الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شعرنة النصوص اللونية.. مطيع الجميلي إنموذجاً

عمر مصلح

2023 / 2 / 5
الادب والفن


يتولد النقد بانطباع يتركه العمل بالنفس، وينتهي بحكم.. إذ هو دراسة وتقييم، ابتداءً من السؤال عن المعنى، ومروراً بالتعبير، وكيفية التعبير.. أي التفسير والتحليل والتقييم، بعد تناول الشكل والمضمون.
وهذا يحتاج إلى كم معلوماتي، وثقافة واسعة، قد لايحتاجها المبدع في اختصاصه.. ومن اشتراطات الناقد الإلمام باللغة وعلم النفس وعلم الإجتماع والاستطيقيا واللغة وإنشاء الجملة وكم هائل من المعلومات العامة وبعض المعارف، وكل أسس واشتراطات الجنس المنقود، وقد لا أكون كفؤاً بهذا، لكن المنجز المهم يثير بي رغبة التعبير عن الرأي.
ظهرت في مفتتح القرن العشرين مذاهب فنية عدة، وصار يصعب تحديد انتماء الفنان إلى إسلوب معين بل صار الفنان ينتمي لأكثر من إسلوب.. وهناك من أعلن عداءه للنظريات والمذاهب الفنية كما فعل (بن نيكلسون).
لكن الظاهر هو استشراء الحركة المستقبلية في إيطاليا، والتعبيرية في إلمانيا، والأنطباعية في فرنسا، والتكعيبية في إسبانيا.. وهذا لا يعني أن هذه الحركات كانت حكراً على بلد معين، ولا حتى للفنان نفسه.. بل كانوا يبحثون في كل الأساليب، مع طغيان إسلوب معين.. وقبل أن يموت (سيزان) قال:
(إني مازلت أبحث).
وإذا ما نظرنا الآن إلى تطور الفن الأوروبي منذ واقعية أواسط القرن التاسع عشر حتى ظهور هذه الاتجاهات الجديدة.. نجد أنه يشبه إلى حد ما تطوراً آخر حدث في ميدان العلم وهو الانتقال من مفهوم الكتلة أو المادة إلى مفهوم (الطاقة).
فالفنان لا يصف الأشياء وإنما يعبر عن معان نفسية وذهنية، وهذا ما استفزني جمالياً في أعمال الأستاذ مطيع الجميلي، فليس هناك ثمة صدفة او عشوائية في أعماله، بل هي اعمال مبنية على فكرة تستحق التامل، ومرتكزة على دقة تصوير، غير مبال بالأسلبة أو الاتجاهات إذ هو (ألجميلي) بحد ذاته اتجاه وتجربة تعطي طاقة حث جمالي لتزيين الذائقة.
ففي إحدى لوحاته أنشأت ما يلي: حين يتخندق الطهرُ المنبثق من رحم معتم، خلف ستار ساخن تتوثب علامات الإستفهام والتعجب.. للتجمهر في المكان، تتبعها مسافات من الصمت، ويتكوّن لحن بالغ الأسى، وما سكتاته إلا عقد هدنة مع القلق.. وعين الترقب تحصي الفقدانات بأمل مثلوم.. فما أشبه ذلك بالإنكسار.. فحين ينكسر الضوء تتسرب العتمة، وتنعم الخفافيش بالتحليق.
حسب اعتقادي هذا ما أراد قوله مطيع الجميلي من خلال ضربات سريعة فرضها وجيب القلب.
وموضوع لوحاته قابل للتأويل، وتعدد القراءات، وهذه دلالة قاطعة على أهمية اعماله.
وانطلاقاً من مقولة الشاعر (عزرا باوند):
"أن العمل الفني المثمر حقاً هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس آخر، والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة"
أقول أن فناننا الأستاذ الجميلي.. اعتمد الفكرة مُرتَكَزاً ثم وضحها باللون الذي هو عنده أداة توصيلية طيعة، لأنه يعي عمقه، ويقرأه قبل أن يجعله على خامة اللوحة
لتفتح أمامنا شبابيك التأمل، والتأويل.. وتستنهض رؤى جديدة تحفز على بناء نص محايث أو مجاور.. وهذا ما أكد عليه الدكتور عبدالغفار مكاوي في أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة ممكن أن توحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لها من قراءات.
فالعلاقة إذاً هي علاقة توازٍ وتفاعلٍ وتأثير.
وأجد من المهم استعارة ما قاله (كورسون):
"ألكتابة والرسم فن واحد، وأن الشاعر يستطيع أن يرسم الشعر كما يستطيع الرسام أن يكتب قصائد بلا صوت"
فالهم الذاتي في نصوص الجميلي اللونية هو صورة مرمزة موحية تستدعي حالة، وعلى ضوئها يقوم ببناء علاقات تشكيلية من خلال علامات دلالية ونسق مخيالي مترف وباذخ الثراء الجمالي.. حيث يتراءى للمتلقي التشظي الانعكاسي لمرآة اللون من خلال تثويره مكانياً.. حيث تعتعت المدرك الحسي إلى منطقة المشاعر، من خلال المعنى البديل، بلغة شعرية غير متفق عليها في النص المؤلَف.. إذ أن المؤَلَف هو تشييع لكلمات، محمولة بنعش حروفي، أو رقصة في زفة موضوع، لاتدل إلا على حالة معينة ومحددة تنتهي بانتهاء المراسيم.
أما النص الفني فهو رحلة وجدانية تتوغل في الذات، تتمرد على الطغيان الشكلي للمفردة او الجملة.
ولكل ضربة فرشاة هامش تصوري، لا يعيه إلا مَن أثث ذائقته بالجمال إذ يرى ماوراء المعنى البائن والمتفق عليه.
يقول (سارتر):
"ليست غاية الشعراء استطلاع الحقائق أو عرضها، ولا تسمية المعاني بالألفاظ"
ويقول أيضا :ً
"ألشعراء لايستخدمون اللغة على نحو مايستخدمه المؤلف، وإنما الكلمات عندهم أشياء بذاتها، بل هي غاية مقصودة وهي تمثل المعنى أو تصوره أكثر مما تعبر عنه"
تماماً كما تفعل الألوان في اللوحة (ألنص اللوني) حيث تنبثق الصورة في النص اللوني انبثاقاً وتتشكَّل على شكل أنوية لغوية أولية أي أنها تنبثق لغوياً مع انبثاق الصورة في الواقع ودخولها عالم المشاعر، وفي معظم الحالات تكون هذه الأنوية جوهر لغة فالسبب المولّد للشعر شيئان أحدهما الإلتذاذ بالمحاكاة والسبب الثاني حب الناس للألحان ومن هاتين العلتين تولدت الشعرية وانبعثت.
فذهب كل من ابن سينا وابن رشد إلى أن الشعرية لا تتحقق إلا بالفعل وإجبارها على التشكيل وفق متطلبات الحدث، وذلك لأن القول الشعري كلام مؤلف وبالتالي فالشعرية كامنة في الصياغة متولدة عن كيفيات إخراج القول، وهذا ينطبق تماماً على الفن التشكيلي خصوصاً، وعلى باقي الفنون عموماً.
يقول ابن الأثير:
"الصورة ترد في لسان العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيأته وعلى معنى صفته".
أي يقال صورة الفعل كذا أي هيأته، وصورة كذا أي صفته حتى لو تم لاحقاً العمل المحترف على صناعته.. فإن هذه الأنوية تُحافظ على دورها الجوهري في جسده، ويمكن تلمُّس ذلك في بعض القصائد واللوحات العظيمة وتلمس أين النواة الحقيقية للعمل وأين الإضافات اللاحقة المتعلقة بالاحتراف الفني.
وإذا تأملنا النص المتجاوز لحدود البناء والصورة والتكثيف.. كونه مشفّر ومرمّز ومشغول وفق صيغ واقعية لرسم صورة منتشلة من طرقات أضناها الموت، فحوّل القضية الكوارثية إلى صور قابلة للتعدد القرائي.. بل لاتخاذ موقف باسل.
وأما التصوُّر فهو مرور الفكر بالصورة الطبيعية التي سبق أن شاهدها وانفعل بها ثم اختزنها في مخيلته.
وأما التصوير فهو إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني، فالتصوُّر عقلي إذاً والتصوير فهو شكلــي، فالتصوُّر هو العلاقة بين الصورة والتصوير، وأداته الفكر فقط، وأما التصوير فأداته الفكر واللسان واللغة أدبياً، اما فنياً هي الفكر والتوزيع واللون.. وهذا بنطبق تماماً على نصوص الفنان الجميلي من حيث الفكرة وجموح المخيال واناقة الضربة ودقة اختيار اللون وتوزيع الكتل والتدرج الهارموني.
والتصوير في القرآن الكريم، ليس تصويراً شكلياً بل هو تصوير شامل فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة وتصوير بالتخيل، كما أنه تصوير بالنغمة حين تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقا السياق في إبراز صورة من الصور.
أما أرسطو فيربط الصورة بإحدى طرق المحاكاة الثلاث، ويعمِّق الصلة بين الشعر والرسام، فإذا كان الرسام وهو فنان يستعمل الفرشاة والألوان فإن الشاعر يستعمل الألفاظ والمفردات ويصوغها في قالب فني مؤثر يترك أثره في المتلقي.
والفنان الجميلي يدرك هذا تماماً لذا نرى لوحاته قصائد مغناة على نغم الصبا.
وإذا عدنا للآية الكريمة "ألآن حصحص الحق" وكلمة حصحص ــ حسب اعتقادي ــ لم ترد في الملاحم ولا الأساطير ولا الحكايا والروايات والشعر، وكان ممكن قول الآن ظهر أو بان الحق مثلاً.. لكن أحد المختصين باللغة فسرها على أن هناك معادل كيمياوي للأصوات الفيزياوية، وحرفي الحاء والصاد هما اسخن لونين كيمائيين.
وأجد أن انتخاب اللون ــ بعد نضوج الفكرة طبعاً ــ عند الفنان الكبير مطيع الجميلي هو صياغة وليست صبغة، فاللون لديه مفردة لها دلالاتها ومعانيها.. لذا أضع بصمة إعجابي المتواضعة هذه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله