الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين سلطتين، الاحتلال والاستبداد

راتب شعبو

2023 / 2 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


يتجه المسار العام للواقع السياسي في بلداننا إلى مزيد من الانحطاط، بلدان تتفكك (اليمن، ليبيا، سوريا) وبلدان تنهار اقتصاداتها ويتعزز في الاستبداد (العراق، لبنان، مصر، تونس)، ولا يختلف عن ذلك حال الفلسطينيين تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ يعدهم بالكرسي الكهربائي والمزيد من الهدم والتهجير، هذا رغم أن الاحتجاجات والثورات في هذه البلدان لم تهدأ خلال السنوات العشر الأخيرة.
نواجه في منطقتنا نوعين من السلطات: سلطة الاحتلال وسلطة الاستبداد. السلطة الأولى تحتوي الثانية وتفيض عنها، من حيث أن الاحتلال هو استبداد يمارسه عنصر أجنبي لصالح دولة أجنبية. القاسم المشترك بينهما هو استبطان العدوانية أو استحالة الجمع بين البقاء والعدل، فهذه السلطات لا تستمر ما لم تنجح في التغلب على إرادة المحكومين، إنها تجسيد مؤسساتي لغياب العدل. والحق إن حال المحكومين تحت الاحتلال لا يختلف كثيراً عنه تحت الاستبداد.
غير أن الكفاح ضد الاحتلال يتمتع باعتراف داخلي وخارجي لا يتمتع به الكفاح ضد الاستبداد، رغم التشابه العميق بين نوعي السلطتين. كان يميل المناضلون ضد الاستبداد إلى تشبيه سلطة الاستبداد بسلطة احتلال (وهو في معظم الحالات تشبيه في محله)، لكي يعززوا في الوعي العام رفضاً لسلطة الاستبداد، وأيضاً لكي يمهدوا لنضالهم ويستجروا المزيد من الاعتراف والشرعية.
التشابه المذكور يجعل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صورة مكبرة عن الصراع الذي تخوضه شعوبنا ضد أنظمة الاستبداد السياسي المفروضة عليها. الصورة مكبرة أولاً لأن السيطرة الإسرائيلية تقوم على الاحتلال، والصراع ضد الاحتلال، كما ذكرنا، له حضور واعتراف عالمي أكبر بكثير من النضال ضد أشكال الاستبداد "المحلية". ثانياً لأن النضال ضد الاحتلال أكثر حدة وإجماعاً من النضال ضد الاستبداد، ذلك أن الاحتلال (استبداد أجنبي) أكثر مساً بكرامة الواقعين تحت حكمه لأنه ينطوي على عنصر هوياتي. الغالب أن يقبل الناس الاستبداد "الوطني"، وحتى أن يمجدوه، حين يواجه محتلاً أو غاز أجنبي. ثالثاً، لا يوجد فكر سياسي يسوغ الاحتلال، في حين يكثر من يحاجون في تسويغ الاستبداد أو تمويهه، دون أن يغامروا في دخول خانة "العمالة". على العكس، تميل ألسنة الاستبداد، التي تماهي الدولة أو الوطن مع سلطة الاستبداد، إلى وصم مناهضي الاستبداد بالعمالة.
في الاستبداد كما في الاحتلال تتماهي السلطة مع العدوانية (المزيد من العنف، المزيد من إنكار الحقوق)، تجلى ذلك في إسرائيل بخط بياني متصاعد للاعتداءات والاستيطان والتهجير والاستيلاء على حقوق الفلسطينيين، حتى لم يتبق لهم من الأرض سوى بقع متقطعة ومعزولة لا تشكل أكثر من 15 بالمئة من مساحة فلسطين. وليست حكومة نتنياهو الأخيرة التي توصف بأنها الأكثر عنصرية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل، سوى شاهد على أن المسار "الطبيعي" لإسرائيل الصهيونية يتجه نحو المزيد من التطرف والعنصرية. وليس خارج هذا المنحى، توجه هذه الحكومة الى السيطرة على القضاء من خلال إجراءات مثل تمكين الأغلبية البرلمانية من نقض قرارات المحكمة العليا والتحكم بتعيين القضاة ... الخ. في إسرائيل سوف تخضع الديموقراطية الداخلية دائماً لثقل العدوانية النشطة والمستمرة تجاه المحيط الفلسطيني، ونتيجة لذلك ستميل هذه الديموقراطية إلى المزيد من الانكماش والمزيد من العنصرية.
الأهم من ذلك أن الصفة العامة للمظاهرات التي خرجت ضد حكومة نتنياهو هي الاقتصار على الشأن الإسرائيلي (هذا بيتنا جميعاً، ونقف معاً، كما تقول اللافتات) في إغفال تام إلى أن إسرائيل الحالية هي دولة تحتل أراض فلسطينية مقرة في القانون الدولي. وإذا أمكن أن نقرأ وسط بحر الأعلام الإسرائيلية لافتة خجولة تقول "حياة الفلسطينيين تهم"، يبقى أنها حياة تحت الاحتلال، ويبدو بجلاء أنه ليس للمتظاهرين الإسرائيليين مشكلة مع هذا الواقع.
وعن تجلي تماهي سلطة الاستبداد مع العدوانية، عرض النظام السوري خطاً دائم الانحدار، للعلاقة بين نخبة الحكم والمحكومين. من يتابع المسار يلمس تراجعاً مستمراً في مستوى الحياة ومستوى الحريات، يتخللها انفجارات للعنف، إضافة إلى تدهور على مستوى الحقوق الوطنية. وليست حال سورية والسوريين اليوم سوى شاهد على المسار "الطبيعي" للعلاقة بين طغمة الحكم والمحكومين في ظل نظام الاستبداد.
هذا الخط البياني المنحدر يعبر في الحقيقة عن أزمة في سلطة الاحتلال أو سلطة الاستبداد، قبل أن يعبر عن أزمة في المسعى التحرري منهما. مع الزمن وتزايد التوتر بين السلطة ومحكوميها، سوف تميل السلطة إلى المزيد من العنف والانغلاق السياسي، وستدفع المكافحين ضدها إلى اعتماد المزيد من التطرف في السلوك كما في الفكر السياسي، والنتيجة هي اختناق المسعى التحرري نفسه، وانحطاط الحال العامة للبلد.
مع تزايد ثقل سلطة الاستبداد وقدرتها على محاصرة أي مسعى تحرري والقضاء عليه، لما تمتلكه من إمكانيات مادية (إمكانيات جهاز الدولة) ومن إمكانيات غير مادية (فكر سياسي متهافت يبرر القمع وينسبه إلى مجهود حماية السيادة الوطنية)، برزت في الفترة الأخيرة حالة معاكسة لحالة تمجيد المستبد الوطني حين يواجه اعتداء خارجياً، فقد بات المحكومون للاستبداد أكثر قبولاً للمساعدة الأجنبية، أو حتى باتوا يطالبون بها، بغرض الخلاص من المستبد المحلي، في صدى لفكرة، تخص أصلاً الأنظمة الفاشية، تقول إن الاستبداد لا يكسر إلا من الخارج. يعكس هذا يأساً ثقيلاً لدى الناس من قدرتهم على التحرر من استبداد "يستعمر" المجتمع ويوطد نفسه على حكم "أبدي"، يأس يدفع الناس إلى التداوي من سلطة بسلطة أخرى لا تختلف عنها في الطبيعة.
بين سلطة استبداد وسلطة احتلال، يجد المحكومون شروط حياتهم المعاشية والسياسية والوطنية في تدهور مستمر. وما تحوز عليه هذه السلطات من وسائل وقوى للحفاظ على الذات، ولاسيما منها سلطات الاستبداد، يفرض على المحكومين البحث عن سبل نضال جديدة، قد تكون البوصلة فيها هي تجزيء مهمة التحرر إلى مهام أدنى وأكثر قابلية للتحقق والانجاز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي