الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السودان والاستقلال المفقود ..!

فيصل عوض حسن

2023 / 2 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


مفردة استقلال بمعناها البسيط، تعني امتلاك الدولة لسُلطاتٍ داخليَّةٍ مُطلقة على الأرض والأفراد والجماعات، وفق تشريعات وقوانين يلتزم بها الجميع، دون استثناء، بما في ذلك القائمين على إدارة شؤون البلاد. كما يعني الاستقلال تمتُّع الدولة بحُرِّيَّة قرارها بعيداً عن سيطرة أي جهاتٍ خارجيَّة، سواء كانت دول أو تكتُّلات أو مُؤسَّسات/مُنظَّمات، استناداً للأعراف والمواثيق الدوليَّة المُعتمدة. ويُمكن القول، إجمالاً، بأنَّ الاستقلال يعني تسيير البلد (ذاتياً) دون خضوعٍ لإرادة الغير والحفاظ على الموارد وإدارتها بأمثل الطرق، وضمان أمن وكرامة المُواطنين وحفظ أرواحهم ومُمتلكاتهم واحترام آدميتهم.
دَرَجْنا نحن في السُّودان على الاحتفال بالاستقلال مطلع يناير من كل عام، لكننا لا نستحضر المعاني والمضامين أعلاه، إذ نكتفي بالغناء واستعراض نضالات الأجيال السابقة، عبر التسجيلات الوثائقية والأناشيد أو القصائد الحَمَاسِيَّة، وسرد بعض المواقف الوطنيَّة (الشخصية أو الجماعية) وغيرها من مظاهر الاحتفاء. وذكرى الاستقلال لهذا العام لم تختلف عن سابقاتها، إنْ لم نقل بأنَّ غالِبيَّة السودانيين لم يشعروا بها من أساسه، تبعاً للأوضاع المُفزعة والمُحزنة التي تشهدها بلادنا، وعدم بلوغ الحِرَاك الشعبي المُتواصل منذ ديسمبر 2018 لغاياته، والذي كان من المُفترض أن يقودنا إلى واقعٍ آخر أكثر إشراقاً، لكننا لم نحقق التوقعات المأمولة، بسبب مجموعة من العوامل والتحديات، التي تزايدت بنحوٍ مخيف، وباتت تُهدِّد استدامة السُّودان بمن فيه.
أبرز التحدِّيات التي تنسف مبدأ (الاستقلال) من أساسه، يُجَسِّدها الاحتلال الأجنبي لأجزاءٍ واسعة من السُّودان، سواء كان الاحتلال بالسلاح/القُوَّة أو بسبب المال. وكمثال، فإن مصر تحتل مُثلَّث حلايب وغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة وبعض شمال دارفور، بخلاف تمليك المصريين لمليون فَدَّان بالولاية الشِمالِيَّة (مشروع الكنانة)، وعبثهم بمياهنا الإقليميَّة في البحر الأحمر، وإتاحة ثرواتنا الزراعِيَّة (النَّباتِيَّة والحيوانِيَّة) للمصريين بأبخس الأثمان، ودون مردود إيجابي و(مُوثَّق) على الاقتصاد. وفي ذات السياق، شَيَّدَ الإثيوبيُّون قُرىً كاملةً بمَحْمِيَّة الدِنْدِرْ، عقب احتلالهم لأراضي منطقة الفشقة وما حولها منذ عام 1995، مع القتل والنهب للمُواطنين السُّودانيين وابتلاع ثرواتنا الزراعيَّة والحيوانِيَّة أيضاً، كما يفعل المصريُّون تماماً. ومن جهةةٍ ثالثة، تُوجد مساحات شاسعة منحها المتأسلمون للإمارات وتركيا والصين وروسيا والسعوديَّة، بما في ذلك موانئنا البحرية (ميناء بورتسودان + ميناء سَوَاكِن). والأخطر من ذلك، أنَّ جميع هذه الدول باتت تُسيطر على مُجريات الأحداث في السُّودان، عبر عُملائهم الدَّاخليين وعلى رأسهم حُكَّام السُّودان الحاليين، سواء كانوا عساكر/جنجويد أو مدنيين أو (المقاطيع) القادمين عبر اتفاقِيَّات جوبا الكارِثِيَّة، وهي حقائق مُعاشة نحياها جميعاً وتثبت (عدم استقلالنا) وحاجتنا للحرية والكرامة/السيادة الوطنية.
يُعاني السُّودانيُّون من غياب الأمن والسلام، حيث الاعتقالات والإعدامات والإفقار والتجهيل المُتواصل، وجرائم الحرب والإبادة الجماعِيَّة، ونَزْعْ/مُصادرة الأراضي والمَنْعِ من العمل وغيرها من المظالم! المؤسف أننا عاجزون عن محاسبة ومحاكمة (رُعاة) الإجرام و(عَرَّابي) القتل لأنهم يعملون في أعلى مراتب الدولة! من المُدهش حقاً أن السودانيين ثاروا ضد البشير وعصابته الإسْلَامَوِيَّة، وأجبروهم على (الاختفاء) ثم وافقوا بالمُجرم البرهان والمُرتزق حِمِيْدْتِي، رغم جرائمهما البشعة ضد السودانيين، كمجزرة القيادة التي أقرُّوا بارتكابها صوت وصورة، ومع ذلك ما يزالون يحكمون البلاد! أما الاتفاقات التي أبرموها مع (الطفيليين)، فهي لم تستوفِ (استحقاقات) السَّلام، أو ترفع المظالم المُتراكمة، وإنما عَزَّزت سُطوة القَتَلَة والمُجرمين والفاقد التربوي، ووزعت (العَطَايا/المناصب) على الانتهازيين وتُجَّار الحرب، ومَهَّدت الطريق لنهب وبيع البلاد كما يجري الآن!
من مظاهر غياب الاستقلال أيضاً، تَغَيُّر التركيبة الديمُوغرافِيَّة للسودان، حيث أحضر المُتأسلمون مجموعاتٍ أجنبيَّةٍ عديدة، ومنحوهم الجِنسيَّات والأوراق الثبوتِيَّة والأراضي والأموال، خاصة بدارفور وشرق السودان. بعضُ أولئك (الوافدين/المُجنَّسين) تَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، وارتكب أبشع الجرائم ضد السُّودانيين والتي من أخطرها الاستقطاب في المليشيات على أُسُسٍ إثنِيَّة، مع ملاحظة أن (المُجَنَّسين) لا يحترمون السودان أو يحرصون على مصلحته وأمنه، وينعكس هذا الأمر في تآمرهم المُتزايد لبيع وإتاحة مُقدَّرات السودان للعالم الخارجي دون تَرَدُّد، لأنَّهم لا ينتمون لهذه البلاد ولا يشعرون بالانتماء إليها، وولائهم المُطلق لبلادهم الأصيلة! لذلك، فإن ما تم من تغييرٍ لتركيبة سُكَّان السُّودان، يعتبر خيانة عُظمى، ويعكس أبشع أشكال الاحتلال، وغياب الاستقلال والسيادة الوطنية.
يعتبر التراجع الاقتصادي من نواقص استقلال السودان أيضاً، لأن الاقتصاد يمكن استغلاله لتركيعِ الشعوب، ومن هذا المنطلق سعى المتأسلمون لتدمير الاقتصاد السوداني بصورةٍ ممنهجة، فقاموا برهن وبيع الأراضي والمشروعات الناجحة، وإغراقنا في ديونٍ ضخمة قاربت الـ60 مليار دولار. وأتى من بعدهم حمدوك (المُخادع) وقحتيُّوه، وأغرقوا البُسطاء/الغافلين في أكاذيب الانفراجات الاقتصاديَّة المُستندة على المِنَح/القروض، وهذا وَهمٌ وتضليلٌ (مُركَّب) لم نَجْنِ منه غير المزيد من التَرَاجُعِ والدمار. لأنَّ هذه المِنَح أو القروض (مُستحقَّة الدفع) سواء مالياً، أو من إرادتنا التي ما نزال نسعى لتحريرها، والانفراجات الاقتصادية تكون (شَكْلِيَّة/مرحلية)، كالتَحَسُّنِ الطفيف والمؤقت في قيمة الجنيه، أو أسعار السِلَع/الخدمات، لكن مظاهر الانهيار تعود بسرعة! فمشاكل السودان الاقتصادِيَّة بِنْيَوِيَّة/هيكليَّة، حيث تم تدمير جميع عناصر الإنتاج، وهذه حالة يستحيل مُعالجتها بأكاذيب إعفاء الديون أو رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، أو بالعلاقات المزعومة لهذا أو ذاك وغيرها من المَتَاهَات!
هناك معضلة النُخَب المُتعلِّمة الذين تركوا أدوارهم الأصيلة في التوعية وقيادة التغيير الحقيقي، وأصبحوا (أسرى) للموصوفين بقَادَة للكيانات الطائفية أو العرقية، ويُقاتلون دفاعاً عنهم وعن أُسَرهِم أكثر من البلاد المُهدَّدة بالتلاشي، رغم فشل أولئك (الرموز) وتركيزهم الدائم والمُفرط على السُلطة والثروة و(توريثها) لأنجالهم! بعضُ النُخَبْ انزوى بعيداً، وبعضهم شَارَكَ في تدمير البلاد، وقليلون فقط الصادقون لكنهم بلا أثر وبحاجة لجهود البقيَّة. وأكبر (نكبات) النُخَبْ السُّودانية، تتجسَّد في تساؤلهم الدَّائم عن (البديل)، دون أن يُفكِّروا أن يكونوا هم البُدَلاء، بما يعكس حجم القاع الذي بلغناه! أمَّا نحن عامَّةُ السُّودانيين، فغالبيتنا واقعٌ في فِخَاخِ (الإلهاء)، والانتماءات العرقية والحزبيَّة و(تقديس) الأشخاص، ولنتأمَّل في حراكنا الشعبي الفريد الذي تركناه للمُغامرين والكاذبين، وبعضنا يكتفي بمُتابعة الدرامات والأزمات (المصنوعة) والتَنَدُّر فيها، ثُمَّ الاتكاء انتظاراً لدراما جديدة، وبعضنا يستميتُ في الدفاع عن الخونة والمأجورين، بينما تزداد أوضاعنا سوءاً يوماً بعد يوم!
إن أوضاع السودان الحالية أخطر بكثير مما كانت عليه إبَّان الاستعمار (المُعْلَن)، والذي لم يفعل ما فعله حُكَّام السودان منذ إعلان استقلاله سنة 1956، وأسوأهم المُتأسلمين الذين ما يزالون يسيطرون على البلد حتى الآن، عبر أزلامهم البرهان ورفقائه. وهنا، ينبغي علينا (نحن السودانيون)، ألا نلوم العالم الخارجي الساعِي لتحقيق مصالحه وإشباع أطماعه فينا، لأنَّهم يفعلون ذلك عبر (وُكلائهم/عُملائهم) الذين حكموا بلادنا وما يزالون، وهم سودانيين مثلنا. بعبارة أكثر وضوحاً، فإن الأوضاع المعقدة التي نحياها الآن صنعها السودانيون الذين حكمونا منذ إعلان الاستقلال وحتَّى الآن، وهم ينحدرون من (جميع أنحاء) البلاد بلا استثناء، ولم يأتوا من كوكبٍ آخر، ونحن كشعب ساعدناهم بتفريطنا في سيادتنا الوطنية وإفراطنا بالتعاطف معهم والدفاع عنهم، سواء لأسباب عرقية أو طائفية أو اجتماعية، وبدلاً من توجيه اللوم على الآخرين، ينبغي علينا الإقرار بمسئوليَّتنا (جميعاً) عن الدمار والفشل الماثل، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية بلادنا وسيادتنا الوطنية، وإلا فلنستعد للمزيد من التراجع والانحدار!
المُحصِّلة أنَّ بلادنا الآن (مُسْتَبَاحة) تماماً بسبب حُكامها العُملاء/الأجانب، وعلينا إدراك هذه الحقيقة والإقرار بها بوضوح، ثُمَّ التحرُّك بجدِيَّة ونظامٍ وحزمٍ وسرعةٍ لإنقاذ أنفسنا وبلادنا قبل فوات الأوان. وهذا يتطلب تصحيح الكثير من المفاهيم عن (جوهر) ومضامين الاستقلال، وعدم (تقديس) الأفراد وإزاحة المُتخاذلين واختيار حكام وطنيين وشرفاء يعملون لمصلحة السودان، دون وصاية (داخلية أو خارجية)، وفق مبادئ الإدارة العلمية الرصينة مع مُراقبتهم ومحاسبتهم دون تردد أو محاباة. ينبغي أن نسعى بجدية لتحرير بلادنا وفرض سيادتنا على كامل أراضينا، والتعامل مع الدول التي تحتلها بحزم لأنها دول معتدية وليست (شقيقة)! واستقلالنا الحقيقي يكون بتعزيز وحدتنا وإيقاف تغيير تركيبتنا السُكَّأنِيَّة، والإسراع بإلغاء جميع الجنسيَّات والأرقام الوطنِيَّة الصادرة منذ 1989، وإخضاعها للمُراجعة الدقيقة ثم مُحاكمة جميع وزراء الدَّاخلِيَّة ومُدراء الشرطة ومُعاونيهم، وكل من يثبُت تَوَرُّطَه في استخراج ومَنحِ الجنسيَّة السودانية لمن لا يستوفيها، باعتبارها "خيانة عُظمى"، والعودة لقوانين الجنسيَّة التي كانت مُطَبَّقة سابقاً. نحن نحتاج أيضاً للصدق وإعْمَالِ الفكر والتخطيط السليم المدعوم بقُوَّة الإرادة لتحسين اقتصادنا المُتهالك، وإيقاف العبث بمُقدَّراتنا ومواردنا المُستباحة، بدلاً عن الأكاذيب/التضليل والتَوَرُّط في المزيد من القروض.
من الجيد أن نحتفي بالاستقلال ونسترجع سيرة أجدادنا وبطولاتهم التاريخية، ولكن الأوجب أن يرتقي احتفاءنا بالاستقلال لمستوى حماية الإرث الحضاري والأخلاقيٍ الذي تركه لنا الأجداد، وهذا ممكنُ جداً بقليلٍ من التخطيط والتنظيم والقيادة (الأخلاقيَّة) المتجردة والمخلصة للسُّودان (الأرض والشعب).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفكيك حماس واستعادة المحتجزين ومنع التهديد.. 3 أهداف لإسرائي


.. صور أقمار صناعية تظهر مجمعا جديدا من الخيام يتم إنشاؤه بالقر




.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرغب في تأخير اجتياح رفح لأسباب حزبي


.. بعد إلقاء القبض على 4 جواسيس.. السفارة الصينية في برلين تدخل




.. الاستخبارات البريطانية: روسيا فقدت قدرتها على التجسس في أورو