الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إسكوبار في -ناركوس-، تاجر مخدرات بعقلية صاحب قضية هل يمكن للحب أن يغسل الجريمة من عارها؟

راتب شعبو

2023 / 2 / 27
الادب والفن


لا يمكن اختصار القصة بأن رجلاً من منبت فقير اسمه بابلو اسكوبار، استطاع أن يصبح في عداد أثرياء العالم عبر تجارة المخدرات. مثل هذه القصة لا تقول سوى أنه استطاع أن يجمع في البداية، ثروة صغيرة من شتى صنوف الأعمال غير الشرعية، من الابتزاز إلى سرقة أي شيء، بما في ذلك شواهد القبور، إلى الخطف مقابل فدية، بما في ذلك خطف وقتل أحد أكبر أثرياء ميديلين وأكثر الرجال كرهاً فيها بسبب معاملته السيئة للناس، الجريمة التي جعلت بابلو محبوباً في المنطقة وزودته بأول لقب له "الدكتور"، دون معرفة الرابط بين اللقب والفعل، ربما لأنه استأصل هذا المرض، أو لأن العامة تنظر إلى هذا اللقب على أنه أفضل وسام. وستضيف القصة أنه استطاع بهذه الثروة الصغيرة، وباكتشافه سلاح "الرشوة" بديلاً عن سلاح مواجهة الشرطة، وباستعداده الدائم للجريمة، اقتحامَ عالم المخدرات الواسع وصولاً إلى سيطرته الكاملة على تجارة الكوكائين إلى الولايات المتحدة، واحتكاره 80% من تجارة الكوكائين في العالم.
هذه قصة عادية وربما بليدة ومملة، لأن طريق البطل فيها وحيد الاتجاه، ينطلق من وسط اجتماعي فقير كي يصل إلى وسط آخر ثري ويتمثل، ما استطاع، قيم هذا الوسط الجديد. قد يتعثر المغامر الطموح، ويتحطم على طريق طموحه، فتنقذه من عثرته صدفة ما، أو سرعة بديهة أو جريمة إضافية. وقد يفشل اندماجه في الوسط الجديد، ويبدأ طريقاً منحدراً ينتهي به إلى متمرد هامشي أو إلى نزيل في سجن أو في قبر. وقد ينجح المغامر الطموح ويصبح من نجوم الطبقة الجديدة بعد أن يتحول مع ثروته إلى أنشطة اقتصادية مشروعة تستر، أو لا تستر، أنشطة من النوع نفسه الذي أوصله إلى ما هو عليه. طيف الاحتمالات واسع، يمتد من الفشل وما يستجر من ثمن، أقله السجن، ويصل إلى النجاح في العبور إلى الضفة الأخرى والتمتع، ليس فقط بامتيازاتها، بل وبالدرع الذي يحميها. لكنها، بعد كل شيء، تبقى هذه قصص عادية لأفراد معزولين.
كما لا يمكن اختصار القصة بصراع بين القوى التي من شأنها أن تفرض القانون، والقوى الخارجة عن القانون. هذا صراع لا جديد فيه، وإن كان ينطوي، بطبيعة الحال، على الكثير من الدسائس والخيانات والحيل والرشاوى والإجرام والتدخل الامريكي والتعامل مع الشياطين أمثال اليمين المتطرف الكولومبي ومجرمي لوس بيبس ... الخ، وينتهي بقصاص من المجرمين يكلف آلاف الضحايا وتلال من الخسائر.
يمكن أن يكون تشييد سجن "لا كاتدرال" جانباً مثيراً ومسلياً في القصة. الفكرة بذاتها تليق بعالم "الواقعية السحرية" التي نبتت في تلك القارة، أن يقوم "مجرم" ببناء سجن على حسابه الخاص ووفق شروطه الخاصة، كي يقضي فيه عقوبته، فيبني سجناً شبيهاً بقصر يحتوي ملعب كرة قدم وطاولات بلياردو ومسبح وكازينو ويستقبل فيه من يشاء. هذا واقع ولكنه مسحور. ولإضافة لمسة لاذعة على سحر هذه "الواقعية"، يكون من شروط إسكوبار أن يختار حراس السجن، وأن تبقى الشرطة الحكومية على بعد لا يقل عن 3 كم من السجن. على هذا النحو يكون اسكوبار قد استسلم وسلم نفسه للحكومة، كي لا يتم تسليمه إلى الولايات المتحدة لأن "القبر في كولومبيا أفضل من السجن في أميركا" على ما يكرر.
أما القصة الحقيقية فهي قصة بابلو إسكوبار الذي لقبه الإعلام الرسمي بأنه "سيد الشر" بينما حمل في بلده لقب "روبن هود كولومبيا". القصة هي أن يحمل مهرب وتاجر المخدرات والمجرم هماً اجتماعياً عاماً، أن يفكر بأهل بلده فيقدم لهم المساعدة ويبني لهم مساكن وملاعب كرة قدم وكنائس، من أموال الجريمة. هنا يوجد ما يستوقف. اجتماع الجريمة والهم العام لدى فرد. هل يمكن أن تحمل الجريمة الهم العام، وهل يغسل الهم العام، أو حب العامة، الجريمة من عارها الأخلاقي؟ لا يتعلق الأمر بالسياسة. هناك تنظيمات سياسية تلجأ إلى الجريمة لغاياتها، ويمكن أن تسمي الجريمة نضالاً أو جهاداً. أما جريمة اسكوبار فهي جريمته هو، جريمة تحمل اسمها دون مواربة، فهو لا يرتكب الجريمة لغرض عام أو خدمة لقضية عامة، بل يرتكبها في سياق صراعاته وحساباته الخاصة التي غايتها تحجيم خصومه وتسيير أعماله وجني أكبر قدر من الثروة. بهذه الثروة أشبع نهم المحروم الذي حاز على سبل وافرة (يقال إن هذا الرجل الذي اضطره الفقر أن يذهب حافياً إلى المدرسة في صغره، اشترى 800 منزلاً، إنه الحرمان أو "العين الفارغة" كما يقال)، واستخدم الثروة أيضاً في مساعدة الفقراء من أهل منطقته.
رجل بقدرات ذهنية ونفسية متميزة تمكنه من أن ينشئ شبكة تهريب مخدرات وأن يخترق أجهزة حماية القانون بالرشاوى والابتزاز والجريمة. يجمع ثروة هائلة ويوظف جزءاً منها لمساعدة الفقراء، حتى يصبح هذا الرجل معبوداً في نظر أهل منطقته "ميديلين"، وتوضع صوره في بيوت الفقراء كما توضع صور المسيح وأمه، ويحمل لقب "روبن هود كولومبيا". "أنا لست ثرياً، أنا فقير أملك الكثير من المال"، هكذا يضع اسكوبار الفارق بينه وبين الأثرياء الذين يحرسون دولة تحرس الفقر والحرمان في البلد. الثروة إذن ليست وسيلة للاندماج في وسط الأثرياء الذي يبدو أن إسكوبار ظل يحتقره، حتى وهو يتمتع بالسلطة التي توفرها الثروة. لذلك أحبه الفقراء وراح أطفالهم ينشئون خيط اتصالات فيما بينهم عن الأسطحة، بمثابة شبكة إنذار تخبر رجال اسكوبار بتحركات الشرطة لمنع المفاجأة. كان هذا يعكس مزاج معظم الأهالي، الذين بقي كثير منهم على "وفائه" له بعد مقتله، ويحتفظ بصورته على حيطان البيت.
على هذا المستوى من المال والشعبية وشبكات الحماية، ماذا يتبقى من حلم؟ يبقى أن يتوسع حلم اسكوبار نحو الجهة الوحيدة التي تتحكم بكل الجهات، وهي السياسة التي تحمي وتفتح الآفاق. أراد إسكوبار أن يشارك في هذه الدائرة التي تصنع "القوانين" وتحدد ما هو مشروع، وأيضاً تحمي أفرادها وتحصنهم. سيبدأ من مجلس الشيوخ وفي ذهنه برعم الحلم الرئاسي. كان هذا الحلم، الذي ما أن تحقق حتى انطفأ، هو لحظة الاندفاع إلى "الرسمية"، إلى ترسيم سلطته وترجمتها إلى قوة شرعية، ولكنها صارت لحظة الطلاق النهائي مع الدولة، والاتجاه نحو بناء دولة موازية.
في الجلسة الأولى له في البرلمان يستعير ربطة عنق حارس القاعة الذي نبهه إلى أنه لا يجوز دخول القاعة دون ربطة عنق. فيما بعد يوجه له وزير العدل كلاماً قاسياً بوصفه مجرماً ويطالبه بالخروج من القاعة، فيمتثل اسكوبار على نحو غريب لا ينسجم مع شخصيته، ربما لأنه يفتقد لأي خبرة أو معرفة سياسية. كان يمكنه أن يقول "أنا منتخب وخروجي يعني خروج من انتخبني وهم غالبية أهل المنطقة"، وكان يمكنه أن يقول "شرعية المنتخب الذي هو أنا، أعلى من شرعية عضو الحكومة غير المنتخب الذي هو أنت". ولكنه لم يقل شيئاً. خرج، ثم أعاد ربطة العنق إلى الحارس، وتعامل مع إهانة الوزير له بطريقته الخاصة: "الاغتيال". ليدخل بعدها في صراع رهيب مع الدولة الكولومبية، جعل القضاة الذين يحاكمون رجاله في المحاكم يرتدون الأقنعة لإخفاء هويتهم خوفاً من الاغتيال.
حمل إسكوبار في قلبه حقداً على النخبة التي تسيطر على البلد، من السياسة إلى الأمن إلى الإعلام. هل حمل هذا الحقد لأن هذه الدائرة كانت مغلقة في وجهه؟ أم لأنها كانت تحاربه؟ أم لآنها تنتج كل هذا البؤس في بلاده؟ يصعب القطع في القول.
اسكوبار محدث النعمة، فقد كان في طفولته، لا يملك حذاء يذهب به إلى المدرسة، حتى اضطرت أمه، التي لا تمتلك ثمن حذاء، أن تسرق حذاء من أجله. ويقال أنه وعدها منذئذ أن ينتقم لها من الفقر. ولكن، رغم أنه محدث النعمة، فإنه ليس بشخصية محدثي النعمة، لا يكترث بالمظاهر ولا بصنوف المتع التي يغرق فيها عادة محدثو النعمة، كالنساء والمجوهرات واللباس والخمور الفاخرة ...، كما يقدمه مسلسل "ناركوس" على الأقل.
إذا نظرنا في نمط حياته، فإن اسكوبار لم يخرج من جلده، رجل بسيط في لباسه وفي عيشته وعلاقته بأسرته الصغيرة، محب لعائلته إلى حد أنه يتحول إلى كتلة من الحنان والرقة داخل بيته، فهو لم ينفعل في وجه أحد منهم ولو مرة واحدة. يتعامل مع زوجته بحرص وحب لا يخفى. يحب أمه إلى درجة أنه لم يتوجه لها بكلمة لوم واحدة حين خالفت تعاليمه وأوشكت، بسبب ذلك، أن تتسبب في مقتل العائلة كاملة. أما أبوه الذي كان دائماً على رفض لما يفعله ابنه، فقد استقبله ببرود حين لجأ إليه بعد أن تهدمت شبكته وبات في الحضيض. وقد يكون من أسوأ لحظات حياته، وأقوى مشاهد المسلسل، حين قال له الأب، بعد إلحاح الابن بالسؤال عن رأيه به: "إنني أشعر بالعار".
لا ينطوي ما سبق على إعجاب بشخصية إسكوبار، فالجريمة، بوصفها كذلك، لا يغفرها شيء ولا يغسل عارها شيء. ولكن ما يجذب الاهتمام ويجعل من شخصية إسكوبار محل تأمل، هو، كما قلنا، هذا الجمع بين الجريمة وحب الناس. هذا يقول إن الطرق "الشرعية" للانتصار للناس ضد الفقر والحاجة ما تزال غير سالكة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي