الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزلزال بين السياسة والوجدان

راتب شعبو

2023 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


في أواخر العام 1996، كنا في سجن تدمر الفظيع الذي يجعلك تكرر في نفسك، "بأي ذنب"، كما تفعل الموؤودة، حين ضجرتْ الأرض من استقرارها وتحركت غير عابئة بشيء. كان ذلك لقائي الجدي الأول بهذا الرعب الذي يسمى الزلزال. كانت المناشف المعلقة على الحبل، هي الشيء الوحيد القابل للحركة في المهجع بما يمكن أن يشير إلى زلزال، فلا رفوف أو خزن تسقط عنها مقتنيات، ولا مكتبات تنزلق منها الكتب، ولا أسرة تتحرك. لا شيء هناك سوى جدران صماء وكتل من اللحم البشري الحي المحروم من الحياة. ولكن ليست الحركة هي التي أيقظتنا في ذلك الليل الرهيب، بل الأصوات. أصوات تشبه الرعد، ولكنها أكثر ثقلاً وديمومة، كأن هناك عدداً غير محدود من الشاحنات المحملة بالحجارة والصخور تفرغ حمولتها في وقت واحد في هاوية لا قاع لها. كان هذا هو الصوت الغالب، يمتزج مع صوت الأبواب الحديدة للمهاجع وهي ترتطم دون توقف بإطاراتها الحديدية، مع صوت غريب آخر يشبه صوت قطعان من الخيول تعدو على سطح المهجع. لم ندرك للوهلة الأولى ما يجري، إلى أن همس "يوشع" تلك الكلمة مرتين متلاحقتين: "زلزال، زلزال". قال "يوشع" ذلك همساً، لأنه ينبغي أن لا يصدر أي صوت عن تلك الكائنات البشرية المخزونة. حينها التقت الكلمة بمعناها لأول مرة في ذهني. الحقيقة أنه لم يكن لهذه الكلمة نفس المعنى في ذهني. حتى يمكنني أن أقول إنه لم يكن لهذه الكلمة، قبل ذلك، معنى في نفسي، كان لها ظل من المعنى، أو هيكل فارغ لمعنى. أما حينها فقد اكتظ الهيكل بالمعنى، أو تكشف لي المعنى دفعة واحدة بكل ما فيه من رعب وهول. وفي نفس لحظة اكتمال المعنى تلك، عصر روحي بقسوة ساحقة الحضور الكثيف لمعنى آخر، هو السجن. أنت سجين، وأمام هول الزلزال ليس لك من مهرب، يبقى أن تستسلم وتكون شاهداً حياً مرعوباً على الدمار المادي الذي يمكن أن تلحقه بك هذه القوى الجبارة المنفلتة.
هكذا عشنا ما يجعلننا نعرف جيداً ماذا يعني أن تجتمع عليك الأهوال، أن تهاجمك قوى الطبيعة الجبارة وأنت سجين معدوم الحيلة، وأن يتزاحم في قلبك خوفان، خوف من بشر منظمين مسلحين قساة، يختزلون علاقتهم بك إلى حدود أن تكون كائناً خاضعاً لسيطرتهم، وأن تكون مجرد موضوع لتسلطهم المبني على القوة فقط، وخوف آخر من هول طبيعة عمياء لا تدرك ذاتها.
استحضرت ذلك الشعور مع متابعة قصص الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسورية، وسماع تفاصيل معاناة وأحاسيس الأهالي المذعورين المحرومين من النوم وهم يمكثون في البرد والريح وتحت المطر ولا يجرؤون على الاحتماء في بيوتهم خشية أن تنهار عليهم. للزلزال في جبروته القاهر منطقه الخاص، فقد يعف عن نوع من البائسين ممن يسكنون الخيم، ولعله كشف الميزة الوحيدة لهؤلاء، فهو لا يملك قدرة كبيرة على من لا يعيشون في مساكن قابلة للانكسار والتحطم، لكنه بالمقابل يقسو على نوع آخر من البائسين ممن يعيشون في مساكن فقيرة المبنى وسريعة الاستجابة لنداء السقوط.
الزلزال لا يفرق بين سوري وآخر، لا يقف على الحواجز، ولا يكترث بحدود اتفاقيات تهدئة معلنة أو مكتومة، ولا تعنيه قرارات مجلس الأمن بشيء، ولكن السؤال الذي يتكرر طرحه انطلاقاً من أسبقية الإنساني على السياسي: هل تستطيع الطبيعة اللاتمييزية للزلزال أن تنتج قوة توحيدية قادرة أن تجمع السوريين؟ هل تستطيع المأساة الطبيعية أن ترتق ما فتقته المأساة السياسية؟
الواقع أن ذلك لا يبدو ممكناً، لأن آليات ومحركات المأساة السياسية مستمرة، وتسعى إلى توظيف كل شيء، بما في ذلك الكوارث الطبيعية، في خدمة استمرارها. والواقع أنه منذ أن نشأت الدول والسلطات السياسية لم يكن للإنساني أسبقية على السياسي. أسبقية الإنساني لا توجد إلا في قلوب المحكومين، وهؤلاء في معظم الأحيان، لا يمتلكون القرار.
ولكن حتى قلوب المحكومين السوريين الذين تلاحقهم النكبات أينما حلوا، لا تستطيع أن تتقبل "أسبقية الإنساني" إذا كان ذلك ينطوي على ما تسميه الصحافة "إعادة تأهيل نظام الأسد". لا يستطيع هؤلاء أن يقبلوا، تحت تأثير كارثة عابرة مهما كبرت، فتح أذرعهم لكارثة دائمة خبروا دمارها المباشر على مدى يزيد عن عقد من الزمن. لا عجب في ذلك بعد أن عانى السوريون ما عانوا من انقلاب "دولتهم" عليهم، فيما يشبه زلزالاً مستمراً يهدم ويقتل ويشرد على مدار الساعة. لا يتوقف هذا الشعور على السوريين خارج مناطق سيطرة طغمة الأسد، ولا على السوريين الذين يرفضون قلباً وقالباً (أو قلباً فقط) هذه الطغمة، بل يشارك به السوريون الذين يأخذون جانب النظام في هذا الصراع، هؤلاء أيضاً يدركون الفساد الفظيع للنظام، وعجزه عن مد يد العون إلى المنكوبين ولا مبالاته بهم، واستعداد زبائنه وأزلامه لسرقة المعونات كي يدعموا آلة استمراره واستمرارهم ولو على حساب أرواح المنكوبين. هل يمكن لعاقل، مهما يكن موقفه من الصراع السوري، أن يستوعب إصرار أجهزة النظام السوري على من يريد تقديم المساعدات إلى الأهالي المنكوبين في المشافي، الحصول على تصريح أمني، أو أن يسلمها إلى مجلس المحافظة؟ المتعلقون بالنظام أنفسهم باتوا يعلنون قناعتهم بأن الهدف من ذلك هو سرقة المعونات. الشعور الأول أمام هذا الحال هو الخجل أو الخزي.
في الزلزال ما يشبه الاستبداد، في كليهما يصبح ما بنيته كي يحميك، أو ما تحتمي به عادة (البيت في حالة الزلزال، والدولة في حالة الاستبداد) هو ما يهلكك، وهو ما تفر منه. يصبح الخروج من البيت إلى العراء هو الملاذ من الهلاك للمنكوبين بالزلزال، ويصبح الخروج من "الدولة" هو ملاذ المنكوبين بالاستبداد. في الحالتين يتعرض البشر لخيانة. خيانة من الطبيعة "الأم"، وخيانة من أبناء نوعهم حين امتلكوا المقدرة. أما السوريون الذين قضوا أو أصيبوا في هذا الزلزال، فقد كانوا ضحايا خيانتين. حين تدبروا أمر خيانة الاستبداد ونجوا بأنفسهم من الهلاك الذي تلاحقهم به "دولتهم"، اغتالتهم خيانة أخرى على أرض أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟