الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات مسن في الثمانين

محمد حسين يونس

2023 / 3 / 24
سيرة ذاتية


بعد ستة أشهر من بداية الحرب العالمية الثانية ( سبتنمبر 1939 – سبتمبر 1945 ) ولدت (3مارس عام 1940 ) بواسطة داية كانت قد رجعت لتوها من الأراضي المقدسة .. فسمتني محمدعلي إسم من وضعت يدها علي شباكه .. الولادة تمت في منزلنا (1) حارة حسن المقاول المتفرعة من شارع النزهه .. و الذى يطل من الخلف علي شارع الشرفا .. غير بعيد عن شارع الملكة نازلي ( رمسيس حاليا ) .
كانت الحياة صعبة في تلك الأيام .. الأسعار في إرتفاع ..والألمان يتحركون بسرعة في إتجاه الأسكندرية .. و كل البضائع تذهب للقوات الإنجليزية التي تضم عساكر من استراليا و الهند و جميع دول الكومنولث يتحركون بحرية في القاهرة و الأسكندرية ..و يعيشون في معسكرات .. تحيط المدينة.. أكبرها في ميدان الإسماعيلية تظل علي النيل مكان مبني الجامعة العربية الحالي و فندق النيل هيلتون .
وكان والدى يعمل في وظيفة صغيرة في مصلحة التليفونات يرأسه إنجليزى فظ يحيل حياته لجحيم لو وجد علي مكتب من مكاتب الموظفين شوية تراب .. و كان علي والدى عندما يحدثه أن يضع الطربوش علي رأسه و يزرر الجاكيت و يقف إنتباه ..
كان مرتب الوالد خمسة جنيهات في الشهر .. لم تكفينا إلا بصعوبة و كان علي والدتي أن تدبر نفسها في حدودهم و لا تلجأ لوالدها ( حامد بك محمد ) ليعينها علي مواجهة الغلاء .. فقد كان غير راض عنها لأنها أصرت علي الزواج من أبي ..الذى رغم كونه إبن بك مثله ( علي بك يونس ) لكن كان جدى يراه غير مناسبا لها .. لقد كانت السيدات في أربعينيات القرن الماضي تستطيع أن تحب و تختار و تعارض أهلها و تتحمل تبعات حياتها دون أن تشتكي بسبب إختياراتها .
كان أمام منزلنا في شارع الشرفا مدرسة نوتردام ديزا بوتر .. للبنات ..وكان بها فصول حضانة أو روضة .. لذلك .. أرسلتني أمي لهذه المدرسة و عمرى ثلاث سنوات .
في المدرسة كان يعلمنا ( و يربينا ) الراهبات .. بزيهن المشهور و إنضباطهن البادى .. و كن يحاولن أن ينقلن لنا هذا الإنضباط و التحكم في النفس .. لدرجة أنني إحتجت أن أذهب لدورة المياة ..أثناء الحصة .. و لكن مس مارى رفضت .. فرجعت عدة أماكن لم يكن بها تلاميذ .. و أخرجته من البنطلون ثم طرطرت.. و عدت لمكاني .. بعد دقائق سارت المياة حتي وصلت أسفل أرجل الميس.. فتتبعت المجرى .. لتجده مكانا خاليا .. ثم جستنا جميعا لتجدنا جافين ..في الفسحة كنت أحكي لإبنة خالي عن ما حدث لاجد من يجذب أذني لاعلي .. و يقول لي .. باكر تحضر مامتك .. في اليوم التالي قصوا عليها ما حدث و هن يضحكن و كان رأيهن أنني ولد ذكي لذلك طلبوا منها أن أنقل لفصل أعلي من سني .
بقيت في ( نوتردام ) لسنتين .. في ذلك الوقت كان قد أصبح لي أخ (حامد أكتوبر 1941 ) كان السبب في فطامي المبكر و أخت (نهي 1945 )جاءت بعد نهاية الحرب فإنتقلنا لنسكن في شقة أوسع 41 شارع كنيسة الإتحاد .. تطل علي شارعي سوارس و كنيسة الإتحاد ونقلت إلي مدرسة الإلهامية الإبتدائية بنات .. و كان بها ثلاث سنوات للروضة .. فإلتحقت بالسنة النهائية مباشرة بعد إمتحان قبول و إملاء و حساب ..في نهاية السنة نقلت لمدرسة الإلهامية الإبتدائية بنين .. لأكون في أولي إبتدائي و عمرى ست سنوات .
الدراسة في مصر كانت ثلاث سنوات روضة أطفال .. ثم أربع إبتدائي نحصل بعدها علي شهادة عامة .. ثم خمس سنوات ثانوى نحصل علي الثقافة ثم التوجيهية .
مدرسة الإلهامية الإبتدائية .. 7 شارع بين الجناين .أنشأتها الأميرة أمينة هانم إلهامي أرملة الخديوى توفيق سنة 1911.. و سميت بإسم والدها .. كانت قصرا جميلا مقسما بين المدرستين ( البنات و البنين ) .. بأسقف عالية .. و شبابيك و أبواب مرتفعة و مزخرفة .. حوائطه من الخارج يزينها كرانيش و تماثيل .. و من الداخل تجد رسومات بالزيت تغطي الدهانات المتقنة الجميلة . ..لازلت أذكر تلك الحوائط و الحليات بالسقف .. و الألوان .. رغم أن هذا كان عام 1951 .كذلك ذلك السلم المحني من الجهتين الذى كنا نصعد عليه للوصول إلي فصولنا بعد طابور الصباح و تحية العلم و الدعاء لجلالة الملك فاروق ملك مصر و السودان
كان لابد من عمل إنترفيو للطلاب قبل قبولهم .. و عندما سألني الناظر عن إسمي قلت ( محمد أفندى حسين ) إبتسم الرجل و سأل لماذا أفندى .. رددت لانني أصبحت في المدرسة الكبيرة و لم أعد في روضة .الأطفال . سألني عايز تبقي إيه يا محمد .. عدلت الطربوش علي رأسي و شددت قامتي .. و قلت بجدية .. مهندس .. ليه عايز تبقي مهندس .. علشان أكسب فلوس كتير .. و أزور ماما و بابا.. و أجيب لهم جاتوة.. و بغاشة .
أخذني الناظر من يدى و دار بي علي المدرسين يحكي لهم الحوار مع طفل السادسة .. و يضحكون .. من هذه اللحظة .. أصبحت شخصية شهيرة الاقي حسن معاملتهم لي.. تختلف عن تعاملهم مع باقي الأطفال .. خصوصا بعد أن تبين لهم أنني أشطر أطفال دفعتي في الحساب .
منزلنا الجديد ذو الحجرات الخمس الكبيرة والاسقف المرتفعة والابواب والشبابيك الرشيقة المزخرفة والصالة الواسعة المربعة التى تتوسطه ، كنا نلعب فيها الكرة عندما تخرج والدتى وتتركنا منفردين فنكسر زجاج (الشراعات )..
كان له ( الفراندة ) ممتدة خارج واجهة المنزل (كابولي ) ، تطل على الشارعين الضيقين مزروع على جانبيهما أشجار لها زهور حمراء وصفراء تظهر مع الربيع والصيف ، وترطب الهواء فنجلس فيها لليالى طويلة نستمتع بالنسمات الرقيقة ونتناول على ضوء بدر واضح تماماً فى سماء تكتظ بالنجوم اللامعة البطيخ الأحمر (المرمل) والجبنة البيضاء المخلوطة بلسعة فلفل والعيش البلدى الشهى (المفقع)أو (المحمص) ، ونستمع من خلال راديو ضخم لا يعمل إلا إذا ضربته أختى ( بالشبشب ) الى غناء ( الست) .. و يوم الجمعة إلي برنامج بابا شارو ..
حي السكاكيني و منزلنا هناك كان له طابع خاص اثر في ذوقي و حياتي بعد ذلك حتي أنني بعدما تركناه كنت أجده في كل مكان أذهب له .
فى فيينا .. وقفت أتأمل بحنان أعمدة الاضاءة الكلاسيكية المصبوبة من حديد زهر مزركش – والتى يعلوها فوانيس زجاجية ضخمة على هيئة هرم مقلوب مغلفة بالحديد المشغول .. والتى كانت مثيلاتها تعمل فى بلدى بالغاز .. ويمر (عفريت الليل ) ليشعلها مساء .. فتضفى على المنطقة جواً شاعرياً رقيقاً مازالت شوارع فيينا تحتفظ به
وفى روما .. صممت على ركوب الترام الابيض الذى يحاكى أخاه المار فى شارع السكاكيني المتفرع منه شارعنا .. والمؤدى للميدان الدائرى الواسع الذى يتوسطه قصر من عصر الركوكو بنى فى بداية القرن التاسع عشر ويعتبر تحفه معمارية نادرة فريدة بواجهته التى تمتلىء بتماثيل صغيره لملائكة مجنحة ونقوش مرعبة .
وفى أثينا .. حيث شوارع وسط المدينة مثل شوارعنا ضيقة .. تكسر اشعة الشمس فترمى ظلالاً واسعه تمنح المكان رطوبة محببة خصوصاً فى شهور صيف بلدنا الحارة .
وفى باريس .. استدعى حواة وموسيقى سان ميشيل ذكريات حاوى حينا وفرقة موسيقى " حسب الله " . وزفة الذبيحة عندما كانوا يسوقون الماشية وينادى المنادى مشيراً إليها " من ده بكره" فيرد المجتمعون حوله " بقرشين " .
في السكاكيني عاينت " الزار" " الندابة " " الذكر " ردح الحوارى " " الملاية اللف " " المنديل أبو قويـة " " القبقاب الخشب " .. القرداتى الـذى يجبر قرده على عمل " عجين الفلاحة" و" نوم العازب" و" مواويل" لسيرة والاغانى الشعبية ,
وبائعى الفاكهة والخضروات والجاز والسبرتو واللبن وهم ينادون على بضائعهم بأنغام مميزة .. ومؤذن المسجد جميل الصوت الذى تنساب نغمات أذانه مع الفجر كنسمة ندية تغسل النفوس ..
"والعوالم" اللائى يرقصن الغناء ويصببن كل النغمات فى نغمة واحدة رتيبة مميزة ..
وعبده "الجعار" الذى اكتسب اسمه بسبب " تجعيره" أثناء مشاكساته الدائمة مع كلبه الاعور الأعرج الذى لا يصادق فى الوجود غيره ....
وساكن سطح المنزل المواجه لنا سعدون " المجنون" وكيف حاول يوماً أن يربط بيتنا بحبل ويجره خارج الحى لأننى كنت أسخر منه .. أو كيف كان يتشاجر كل ليلة مع زوجته السمينة ذات الشعر الاحمر المحنى يتبادلان الشتائم – على الملأ – ويكشفان أدق أسرار حجرة النوم عندما يفشل فى إرضائها أو فى الانفاق عليها .
أما ما لا يمكن أن أنساة و أعتبره فلسفة خلابة لا تتوفر إلا فى قصص ألف ليلة وليلة وحواديت كليلة ودمنة كان تصرف – هذا السعدون – ليلة وفاة زوجته .. فهو عندما تأكد من رحيلها قسم السطح الى نصفين متساويين بواسطة قطع من قماش " الصواوين " أقام فى نصف منه مأتمه وأحضر قارئاً للقرآن يرتل .. وفى النصف الآخر نصب فرحاً واحضر فرقة موسيقية و "عالمة" .. وظل طول الليل يتنقل بين النصفين يبكى زوجته العزيزة ويعدد فضائلها فى النصف الحزين .. ثم يرقص ويغنى سعيداً لتخلصه منها فى الجانب الآخر .))...
في المدرسة الإبتدائي .. كنت لا أحتاج .. للمذاكرة .. أو أخذ دروس خصوصية .. لقد كان بها مدرسين أكفاء متمكنين من مادتهم لدرجة أنني كنت أخرج من الدرس فاهم كل ما قيل .. بل كانت المعلومة تلتصق في ذاكرتي مرتبطة بحركات المدرس و نبرة صوته ..و شكل ملابسة .. وما يحيط بنا من عناصر تشتيت
لقد كنت منضبطا .. تعلمت الجدية عند ميس مارى واخد مسألة التعليم بدون إستهتار أو إهمال .. سرعان ما أصبحت الأول في الفصل و باقي فصول المرحلة الدراسية .. و كانت أمي تندهش أنني لا أذاكر دروسي أو اراجعها.. أو أسألها .. رغم أنها كانت مدرسة إعتزلت بعد أن أنجبتني.
كان مدرس الحساب يكتب علي السبورة مسألة .. ثم يخرج التلاميذ لحلها فيفشلون .. حتي لا يبق غيرى فيقول .. أخرج حلها لهم .. يامحمد .. و كنت لا أخيب ظنه أبدا .. فيرفعني لاقف علي مكتبة .. و يمرر علي الأطفال لأضربهم
تسببت هذه التربية الشاذة .. ليس في تحسن مستوى الزملاء .. بقدر كرههم لي و تجنبي ..و كانوا في المدرسة يقيمون لنا إمتحانات دورية .. أنتهي منها في نصف المدة المقدرة و أحصل علي الدرجة النهائية .. فيأخذني الأستاذ (شتا ) مدرس الحساب و يدور بي علي الفصول .. شارحا للطلاب كيف أجبت علي الأسئلة بسهولة.
زاد الأمر سوءا بين أقاربي فلقد كانوا عندما يريدون تقييم الأبناء في سني يسألونهم أمامي فإذا لم يجيب .. و كان ردى هو الصحيح ينهالوا علي الطفل بالضرب .. حتي كرهوا أن أزورهم .. و خسرت إبن عمي جمال .. و بنت خالي نعمت ..و قريب أمي إبراهيم للابد .
أربع سنين مروا سريعا ..و لم يسألني والدى أو والدتي .. عن المدرسة أو العلوم و الدروس التي أتحصل عليها.. و لم يعرفا.. كيف أتعلم أو مشاكل التفوق التي كنت أعاني منها ..
ليلة إمتحان الحساب (في الإبتدائية ).. تركوا أصحاب أبي القهوة مبكرا.. و عادوا لمنازلهم لعمل مراجعة للأبناء ..ساعتها تذكر أبي أن له إبن في نفس السنة ..
فرجع.. و طلب كتاب الحساب و بدأ يراجع لي موادة .. و رغم أنني أجبته علي كل الأسئلة إلا أنه إستمر دون أن يترك لي فرصة للنوم لساعة متأخرة من الليل
في لجنة الأمتحان .. إستلمت ورقة الأسئلة .. ثم نمت .. قبل نهاية وقت الإمتحان بربع ساعة أيقظني أحد المراقبين .. و قالي إكتب أى حاجة يا إبني و وقف بجوارى كي يساعدني.. لقد كان الإمتحان صعب..و لكن لدهشتة .. وجدني احل المسائل و احدة بعد الأخرى .. و بسرعة .. حتي إلتف حولي كل المراقبين و هم يشاهدون هذا النائم .. أثناء كتابته إجاباته دون خطأ
و هكذا كاد والدى .. بإحساسة المتأخر بالمسئولية .. أن يضيع علي 47 من خمسين في الحساب ..
عندما قلت لامي أنني نمت.. دخلت في شجار معه جعله يبتعد عن تقليد أباء التلاميذ الأخرين .
لم يكن والدى سيئا كما يبدو .. بل كان يحاول أن ينضجني سريعا .. لقد أخذني صباح يوم الاثنين ٣١ مارس ١٩٤٧م لارى الملك فاروق و هو يرفع علم مصر فوق ثكنات قصر النيل بعد جلاء الانجليز عنها و إضطر ليحملني علي كتفيه .
و لاننا . لم يكن لدينا نادى نذهب إلية و نزاول الرياضة .. و لم يكن مسموح لنا بالنزول للشارع و لعب الكرة أو البلي أو الإستغماية .. لذلك برعت في ألعاب المنزل طاولة دومينو كوتشينة ..و شطرنج . وكان هو الذى يلعب معي (الشطرنج و الطاولة) لساعات و نتعامل بندية و تحد .. و أمي تضحك
..وعندما يتم هزيمته في الشطرنج من أحد الأصدقاء يحضر (شلته )و يضعها علي الكرسي لترفعني ..و أطول رقعة الشطرنج أمام من هزمه لكي العب معه.. و لم أخذلة أبدا ..
كان يأخذني معه إلي مقر حزب ( مصر الفتاة ) في البيت الأخضر ..لاسمع الخطب التي لا أفهمها .. من الثوريين مثل فتحي رضوان و أحمد حسين.. و إبراهيم شكرى ..كنت أشعر كل مره من قوة الهتافات.. أننا سنخرج من المكان لإشعال ثورة في الشارع ..
و كنت أتعلم القراءة في جرائد الحزب .التي يحضرها أبي بإنتظام . و أتعرف علي الإشتراكية .. بل أناقش زملائي و أتمنظر عليهم بمعلوماتي .
في يوم قرر الحزب عمل مسيرة لتقديم مطالبهم للملك فاروق .. و سرت في هذه المسيرة طفل في الحادية عشر يمشي من مخرج شارع فؤاد حتي قصر عابدين ..دون شكوى .
أمي علي العكس لم يكن لديها أى إهتمام بالسياسة أو الشأن العام ..و كانت معجبة بألأسرة المالكة .. تتمني أن أكون ضابط في الحرس ..و تشوفني أميرة من الأميرات فتقع في غرامي .. و تتجوزني .. و نناسب الملك ..
أمي كانت مخزن حنية .. توزعها دون تعمد علي كل من حولها .. لذلك بقت مركز أسرار البنات .. يستشيرونها .. في قصصهن الغرامية .. و كانت تمنحني لهن عندما يواعدن أحبائهن .. لأعطي للمقابلة طابع أنهما مخطوبان يتنزهان و معهما طفل من العيلة للمراقبة ..
لم أقم فقط بدور الطفل المحلل .. بل كنت أحمل هدايهن .. لإوصلها للأحباب في المناسبات بمنازلهم .. و في بعض الأحيان .. كانت واحدة منهن تأخذني عند الساحرة .. و هي تغير لها الحجاب أو طريقة الإقتراب من الحبيب ..
و كنت أذهب عند بعض المحبين .. و أسرق حاجة من قطره لكي يعملوا له عمل .. أو أرش المياة المقروء عليها أمام المصليين يوم الجمعة كجزء من طقوس عمل الأسحار ..
في يوم ذهبت مع واحدة منهن لشاطيء النيل حيث جلب لها صياد قرموط صاحي .. و أخذت جانب ..و تبولت في فمه ثم أعادته للمياة .
لقد كنت كتوما .. لا أتكلم عن ما يحدث خصوصا أمام والدى .. و كنت محبوبا .. من الشابات .. في نفس الوقت تعلمت منهن الكثير من التصرفات التي تجعل مني جنتل بوى .
بل كنت أحب بعضهن خصوصا لما تمسك زوزو الطبلة .. و ترقص طنط عواطف (القمر )..
في بيتنا كانت لا يتوقف الضحك .. و دقات الطبول .. و الغناء ( الفلاحي ) تغنية أخت طنط فاطمة .. أم نص لسان .
أمي كانت شخصية غريبة يختلط عندها الواقع بالخيال .. خصوصا عندما تقص علي والدى فيلما شاهدته .. كانت تؤلف .. مشاهد لم تحدث .. عندما أقول لها .. البطل مقالش كدة يا ماما .. ترد بجدية .. كان المفروض يقول كدة و يضحك أبي .. ثم يوبخني .. انا مبسوط .. كدة إنت مالك .
بيتنا كان يسير كالساعة ..تنظيف كل يوم ..و طبيخ علي بوابير الجاز .. و يوم في الإسبوع للغسيل .. وأخر للإستحمام ..و الساعة الثانية .. تأخذ أمي دش و ترتدى ملابس نظيفة .. و ننتظر أبي الذى يصل الساعة 2 و نصف مع تتر نشرة الأخبار في الراديو . .. نحبس في حجراتنا دون أن يخرج منا صوت يزعج الأب
.يدخل هو يتوضي و يصلي .. ثم نلتف حول السفرة .. و توزع أمي علينا الأنصبة .. و يحكي أبي عن مغامراته في الشغل .. و تساعده أمي التي تعرف تفاصيل الناس اللي بيتعامل معهم
بعد الغداء يدخل أبي لغرفة النوم .. و تغلق عليهما .. حتي نشرة الساعة خمسة .. يقوم يلبس و ينزل يقابل صحابة .. و يأتي لنا الزوار من كل جانب يودودون لأمي بأسرارهن...
في هذا الزمن قامت حرب ( 1947 ) بين إسرائيل و ستة جيوش عربية..و كانوا يطلقون صفارات الإنذار قرب أذان المغرب .. فنترك إفطار رمضان و نجرى علي الأدوار الأرضية توقيا للغارة ..
كذلك خرجنا للشوارع نستقبل الجرحي ..وموكب الضبع الأسود( الأميرلاى السيد طه ) قائد من فكت معاهدة رودس في 24 فبراير 1949، أسرهم و ضمنت عودتهم .
قدموا أوراقي لمدرسة فاروق الأول الثانوية .. في ميدان عبدة باشا .. و كان الأمر سهل.. فقياسات المدرسة قبول صغار السن المتفوقين.. و كان هذا ينطبق علي حالتي .. سني لم يتجاوز 10 سنوات و درجاتي أقرب للنهائي في كل العلوم .
مدرسة فاروق الأول مدرسة مدهشة ..و اسعة .. مبنية علي طراز عصر النهضة .. جميلة و بسيطة .. بها ملعب كرة قدم.. و تراك حوله للجرى .. و حمام سباحة .. و منطقة لألعاب القوى ..و ثلاث أو اربع ملاعب تنس.. و صالة للشيش و إتنين إسكواتش..و أكتر من ملعب باسكيت .. و فولي .
وبها مطبخ ومطعم يتسع لكل طلاب المدرسة نتناول فيه طعاما ساخنا خضار و أرز و لحمة و فواكه..ويمكن تحويله لمسرح ..
هذا غير المعامل طبيعة و كيمياء ..و صالة الرسم .. و مكان للنحت و عمل تماثيل من الصلصال .. بالإضافة إلي مبني للتدبير المنزلي و عمل المربات و الجبنة و حدائق مزروع بها أغلب أنواع الزهور بما في ذلك البانسية ..
ورغم كل هذه النشاطات الرياضية و الفنية .. فلم أمارس أى منها .. لفت هذا نظر المشرف الإجتماعي .. فاخذني ضمن عدد من الطلاب لجمعية الشبان المسيحين ( الواى ) بشارع إبراهيم باشا .. لنجمع تبرعات لمؤسسة كوبرى الليمون للأيتام ..
و نجحت تماما في ملء حصالتني بالنقود لأنني ذهبت لوالدى في مصلحة التليفونات و جمعت التبرعا ت..
من يومها أصبحت زائرا دائما للجمعية ..أزاول أنشطة البنج بونج .. و أستمع لندوات كبار المفكرين و منهم سلامة موسي .
في مدرسة فاروق كان مدرس الإنجليزى .. يأتي علي دراجة .. و يرتدى زى كاكي مثل أزياء الإنجليز في المعسكرات ..و مدرس الفرنساوى فرنسي ..و كانت هناك مسابقات في الخطابة و إلقاء الشعر .. و كانت الدراسة تبدأ الساعة السابعة صباحا بالهتاف بحياة الملك و تحية الراية الخضراء ذات الهلال و ثلاث نجوم بيضاء .. و تنتهي في الخامسة فأعود للمنزل مشيا علي الأقدام مستهلكا ..خلال اليوم نأخذ فسحتين أحدهما صغيرة كنا نجرى فيها إلي عم حسونة المتسيط .. خارج المدرسةنشترى من فتحى بالسور ساندوتشات جبنة رومي أو تونة أو بولوبيف .. و الفسحة الكبيرة نزاول أنشطة .. عديدة .
في مدرسة فاروق لم أكن هذا النجم .. الشهير .. كان معي مئات التلاميذ مثلي أو يمكن أفضل .. و كان هذا مفيدا فقد أصبح لي أصدقاء لا يخشون أهلهم عندما أزورهم .
الدراسة .في المدرسة كانت بمصاريف يستطيع أبي أن يتحملها و لكنني كنت أعافي منها في الغالب لتفوقي ..و تقديم شهادة فقر عائلي .
في المدرسة الثانوى بدأت أذاكر .. و أتنافس مع الزملاء ..و أسير في المظاهرات .. كان زعماء المدرسة يقفون علي السلم المطل علي الحوش .. و يهتفون .. (( اليوم حرام فيه العلم )) ثم يشرحون سبب المظاهرة .. و يستولون علي علم المدرسة .. و نخرج لنقابل المظاهرة القادمة من مدرسة فؤاد الأول .. و مدرسة الحسينية ..
في يوم هاجمتنا قوات الهجانة علي جمالها فجرى .. الكبار .. و سقطت علي ألارض لأتلقي ضربة من كل من مر علي .
عدت للمدرسة لأجد الناظر أحمد بك زكي يمر علي الفصول و هو يحمل عصا أطول منه .. يخرج التلاميذ اللي شاركوا في المظاهره.. و يلمس كل منا بخبطتين خفيفتين علي كفة .
مدرستي كانت جنة علي الأرض .. بها خضرة كثيفة .. و لها طاقم جانينية يرعونها ..واسعة ..نظيفة .. و لم أجد مثيلا لها بعد ذلك .. رغم أن حضرات الضباط بعد ذلك و قبل أن أغادرها زادوا من الكثافة الإستيعابية .. و قسموها إلي ثلاث أو أربع مدارس .. في زمنا الحالي
في يوم 6 مايو سنة 1951 زاول والدى هوايته .. و بدأ يسألني في الإنجليزى .. كانت والدتي و باقي العائلة يجهزون أنفسهم لرؤية موكب الملكة الجديدة ناريمان ..الذى يمر من شارع الملكة ..عندما أخطأت في إستخدام (إس) الغائب مع الفعل المضارع ..
منعني من الخروج بل إستخدم وسيلة غريبة لتذكيرى بها لقد أمرني أن الحس بلاطة من بلاطات الأرضية .. و أردد الأفعال و معها إس الغائب .. و لم يتركني أذهب للإحتفال إلا في أخر لحظة ..
لقد كانت مثل هذة الإحتفالات خصوصا موكب إرسال كسوة الكعبة للحجاز ( المحمل )..تشدنا .. أو عيد جلوس الملك و ميلادة .. تسعدنا و نحن نرى موسيقات الجيش تحيها .في أكشاك الحدائق
كانوا في المدرسة يعملون يوم لمقابلة أولياء الأمور و تقديم تقارير عن الطلاب لهم.. و كنت عادة لا أقول لهم في البيت عن هذا اليوم .. و لكنني لدهشتي .. وجدت والدى بين الأباء.. ثم عرفت بعد ذلك أن رئيسه في الشغل له إبن من زملائي طلب مني البحث عنه ..فأحضرته لأبيه ..
مدرس الرياضة .. بدأ بالشكوى من عادل ( إبن رئيس أبي ).. و الرجل يسمعه بإبتسامة باهته و صبر.. ثم سأل عني .. فكان الرد .. ده ممتاز و لا يحتاج لاى مساعده .. والدى إحمر وجهه .. ثم قال ليخفف من إنزعاج رئيسه و إبنه .. (( لكن أنا عمرى م شفته بيذاكر.)). فكان الرد و مع ذلك بياخد النمرة النهائية .
والدى فرض علي أن أذهب لعادل في البيت و أذاكر معاه علشان أشجعه و لكنني لم أفعل.
26 يناير 1952 كنت في البيت منفردا وأبي في الشغل ..و والدتي و خالتي و أختي في زيارة لأقاربهما في الدقي ..
عندما عادت أمي كانت تحكي قصة غريبة .. عن ناس بتحرق القاهرة .. و أخرين بينهبوا الدكاكين و البنوك .. ثم أخذتني و ذهبنا إلي المدرسة الإسرائيلي قرب ميدان الحسينية .. لنرى أثار الحريق علي شبابيكها .
سقطت وزارة الوفد .. و توالي بعدها عدة وزارات لا تبق في الحكم إلا أيام .. وفي 23 يوليو من نفس السنة حدث إنقلاب عسكرى
و كان من ضمن الضباط الأحرار ضابطين من أصدقاء والدى اللذين يزورننا كثيرا ..أحدهما جمال عبد الناصر .. و الأخر عبد الحكيم عامر ..
في يوم طلبوا منا أن نصطف في ارض الطابور .. و جاء محمد نجيب قائد الثورة .. و بعض الضباط .. و خطبوا فينا .. و قوبلوا بحفاوة .. في نهاية الزيارة إندفعت لأمسك يد أحدهم .. و هو يبتسم .. و يقول سلم لي علي .. حسين .. بعد ذلك كل من كان في المدرسة من مدرسين جاء يسألني إنت تعرف جمال عبد الناصر منين .
و مع ذلك بدأت الحياة تختلف .. أثناء حكم الثوار .. و خصوصا النظام التعليمي .. لقد عملوا شهادة الإعدادية ثم الثانوية العامة .. و توقف الأكل السخن .. و ضموا علينا تلاميذ مدرسة خليل أغا التي أصبحت إعدادية ..كانوأكبر في السن .. و يحلون مشاكلهم بالضرب و الخناق .. و يرون أننا عيال مايعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قول للزمان ليه يا زمان
عدلي جندي ( 2023 / 3 / 24 - 09:51 )
عندما كانت مصر أم وأب الدنيا الكوزموبوليتية
في مدرسة فاروق كان مدرس الإنجليزى .. يأتي علي دراجة .. و يرتدى زى كاكي مثل أزياء الإنجليز في المعسكرات ..و مدرس الفرنساوى فرنسي
وعندما وجدتها حضرتك ف شوارع أثينا وترام روما وفوانيس فينينا قبل أن يجعلها زعيم الهزائم مسخ الشرق
فكرتني بالمدينة الكوزموبوليتةاللي كانت عظمى... إسكندريتي.. قبل أن تتعرض للتشويه من قبل مسوخ البشر وسياسات الب قر
سرد ممتع رغم ما يحمل ف طياته من شجّنْ
تحياتي


2 - الأستاذ عدلي جندى
محمد حسين يونس ( 2023 / 3 / 24 - 10:48 )
أشكر مرور سيادتك و إضافتك .. كل الخراب الذى قام به عبد الناصر و السادات و مبارك مجتمعين لا يوازى ما حدث في مصر منذ ثمانية سنوات فقط.. خصوصا المدن الكبرى ..فالعراقة و التحضر و الإنسجام .. تحولوا علي يد العسكر إلي سوقيةو قلة ذوق و تدمير ..
ستصدم لو زرت القاهرة و الأسكندرية و المنصورة .. و غيرها من المدن التي داس عليها العسكر .. ببيادتم تحياتي . ..


3 - حقيقه مؤلمه
على سالم ( 2023 / 3 / 24 - 14:50 )
شكرا لمشاركتك لنا بذكريات الطفوله والشباب والتمنيات والاوجاع , بالطبع حسب كلام سيادتك فأن مصر قبل ثوره الضباط الاحرار الغبراء تختلف تماما عن الذى حدث لاحقا من قبل هذه العصابه الغوغائيه المنحرفه المنحطه , كل الدلائل والقرائن تثبت بما لايدع مجالا للشك ان الذى قام بحريق القاهره فى يناير 1952 هو عبد الناصر نفسه وعصابه العربجيه لكى يخلقوا الذريعه بمحاوله انقلاب الحكم والذى حدث فى شهر يوليو لاحقا , ثم بدأ موال الخراب والدمار والاستبداد والبطش والحكم الفاسد العشوائى , لقد ذكرت ان رئيس والد سيادتك فى العمل كان انجليزى ومن هنا يتضح لماذا بعد ان حكمنا انفسنا بأنفسنا تحدث هذه الكوارث والانهيارات والفواجع , انا اعتقد ان الاجانب فى مصر كان لهم فضل كبير فى اتزان الامور وضبطها عمليا واداريا وكانوا فى مواقع حساسه مؤثره , بعد طرد الاجانب انجليز وطلاينه ويونان وفرنسيين وغيرهم تولى حماه الوطن امر الوطن وكانت النتيجه سوداء ومهببه , لقد وضح ان هؤلاء الجهله الانجاس انحرفوا بمسار البلد بسبب جهلهم وغباؤهم وفسادهم وانعدام ضميرهم والانحطاط القيمى لهم ؟ هذا هو حكم العربجيه


4 - لقد ذكرتني أيضا بأيام جميلة
د. محمود يوسف بكير ( 2023 / 3 / 24 - 21:24 )
شكرا أستاذ محمد حسين يونس على مقالك الجميل ، والحقيقة أنني لم أكن أعرف أنك من مواليد حي الظاهر وكان هذا مفاجأة سارة لي لأنني أيضا ولدت في شارع الشيخ قمر المتفرع من ميدان السكاكيني باشا وهو قريب جدا من شارع النزهة ودرست في مدرسة طور سينا الابتدائية لمدة ست سنوات بعد تغيير نظام التعليم لأنني ولدت بعد انقلاب عبد الناصر بعامين وكان الحي لايزال جميلا وكانت هناك حدائق في ميدان الظاهر وشارع رمسيس في غمرة، ، والآن أشعر بالأسى عندما أزور القاهرة والظاهر بسبب الزحام الشديد ونزع كل الحدائق بدعوى أنها مناطق غير مستغلة كما كان يقول نظام عبد الناصر،أدعو لك بدوام الصحة وأتمنى أن أراك في زيارتي القادمة للقاهرة في حيينا العتيق، مع أطيب تحياتي

اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف