الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى ثقافة الخوف وحاجة جبال الأطلس الكبير الشرقي المغربية إلى جبر الضرر الترابي

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2023 / 2 / 24
حقوق الانسان


يسود الخوف حينما يترهل وضع السلطة المركزية التي تولت أمر جماعة إنسانية ما، أو تغيب السلطة لسبب ما في الوسط الاجتماعي، أو ينهار الأمن بفعل مؤثر ما، كحدوث الصراع حول موارد الطبيعة بين سكان مجالين وظيفيين متقاربين. والقلق الأمني ظاهرة تكاد تنتشر في كل عصر ومصر، والمغرب لموقع الإستراتيجي بلد القلق الأمني بامتياز. ولئن كان الإنسان في المجتمعات ما قبل انتشار الدولة الحديثة يتوجس من هلاك الحرث والنسل بالحروب أو الجوع والوباء فقد استمر على تلك الحال مع الأنظمة الديكتاتورية في ظل الدولة الأمة، حيث عمّ قمع الحريات الفردية واستفحال الاعتقالات والمضايقات. ولعل الحرب على أوكرانيا ابتداء من يوم 24 من فبراير (شباط) من العام 2022 خير مؤشر على أن القلق الأمني قائم في الحال ولو اتخذ أشكالا أخرى. فالخوف هاجس يضرب له ألف حساب ويجري التخطيط لدرئه والوقاية منه لأن الأمن، في نهاية المطاف، الإحساس بالاطمئنان وعدم الخوف. ولقد نتج عن مجهود الإنسان إذ يواجه الخوف إنتاج مجموعة من القيم أدرج بعضها في النظم التقليدية بالمغرب والأعراف وضمن في الأنساق الثقافية للجماعة الإنسانية. وفي الأوساط القبلية تبرز قيم العنف والمواجهة وينشط إنشاء تحالفات اجتماعية تحسبا للانهيار الأمني وطالما يعبر عن تلك القيم بسلوكات متنوعة، كالانغلاق والاحتراز والادخار.
ويبطن المعمار التقليدي آثار الخوف من ذلك التحصين بالخنادق والأسوار واختيار أحسن المواضع المحصنة طوبوغرافيا لبناء الدور والقصور والمدن. ولايزال الجنوب المغربي محتفظا على قرى محصنة زاخرة بذاكرة الخوف المادية، وهي ذاكرة لا تزال حية في مظاهر الانغلاق والتقوقع وعزوف عن مؤسسات الدولة. فالعنف وقعه حي في الذاكرة الجماعية وهو مجال للتذكر. هنالك ترى جماعات تجسد العنف في أزيائها وفي طقوس العبور كالولادة والزواج والجنائز فضلا عن الختان. ولدرء الخوف وترسيخ الأمن تلجأ الجماعات إلى سن الأعراف المقيدة لكل سلوك من شأنه أن يسبب الفوضى في الوسط، ويسبب أسس الاستقرار.
إن الحديث عن الخوف في العقد الثالث من القرن 21 في المغرب مجازفة، لأن المجال يثير الاستغراب، إن أريد الاقتصار على المغرب، بعد صدور دستور 2011، وبعد اشتغال الدولة على الأرضية الوطنية في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتصديق مجموعة من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان وإعمال العدالة الانتقالية. فالخوف مجال لم تعد أسسه قائمة في الحال، ورغم ذلك، يبقى المؤشر الحقيقي للأمن كامنا في قدر ما يشعر به المواطن من الاطمئنان. فهل عمّ الاطمئنان كل الأوساط في بلادنا؟ قد يكون الجواب بالنفي، ذلك أن ثقافة الخوف مابرحت تتضح رؤيتها في بعض الأماكن، نحو تلك التي عاشت وضع «السيبا» قبل إرساء بعض المعالم الحديثة في التحكم مع الحماية الفرنسية، وهي نفسها التي قاوم سكانها الاستعمار الفرنسي الذي يحسبونه آت لتدمير أنساقهم الثقافية ومضايقتهم وتعميق الخوف بينهم. وفي نطاقات «السيبا» أوساط كتب لها أن تعيش نصف قرن من الزمان في أهوال سنوات الجمر والرصاص، نحو إملشيل، وأملاكو، وتودغى، وتزمامارت وكرامة، ولا تزال تبطن مواضع زاخرة بالذاكرة.
ومن جانب آخر، تندرج ثقافة الخوف ضمن التراث الثقافي الشفاهي الذي يحسن جمعه وتصنيفه. ففي المغرب نطاقات سوسيومجالية تزخر بثقافة الخوف ما فتئت تعرقل مشاركة السكان في البرامج التنموية. ولطغيان قيم الخوف تكاد الظاهرة أن تمثل كارتوغرافيا، وتُلبس بعض المواطن البعيدة عن المخزن المغربي ألوانا قاتمة، ألوان الرصاص في أماكن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وبعيدا عن ثنائية المخزن و«السيبا» التي طبعت المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، وهي شأن داخلي يبدو في بعض الأوساط غير ذي تأثير ملموس لايزال الخوف متصلا بالتدخل الأجنبي، نحو هجوم «البرطقيس»، البرتغال في القرن الخامس عشر الميلادي، وهو الهجوم الذي لا يزال السكان يربطون به مجموعة من الوقائع، بالحق أو بالباطل، ونحو الاحتلال الفرنسي والإسباني، وكل تلك الهجومات مهددة لاستقرار المغرب، وكلها غرست الخوف في جل الأوساط، وبدرجات متفاوتة. وبالمقابل، يمكن القول، إن الخوف ظاهرة إيجابية لمصاحبته قيم المقاومة في كل أشكالها، كقيم الدفاع الذاتي، وقيم مواجهة ندرة الموارد الطبيعية والأوبئة والأمراض، والنزوع نحو التكاثر الطبيعي.
تروم ثقافة الخوف استقصاؤها النبش في فصول الكرامة والدفاع عنها وصيانتها. وما كان النجاح في الصمود أمام المنعطفات التاريخية لولا قيم الخوف الثاوية في المجالات التالية:
- الأعراف وفصول الخوف
- المعمار والاحتراز والخوف
- النظم التقليدية والتحصين ودرء الخوف
- الأقليات العرقية والإذلال والخوف
- بساط الدفن والخوف
- الخوف المجسد في أزياء النساء وفضاء رؤوسهن
- المنعطفات التاريخية والخوف
- المواقع الإستراتيجية والخوف
- مقاومة الاحتلال الفرنسي
ولما كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تضمين ذلك في دراسة موسوعية تشمل كل تراب المغرب باعتبار البلد واجه عدة مخاطر ومر بمنعطفات تاريخية صعبة، وحوى مواطن الخوف ومواقع الضمير جمُل لو أنجزت دراسة تركز على مجال واحد يشكل مرجعا تقاس عليه دراسة أخرى في المستقبل. وتبدو حبال الأطلس الكبير الشرقي خير نموذج لأنها تمتد في نطاق «السيبا»، رغم اهتمام السلطة المركزية بالشريط الذي تعبره الطريق التجارية سجلماسة فاس، وهو شريط يلبس لباس المخزن أحيانا، لكن استقراره لا يدوم على حال، فكان، على مر العصور، بساطا شهد الكثير من التقلبات. ولأن هذه الجبال لم تعرف، بما هي آداة للسيطرة والتحكم، قبل سنة 1934، فإن الدولة التي سلف أن فرضت نفسها بالحديد والدم في عهد الحماية الفرنسية، وبالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الرصاص مدعوة لتنعت نفسها بالملموس أنها لم تعد تحافظ على الوجه الذي يحاكي سلطات الاحتلال الفرنسي، ولا الوجه الذي نزلت به الميدان في سنوات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لا بد لها من تقديم نفسها بصورة أخرى توضح أنها كيان اجتماعي سياسي هدفه تحقيق الأمن بالمفهوم الشامل. ولتحقيق ذلك المراد لزم بذل مجهودات مضاعفة.
ولئن كان الاحتلال الفرنسي اهتدى إلى وجوب إعمال العرف في الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق والإرث فإن سلطات الاستقلال تأثرت بالسياسة الاستيعابية الهادف إلى طمس ثقافة الجماعة الأصيلة وقيمها التي راكمتها في أيام «السيبا». والسياسة الاستيعابية في حد ذاتها آداة لتعميق الخوف وعدم الثقة بين سكان الجبال والدولة.
ومن جانب آخر، لم تجر ملامسة جبال الأطلس الكبير الشرقي بكامل العناية، وهي، فوق ذلك، رهينة ثقافة الخوف إلى حدود يومه. قد يقول قائل: لقد سلف أن أتيحت لها فرصتان مهمتان كلتاهما مؤهلة لمعالجة الجرح وتمكين المنطقة من تجاوز وقع المنعطفات القديمة:
- فرصة التنمية مع نزول البرامج التنموية نحو «فيدا»، أو برنامج الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، أسوقه نموذجا بما هو برنامج يخص المناطق الجبلية ويروم القضاء على الفقر. ولم يأت البرنامج أكله المنتظر، فجل مشاريعه هشة، وبعضها انهار بعيد إتمام الإنجاز بقليل كالجدران الواقية للتعرية بواد زيز، وخاصة تلك المجاورة لقرية زاوية سيدي بوكيل بجماعة امزيزل بإقليم ميدلت. ولم تغير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية شيئا في ما له علاقة بتدني ظروف العيش في منطقة تكاد تكون مجرة من الموارد الطبيعية.
- فرصة جبر الضرر الجماعي بأربع مواضع، أملاكو بحوض غريس، وإملشيل (جماعة إملشيل، وجماعة بوزمو) بحوض واد العبيد، وتزمامارت بحوض كير، وكرامة بحوض زيز. والبرنامج موجه في جوهره لغاية ترسيخ المصالحة وإعادة الثقة بين هذه المناطق والدولة، وإن شئت فهو فرصة لتجاوز أهوال التوجس والخوف، وإن كان ركنه رصد صلة تخلف التنمية بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. والبرنامج مشاريعه فاشلة بالمرة، وإن أسست بداية حسنة ومشجعة للحفظ الإيجابي للذاكرة بصدور كتاب: إملشيل الذاكرة الجماعية، وإنشاء ورشة الاعتناء بالخيمة الأمازيغية بقرية تازمامارت. ولم ينزل أي مشروع بكرامة [بكاف معطشة] على الضفة اليسرى لواد كير. والغريب في الأمر أن حوض كير مهمل في تعيين أعضاء اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة درعة تافيلالت، في ولايتين متتابعتين. وفي الحوض ذاته أسر من قبيلة أيت موسى لا تكسب الحق في الهوية وفي الأرض.
وما وراء سؤال تنمية المناطق الجبلية وفشل إعمال جبر الأضرار الجماعية بها، لا شيء يروم ترسيخ الثقة بين السكان والدولة وبينهم وبين الأرض، وإن كانت هذه الأخيرة قائمة على ثقافة الدم، وكأن المنطقة تعيش في ظلام القرون الوسطى. ومادامت قيم الخوف قائمة فالمنطقة أحوج إلى جبر الضرر الترابي، وهو مشروع غير مفكر فيه، في الحال. وليس هناك ما يدعو للتفكير بعيدا قبل ملامسة قيم الخوف والاحتراز لصلتها بعرقلة الآداء المؤسساتي كالمدرسة والمستوصف وإدارة الفلاحة والزراعة.
ومن جانب آخر، تعد ملامسة القيم في كليتها حقلا ذا صلة بالتراث الثقافي الشفاهي وهو حقل مهمل غير مفكر فيه إلا إذا اتصل بالجانب الفولكلوري نحو الإشراف على مهزلة تزويج القاصرات بموسم إملشيل الذي أريد له أن يسمى موسم الخطوبة. وحسبنا أن السلطة الإقليمية أشرفت على تزويج 35 بنتا قاصرا يوم 21 من شهر شتنبر من العام 2022. ولئن كان المجلس الوطني لحقوق الإنسان التفت بعض الوقت إلى منطقة «تونفيت» لتشجيع تمدرس الفتاة بها فلا تزال عينه لم تبصر بعد منطقة إملشيل، مما يكشف أن شعار «فعلية حقوق الإنسان» نسبي غاية. وبعيدا عن الفاعلية في الآداء الحقوقي فالمنطقة أحوج إلى جبر الضرر الترابي. ويقضي الجبر ها هنا مراجعة برنامج جبر الضرر الجماعي بالمنطقة وتقييمه، وجمع القيم المتصلة بالخوف والانغلاق والفرار من المؤسسات، وتسطير برامج تروم ترسيخ الثقة. وهل السلطات مستعدة لتلك الغاية؟ يلاحظ في الميدان تفريخ القيادات، أو ملحقات الدوائر الإدارية لوزارة الداخلية، فكان ميلاد ملحقة سيدي عياد وملحقة بوزمو وملحقة النزالة ومقاطعتين اثنتين بجماعة الريش الترابية، مقاطعة الأقواس ومقاطعة موضع فوتيس، نسبة إلى مواطن إغريقي اسمه فوتيس ديلياكوس الذي بنى مقهى على الطريق الجهوية رقم 21 سابقا والتي تحمل اسم الطريق الوطنية رقم 13 حاليا. ولقد جيء بالقواد (جمع قائد) لمزاولة عملهم في المقاربة الأمنية، وهي المقاربة التي تعمق الخوف في نفوس المواطنين. وحسبنا أن أعوان السلطة يكادون يتقمصون صفات حراس الجمارك. وإذا حدث أن زار مواطن شرق جماعة النزالة الترابية فقد يعترض سبيله أحد أعوان السلطة ليطلب له تاريخ زواجه وأسماء أبنائه، وترخيص الجمعية التي أرسلته، ويأخذ صورته ويتقفى أثره، ولا يسمح له بالاستخلاء للتبول، وفي كل لحظة يهاتف السلطة فيخال الزائر أنه ليس في بلده المغرب. ولا ينفع الأمن الذي يضمنه القواد وأعوانهم مع انتشار مشاعر الخوف، ذلك أن هؤلاء يضمنون الأمن بمفهومه الضيق ويعمقون الخوف بمضايقتهم للسكان. وفوق ذلك قالقيادات المفرخة بالوسط تنهل نهجها في التسيير من القيادات العتيقة التي شهدها الوسط، وهي قيادات تقليدية عشائرية. ودون الاسترسال في سرد الأمثلة، نشير إلى أن الخوف أسبابه لا تزال تتغذى بالمقاربة الأمنية. وإن المؤشر الحقيقي للأمن يكمن في مقدار ما يشعر به المواطن من الاطمئنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تاريخ من المطالبات بالاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في ا


.. فيتو أمريكي ضد منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم الم




.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية


.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال




.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال