمًا.
- لا أعتقد، إنها رائحة مريعة.. مريعة..
- إذن لا حل سوى أن تبيت لدى زملائك بالطابق الأوسط..
- قلتَ حسنًا.. لكن أتعرف شيئًا.. الثلاثة يتعاملون معي بجفاء بالغ.. يعاملونني كجاسوس عليهم لا أعرف لماذا؟!..
- أوه! أعتقد أن الأمر سيتغير بمرور الوقت.. وإلى أن يكون ذلك ليس أمامك سوى تحمل الرائحة ههههـ...
- ههههـ..

عندما ولج إلى قمرته أسند بابها بمقعد وارتمى فوق سريره بزيه الرسمي كاملاً، حتى القبعة والحذاء، وقد أحس كريستوفر إمبرت بحرية الوحدة لعدم وجود توران يلمظ – شريكه بالغرفة، وقال مكررًا لنفسه: أن هذا الحيوان ليس بالرفيق الملائم لشخص مثله، إذ يبدو من تصرفاته السوقية وإنجليزية ركيكة وصورته ذات الأسنان القذرة الملصقة بجوار سريره – أنه قد نتج عن بيئة شديدة الانحطاط...

/

على مقعدين متجاورين بالشرفة الزجاجية لمطعم السفينة جلس كلاً من: يونج مينج مسئول عام التغذية، وآلان كواترو أحد مهندسي الكهرباء. كانا يتحادثان في شؤون العالم حديثًا فاترًا، معتادًا، رغم كل ما يحتويه من أحداث جسام...
- دعكما مما تلكان فيه وانظرا إلى المحيط.. أي محيط هذا؟!
التفت كلاهما إلى سميث بول رئيس الطباخين في زيه شديد النصاعة، وقال آلان كواترو: "ماء كثير، لا جديد"، وقال يونج مينج: "كم يحتاج من البصل في رأيك ليصبح حساءً؟ هاها"..
حدق سميث بول في مطلق المحيط قائلاً: أنتما أيها الوسِخان لا تريانه مثلما أراه.. إنه وحش لا نهائي.. لا نهائي.
- واو.. إنه يقول شعرًا يا يونج
- هاها شعرًا مبَهرًا
سحب سميث بول مقعدًا وجلس في ظهريهما، وقد أخذ يتكلم بجدية عما يعتريه من مخاوف تجاه تلك الرحلة، وحكى حلمًا عجائبيًا رأى فيه السفينة تطير فوق المياه ولا تلمسها..
- هاها التفسير المعقول أن سفينتنا العتيقة هذه ستترقى لتصبح طائرة عن قريب.. ربما طائر هاها..
- لا تسفه كلام الرجل كل حين يا يونج مينج، أرى هذا غير محمود.
- دعه دعه.. فهو لا يجيد غير هذا وسط المياه! هههـ..
- وماذا عنك يا بول سميث؛ ما الذي تجيده ههنا ولا يجيده هو؟
- هاها الطبخ.. يجيد الطبخ
- شيئان يا آلان كواترو.. أولهما التأمل، التأمل العميق بالمحيط.. وثانيهما هو شيء يعرفه، فليقله لك..
- هاها يقصد ملاطفة النساء ومضاجعتهن، وقلت له كثيرًا أنا لا أخون زوجتي هاها..
- ومن قال لك أنها لا تفعل؟! هههـ
- هاها لا أسمح لك يا بول سميث، نحن عاشقان..
- هههـ...
- ................
- .............

كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا تقريبًا، عندما بدأ المرتحلون على ظهر "ميادا" في التوارد إلى قاعة المطعم، فظهر رجل وامرأته وأطفالهما، فامرأتان، فشاب وامرأة، فرجل وحيد معه كاميرا، ثم دخلت مجموعة نوعية كبيرة دفعة واحدة (فبدت كعائلة كبيرة)... وكان ذلك ما حمل آلان كواترو إلى الاستئذان من صديقيه في الانصراف قائلاً: أنه سيعود لرؤيتهما ليلاً خلال ورديته.

/

في قاعة مطعم العمال بالطابق الباطني الأول للسفينة، كان سعيد أبو جلوان يتناول إفطاره وهو يجلس قبالة توران يلمظ مشرف النظافة بالطوابق العمالية. سأل الأخير: كيف هي الأحوال؟. وأجابه سعيد أبو جلوان: جيدة. ثم أعقب سريعًا: رفيقك بالغرفة يشتكي من رائحة المبيد الحشري!.
قال توران يلمظ ولا زال فمه مليئًا بالكيك: إذن بدأ المبيد يؤتي ثماره.. خبر رائع يا صديقي.
- توكسفين؟
- لا.. تركيبة جديدة.. فورمالين ونترات وأجزا..
- إنه خطِر بشكلٍ ما.. خذ حذرك.
- لا تخشَّ شيئًا.. فقط هي رشة وافرة كل أسبوعين!..
- ...................
- ..............








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة