الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رُوزنامةُ الأسبوع نحنا قبيل شن قلنا؟!‎

كمال الجزولي

2023 / 3 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


الاثنين
رغم أنف الجُّنون، والطَّرطشة، واللؤم، وحسد بعض المتعلمين السُّودانيِّين، وحقدهم الأسود، سواد قلوبهم الذي يمضغ منهم، والعياذ بالله، السَّرائر والضَّمائر، ويطمس الأبصار والبصائر، فإنني ما زلت عند رأيي بأن محض الحلم بأيٍّ من شعارات الثَّورة مستحيل، ما لم تصفِّ بلادنا تركة ماضيها المثقل بالانتهاكات، خصوصاً في دارفور، وإلا رَمَّت جرحها على صديد، علماً بأنه ليس أمامها، لأجل هذه التَّصفية، سوى ثلاثة خيارات غير متكافئة:
(1) فإمَّا أن تعهد بها للمحاكم الوطنيَّة "العدالة العقابيَّة التَّقليديَّة traditional justice"، فتصطدم بالعوائق التَّشريعيَّة التي استنَّها النِّظام البائد للحيلولة دون مساءلة أعضائه، فضلاً عن كون جرائم دارفور، بالذَّات، ارتكبت ما بين 2003م ــ 2004م، بينما لم تعرف تشريعاتنا عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي إلا في 2009م، والتَّشريع، خصوصاً العقابي، لا يسري بأثر رجعي!
(2) وإمَّا أن تلجأ إلى القضاء الهجين، أو قضاء الدُّول التي تقبل الاختصاص الدَّولي، أو المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، بما يضمن، في أفضل الأحوال، محاكمات محدودة، على كلفتها العالية، وافتقارها لمبدأ أن "العدالة ينبغي ألا تُصرَّف، فحسب، بل أن تُرى، يقيناً، وهي تُصرَّف justice should not only be done, but should manifestly and undoubtedly be seen to be done"؛
(3) وإمَّا، في حال ضخامة أعداد المنتهكين أو الضَّحايا، أن تنتهج البلاد طريق "العدالة الانتقاليَّة Transitional Justice"، كمفهوم حديث لا يتجاوز عمره نصف قرن، بما يفضي إلى تفريغ الاحتقان في ما لو أخذ بحقِّه، وفق خبرة دوليَّة متراكمة، أعمُّ مشتركاتها أن "تصريف العدالة"، كإحدى مهام الدَّولة، سيصبح، مهمَّتها الرَّئيسة، في السِّياق غير العادي، عندما تكون في حالة "انتقال" من شُموليَّة إلى ديموقراطيَّة، أو من حرب إلى سلام، بغرض إزالة الظَّلامات، وتضميد الجِّراحات، وإزاحة العقبات التي تعيق هذا "الانتقال". لذا فالمفهوم يتضمَّن ثلاثة عناصر:
الأوَّل: مع اشتماله على نهجين، غير قضائي غالب وقضائي، فإنه يشـمل، كذلك، فهماً أكثر وسـعاً من مجرَّد تطبيقات "القانون العقابي"، إذ يستصحب معارف أخرى، كالاجتماع، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والسايكولوجيا الاجتماعيَّة، والاقتصاد السِّياسي، وغيره، بما يعين على كشف "حقيقة ما جرى Truth"، وإيجاد "المعالجات المناسبة Reparations"، وتحقيق "الإصلاحات الضَّروريَّة Reforms"، و"المصالحة المطلوبة Reconciliation".
الثَّاني: "الانتقال"، فرغم احتمال تعثَّره، بسبب تعقيدات العمليَّة، والزَّمن الذي تستغرقه، نجحت "العدالة الانتقاليَّة" في "فتح الصَّفحات الجَّديدة"، و"خلق البدايات الجَّديدة".
الثَّالث: تقليل الأعداد الضَّخمة من الانتهاكات التي قد تعيق "الانتقال" في ما لو اعتُمدت، فقط، المحاسبة "العقابيَّة". وذلك بانتهاج "التَّسامح" في الحالات البسيطة، على ضخامة أعدادها. وتستند هذه القيمة إلى شتَّى المصادر الفكريَّة، ومنها:
أ/ الفكر الدِّيني:
أ/1: في الاسلام: حبَّب الله النَّاس في "التَّسامح"، حتَّى في القصاص، وهو أصعب الحالات، قال تعالى: "وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِـيمٌ" [14 ؛ التغابن]. وقال: "وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" [43 ؛ الشورى]. وقال: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِـيـم" [22 ؛ النـور]. وقال: "فَمَـنْ عَفَـا وَأَصْـلَحَ فَأَجْـرُهُ عَـلَى الله" [40؛ الشُّورى]. وقال: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنِين" [13 ؛ المائدة].
أ/2: في المسيحيَّة: خُلق الإنسان، بتنوُّع فرادته، على صورة الله، ولكوننا مجبولين بالضَّعف نحتاج إلى فضيلتين: المحبَّة والمغفرة. حيث أفضل دواء للعنف هو العفو والتَّسامح.
ب/ الفكر الوضعي:
أعلى كثير من الفلاسفة والمفكِّرين، كجاك دريدا، ونلسون مانديلا، وكبير أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو، ونائبه البروفيسور بوران، من قيم "المسامحة" و"الصُّفح"، إذ ليس علاج كلُّ صغيرة وكبيرة هو، بالضَّرورة، إجراءات جنائيَّة تستنزف الجَّهد، والوقت، والمال، فثمَّة انتهاكات طفيفة يمكن معالجتها خارج الحقل الجَّنائي، بـ "المسامحة" و"الصُّفح". دريدا، مثلاً، يحضُّ، في تَّفكيكيَّته، على "المسامحة"، إن توفَّرت القدرة عليها، بشروط مناسبة لطرفيها. وبذات الاتِّجاه شغل مانديلا، في سجنه، بما ينبغي عمله، بعد تصفية نظام الفصل العنصري، وظلَّت تقضُّ مضجعه طيوف أحكام الإعدامات على آلاف الجُّناة، مقترنة بالسُّؤال المقلق: "أيُّ وطن هذا الذي سنبنيه من فوق كلِّ هذه المشانق وشلالات الدَّم"؟!
"العدالة الانتقاليَّة"، إذن، مفهوم دال على مخاطبة مختلف المجتمعات لتركة انتهاكات حقوف الانسان السَّابقة، في أزمنة السِّلم أو الحرب، لا للانتقام، بل لبناء مستقبل الدِّيموقراطيَّة، والعدل، والسَّلام. وبالتَّالي أضحى منهج الكشف عن "الحقيقة" بمثابة القاسم المشترك بين معظم التَّجارب العالميَّة، ويتضمَّن:
أ/ قانوناً خاصَّاً بتكوين "آليَّة" أو "مفوَّضيَّة" مستقلة لتنظيم هذا المنهج، تتَّخذ شكل "الهيئة الوطنيَّة للحقيقة والإنصاف والمصالحة"، أو"اللجنة الوطنيَّة للحقيقة والمصالحة"، على غرار تجربة جنوب أفريقيا، حيث قام مانديلا، بعد انتخابه، بتعيين ديزموند توتو في رئاسة هذه اللجنة، يعاونه نائبه البروفيسور بوران. وقد عمل كلاهما، لاحقاً، على تأسيس "المركز العالمي للعدالة الانتقاليَّة" بنيويورك.
ب/ اعترافات الجَّلادين لضحاياهم، مصحوبة بطلبات العفو في الحالات التي تسمح به، أو إفادات الضَّحايا عن معاناتهم في ما أُطلق عليه، في التَّجربة المغربيَّة، "الحكي الوطني"، وذلك عبر جلسات "استماع عمومي Public Hearing" يشهدها الجُّمهور، وتنشرها الصُّحف، ويبثُّها الرَّاديو والتِّلفزيون.
ج/ حزماً من الانصاف، والمعالجات الجسديَّة والنَّفسيَّة، وإعادة تأهيل الضَّحايا، فرديَّاً، وجماعيَّاً، ومناطقيَّاً، حيث يتخذ ذلك، بالنسبة للأفراد، شكل التَّعويض المالي، أو العلاج الطِّبي، أو توفير الاطراف الصِّناعيَّة، أو إعادة الإلحاق بالدِّراسة، أو بالعمل، أو توفير مصدر الرِّزق المقطوع، أو السَّكن المناسب، وخلافه. كما يتَّبع، بالنِّسبة للمناطق والجَّماعات الإثنيَّة التي طالها التَّهميش، وكذلك بالنِّسبة للنِّساء والفئات التي عانت من الاستضعاف، منهج التَّمييز الإيجابي Positive Discrimination في التَّنمية، والإعمار، والخدمات، وإلى ذلك بعض الإجراءات الرَّمزيَّة، كالاعتذار الرَّسمي من الدَّولة.
د/ إحياء ذكرى الضَّحايا بالأنصُاب ، والمتاحف، كالمتحف الذي أقيم، مثلاً، داخل مصنع للبطاريَّات بسيربينيتسا في البوسنة، حيث عرضت متعلقات 20 من أصل 8000 مسلم تمَّت تصفيتهم فيه من جانب الصِّرب، وإلى ذلك تحويل المواقع التي استُخدمت في السَّابق كمعسكرات اعتقال، أو "بيوت أشباح" للتَّعذيب، إلى متاحف، مثل منطقة "تازمامرت" بالمغرب، فضلاً عن تفعيل الحوار حول الماضي، بمشاركة الضَّحايا، إذ المطلوب العفو، لا النِّسيان.
هـ/ دعم مبادرات "المصالحة"، وإبراء الجِّراح، والتَّعايش السِّلمي، بما يتيح بناء مستقبل وطني أفضل.
و/ إصلاح المؤسَّسات التي استخدمت في الانتهاكات "الأمن ـ الشُّرطة ـ الجَّيش ـ القضاء ـ النِّيابة ـ السُّجون".
ويستند مفهوم "العدالة الانتقاليَّة" إلى ركيزتين:
الأولى: مجتمعيَّة، فبفضل تطوُّر حركة حقوق الإنسان تمحور المفهوم حول مركز الضَّحايا، وأسرهم، والمجتمع، فرديَّاً وجماعيَّاً، إذ بغير ذلك تبقى الجِّراح مفتوحة تهدِّد بانهيار أيِّ مسعى لـ "السَّلام"، أو "التَّحوُّل الدِّيموقراطي".
الثانية: سلطويَّة مستمدَّة من القانون الدَّولي الإنساني، والقانون الدَّولي لحقوق الإنسان.
وبعد، نسألك اللهمَّ عقولاً باردة، وقلوباً ساخنة، فلا تبتلينا، يا ربَّنا، بمعكوس ذلك!

الثُّلاثاء
أليس عاراً كبيراً على السُّلطة الانقلابيَّة أن تعاني المستشفيات من "النُّدرة" في معدَّات "غسيل الكلى"، بينما تنعم الأسواق بـ "الوفَّرة" في "النَّبق الفارسي"؟!

الأربعاء
بقدر ما أمتعني حوار حسام عثمان مع ثلاثي "عقد الجَّلاد"، الخير وأبي ذر وشبكة، في برنامج "وإن طال السَّفر"، بقناة "سودان بكرة"، بقدر ما أحزنني عدم تطرُّقهم للمخاطر الأمنيَّة التي ظلت تحدق بتلك الفرقة العبقريَّة، خلال السَّنوات الأولى للنِّظام البائد، من اعتقالاتٍ، ومطارداتٍ، وملاحقاتٍ، واستدعاءاتٍ، عقب كلَّ حفلٍ في العاصمة أو الأقاليم! وتلك، بالمناسبة، هي نفس المخاطر التي كان يتعرَّض لها، في ذات الفترة، أبو عركي وفرقته، بل هي نفس المخاطر التي لطالما تعرَّض لها خليل فرح على أيَّام الإدارة الاستعماريَّة، ووردي على أيَّام النِّميري، دَعْ الشُّعراء، والأدباء، والتَّشكيليِّين، والدراميِّين، وغيرهم!
لا بُدَّ من فتح هذا الملفِّ، وفضحه، من الغلاف للغلاف، فمن الواضح أن تجاوزات السُّلطة ستظلُّ، لوقت طويل، هي بعض أقدار الفنِّ العظيم في بلادنا!

الخميس
أخطر ما كشف عنه نصر الدِّين عبد الباري، وزير العدل السَّابق، أمام "مؤتمر العدالة الانتقاليَّة" بالخرطوم، في 19 مارس الجَّاري، بشأن المفاوضات السِّريَّة بين "الحريَّة والتَّغيير" و"القادة العسكريين"، أن الأخيرين طلبوا، لتسليم السُّلطة للمدنيِّين والعودة للثَّكنات، "منحهم العفو بنصٍّ دستوريٍّ أو معالجة قانونيَّة"، على غرار "العفو المطلق" الذي مُنح، عام 1964م، لجنرالات عبُّود، أي طالبوا بشطب نصف قرن من التَّاريخ كشرط لتسليم السُّلطة، والخروج من السِّياسة، ما يعني أنهم، بدون الاستجابة لمطلبهم هذا، لن يسلموا سلطة، أو يعودوا لثكنات، و .. نحنا قبيل شِن قلنا؟!
المفارقة الحقيقيَّة، هنا، تتمثَّل في أن سابقة خضوع الأحزاب التَّقليديَّة لهذا الشَّرط، ومنح "عفوهم" لجنرالات عبُّود بعد ثورة أكتوبر 1964م، هو الذي شجَّع، في ما بعد، جيلين من الجَّنرالات على "ارتكاب" الانقلابين اللاحقين، في مايو 1969م ويونيو 1989م! دَعْ انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021م ، والذي لن يعني الخضوع لشرط "العفو" عنه سوى شرعنته، لا مجرَّد تشـجيع آخـرين على انقلاب خامس في تاريخ قادم!
أفاد وزير العدل المنقلب عليه بأن المدنيِّين ردُّوا بأن الاستجابة للطلب غير ممكنة "إزاء التَّطورات الكبيرة في القانون العام والقانون الدَّولي لحقوق الإنسان"! وهو ردٌّ اعتذاري بكلِّ المعايير! خاصَّة وأنه نقل النِّقاشات، حسب عبد الباري، من "العفو المطلق" إلى "العفو المشروط"، ومن "الأفعال المباشرة" إلى "الأفعال غير المباشرة"، أي من "احمد" إلى "حاج احمد"، طالما أن "العفو المشروط لا يمكن تجنُّبه"، على حدِّ تعبير وزير العدل السَّابق، فأيُّ "شروط" هذي التي يمكن أن تيسِّر "العفو" عن "جرائم ضدَّ الانسانيَّة"، حتَّى لو وقعت بـ "أفعال غير مباشرة"؟!

الجُّمعة
من أكبر عيوب التَّأليف، خصوصاً على صعيد الفكر، أن يعرض المؤلِّف لقضيَّة ما دون أن يكون مدرَّعاً، جيِّداً، بما سبقها من كتابة فيها، حيث يلزمه أن يعرض، ابتداءً، لتلك الكتابة السَّابقة، بالاتِّفاق أو الاختلاف، ولا سبيل أمامه لتجاهلها!
خذ مثلاً من يعتزم تحليل موقف "اليسار" في بلادنا من "الدِّين"، فهو، أوَّلاً، لا يستطيع الزَّعم بأن "الحزب الشِّيوعى" ليس أهمَّ المقصودين بذلك، ولا يملك، ثانياً، تجاوز مساهمات هذا الحزب حول المسألة، مؤسَّسيَّاً أو فرديَّاً، إذ يلزمه أن يعرض، مثلاً، لكتابات عبد الخالق، ونُقُد، وفاطمة، والرَّشيد نايل، وربَّما كاتب هذه السُّطور، وغيره، مثلما يلزمه، بالأساس، تناول انتباهة الحزب الباكرة لصياغة اشكاليَّة "الدِّين والدَّولة"، من منظور "العقلانيَّة الاسلاميَّة"، مِمَّا يفضح أن اتهامه بـ "الالحاد" هو محض مزايدة تستهدف تشويه حقائق الصِّراع السِّياسي.
حسن الطاَّهر زرُّوق، مثلاً، وجَّه، عبر جريدة "السُّودان الجَّديد"، عام 1944م، نقداً شديداًً للحزب الشِّيوعي السُّوفييتي، من داخل الحلقات الماركسيَّة الأولى، بشأن الموقف من "الدِّين" و"الدِّيموقراطيَّة" (محمَّد نوري الأمين، رسالة دُّكتوراة).
وجاء فى وثيقة المؤتمر الرَّابع (أكتوبر 1967م) أن القوى الرَّجعيَّة ظلَّت تعمل ".. فى إطار الحركة السِّياسيَّة (العقلانيَّة) .. ولكن تصاعد نشاط الجَّماهير .. دفع بها إلى ترك الحياة السِّياسيَّة (العلمانيَّة) .. ونشر جوٍّ من الدَّجل اليميني .. يهدف .. إلى قيام سلطة رجعيَّة باسم الدِّين"، فالتزم الحزب بالعمل "كقوَّة فكريَّة تتصدَّى لهذا الخطر، وتواجهه بخطٍّ يضع الدِّين فى مكانه بين حركة الشُّعوب" (الماركسيَّة وقضايا الثَّورة السـُّودانيَّة ، دار الوسيلة 1986م ، ص 169 ــ 170). ولا يعجز حتى النَّظر العابر عن التقاط الاستخدام المنتبه، هنا، لمصطلح "العلمانيَّة"، لا بمدلولاته الغربيَّة منذ عصر التَّنوير، بل كمرادف لمصطلح "العقلانيَّة" في الفكر الاسلامي (للمزيد من التفصيل، أنظر مقالتنا: "مثار النَّقع"، الصَّحافة 2 يناير 2001م).
وسخر الحزب، فى برنامجه، مِمَّن يصوِّرون الاسلام كأنه يدفع شعوبه للقبول بالاستعمار "المؤمن" ضد الاشتراكيَّة "الملحدة"، وأفصح عن رفضه لذلك "التَّزييف" للاسلام الذى يرى فيه ".. قوة للجَّماهير المناضلة فى سبيل الكرامة والحريَّة"، معتبراً من واجبه أن "يجاهد لتحرير الدِّين .. بوضعه فى مجرى تطوُّره الحقيقي .. ضدَّ التَّمييز الطَّبقى، وحكم الطَّاغوت، وللسَّير بالحضارة الاسلاميَّة إلى عالم القرن العشرين". وكان ذلك سابقاً على ظاهرة "لاهوت التَّحرير" في أمريكا اللاتينيَّة!
وعقب انتفاضة 1985م تشرَّفت بأن كنت ثاني اثنين، مع خالد الذِّكر الطَّيِّب أبو جديري، حُمِّلا مذكرة الحزب حول الدُّستور الانتقالي إلى المجلس العسكري، لمناقشتها معه، حيث طالبنا بضمان أوسع احترام للأديان، وأكدنا أن الحزب "يستمد من أصول الشَّريعة ما يلائم العصر، ويحترم جميع الأديان، وكريم المعتقدات، ويعارض المساس بمقدَّسات الشَّعب، لكنه يعارض المتاجرة بالدِّين فى السِّياسة" (المذكرة، أغسطس 1985م). وما من شكٍ، فى أن أحداً لا يستطيع أن ينسب شيئاً من ذلك إلى "العلمانيَّة"، على حدِّ المصطلح الغربى!
كما سعى الحزب، عام 1988م، خلال مشاورات مجلس رأس الدَّولة مع الكتل البرلمانيَّة، بعد إقالة حكومة الصَّادق الثَّانية، تمهيداً لتوسيع الائتلاف الحاكم بإشراك الاسلامويِّين. إلى فض التباس مصطلحات "دولة علمانيَّة/ دستور علماني/ دستور إسلامي"، وتقديم البديل الاصطلاحي والمفهومي، مشدِّداً على عدم اهتمامه بحرفيَّة مصطلح "العلمانيَّة"، بكسر العين أو بفتحها، وإنَّما يولي اهتمامه لـ "الدِّيموقراطيَّة"، كحريات عامَّة، وحقوق أساسيَّة، ونظام حكم، ومؤسَّسات، بل ويعارض "الدَّولة العلمانيَّة" عندما تصادر هذه "الدِّيموقراطيَّة"، كما فعل مع عبُّود "العلماني"، والنِّميري الذى بدأ علمانيَّاً يساريَّاً، قبل أن يعلن قوانين سبتمبر 1983م وينصِّب نفسه أميراًً للمؤمنين!
وقد دعا الحزب إلى تجاوز استقطاب "دولة دينيَّة/ دولة علمانيَّة"، مقترحاً مفهوم ومصطلح "الدَّولة المدنيَّة".
فكيف يُمكن، إذن، مناقشة موقف "اليسار"، في معنى الشِّيوعيِّين، من "الدِّين"، بمنأى عن هذه الأطروحات؟!

السَّبت
سعدت، نهار السَّبت 18 مارس المنصرم، بالحديث إلى مجموعة من الاعلاميِّين والاعلاميَّات، بقاعة "طيبة برس"، حول علاقة "الإعلام والسِّياسة". أوَّل ما بدأت التَّنويه به أن "الإعلام"، خصوصاً "إعلام الثَّورة"، إذا نأى عن قضايا "السِّياسة"، فإنه ينزلق إلى مسائل شديدة الخفَّة، كالشَّائعات، وأخبار الجَّريمة، وتنافس "القونات"، وشجاراتهنَّ، ونتائج مباريات كرة القدم، وهلمَّجرَّا، مِمَّا تتخصَّص فيه، عادة، صحافة "التَّابلويد"؛ أمَّا "السِّياسة"، بالمقابل، فإنَّها، بدون "إعلام"، لا تعدو كونها، بالغاً ما بلغت من "الثَّوريَّة"، أجراساً تقرع في أودية العدم، فلا أرضاً تقطع، ولا ظهراً تُبقي، حيث لا سميع، ولا مجيب!
لكن، إن كان الهدف استجلاء دلالات هذين "المفهومين"، بجدِّيَّة، فثمة رباط بينهما يكاد لا ينفصم، وينبغي وضعه في الاعتبار، خصوصاً في هذا العصر الذي يتَّسم بالانفجار الضَّخم لما أضحى يُعرف بثورة الاتِّصالات، وازدهار "وسائط التَّواصل الاجتماعي mass media". ولا نحفل، في إطار هذا التَّعريف، بالوسائط التي تُنحصر، للأسف، في لهو "الشُّلليَّات"، تزجية لوقت الفراغ، وإنَّما نركِّز على تلك التي تقوم بدور العامل النَّشط، سريع الفعاليَّة، في توصيل المعلومة ذات الجَّدوى، والخبر الموثوق فيه، واللذين يمكن الرُّكون إليهما. بعبارة أخرى تلك الوسائط التي عَمَدَ عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان، من باب المبالغة في تقدير أهمِّيَّتها، إلى مضاهاتها بـ "حامل الرِّسالة" الذي يعتبر أكثر أهمِّيَّة من "الرِّسـالة" نفسها!
لقد حقَّق التَّطوُّر التكنولوجي لهذه الآليَّات إمكانات ثوريَّة سمحت، ولأول مرَّة، بالتَّفاعل الفوري المباشر بين طرفي الرِّسالة "الإعلاميَّة"، بما أتاح، في المستوى "السِّياسي" الإيجابي، شنَّ أوسع وأسرع حملات التَّحيد والتَّعبئة لأغراض اجتذاب التَّضامن، مثلاً، على صعيد القضايا التي تهمُّ الرَّأي العام العالمي والمحلي، كالحملات التي ما انفكَّت تنظِّمها، على المستوى الكوني، منظَّمة "آفاز" العالميَّة، ومن أمثلتها البارزة حملتُها، مؤخَّراً، لإعانة ضحايا الزَّلازل في سوريا وتركيا، وفي المستوى السُّوداني، كذلك، حملات الأحزاب، والكيانات "السِّياسيَّة"، وجماعات الضَّغط، ومنظَّمات المجتمع المدني. باتِّجاه المليونيَّات، والوقفات الاحتجاجيَّة، وما يروِّج له "إعلام الثَّورة"، ويتيح له سلطة المشاركة في صناعة الأحداث "السِّياسيَّة"، بينما، في غياب هذا "الاعلام"، يمكن ألا تبلغ هذه المطلوبات الجَّماهير الشَّعبيَّة، فتنتهي إلى فشل "سياسي" ذريع، أو تتمخَّض، في أفضل الاحتمالات، عن مخرجات غاية في التَّواضع!
وكان قد شاع، في السَّابق، الاعتقاد بـ "خرافة" حياد "الإعلام" عن "السِّياسة"، واعتبارهما كيانين منفصلين يدور كلٌّ منهما في فلك خاص. غير أن الثَّورة العلميَّة التكنولوجيَّة مكَّنت من مراجعة العلاقة بين "السِّياسة" و"الإعلام"، من حيث التَّلازم، والتَّكامل، رغم أسبقيَّة الأولى على الأخير، والدَّور المتميِّز لهذا الأخير في المشهد "السِّياسي". مع ذلك، بل لذلك، يُعوَّل، دائماً، على هذا الدَّور، بالذَّات، في المساعدة على بلورة رؤى الجَّماهير "السِّياسيَّة" التي تصبُّ، في المقام الأوَّل، في خدمة الأهداف النِّهائيَّة للثَّورة. بعبارة أخرى، ما يتحقَّق في "السِّياسة" باتِّجاه مصالح الشَّعب، تنعكس نتائجه على "الاعلام"، سواء في بلورة الوعي، أو اتِّخاذ المواقف، أو أداء الأنشطة، أو في مستوى النَّقل المتبادل للمعلومات، أو الأخبار، من الجَّماهير وإليها، باعتبار ذلك عمل "الاعلام" الرَّئيس في دعم الأنظمة والمواقف "السِّياسيَّة" الدِّيموقراطيَّة الخادمة، بالضَّرورة، لمصالح أغلبيَّة الطَّبقات الشَّعبيَّة. أمَّا في ظلِّ عدم أداء "الاعلام" لهذا الدَّور، فإن هذا التَّواصل "السِّياسي" ينعدم، فتعجز الأنظمة والمواقف الثَّوريَّة، حتماً، عن أداء وظائفها، وتفشل، من ثمَّ، في تحقيق "سياساتها".
لكن، برغم ما يلوح، هنا، من وضوح نظري، فثمَّة استفهامات ما تزال تنطرح حول طبيعة دور "الإعلام" على صعيد "السِّياسة"، في ظل الصِّراع الذي ليس نادراً ما يقع حول مدى "استقلاليَّته" الإجرائيَّة، رغم "تبعيَّته" الفكريَّة للنِّظام الخادم لأغلبيَّة الطَّبقات الشَّعبيَّة، بما يسمح له بهامش النَّقد الحر المرغوب فيه. وهي استفهامات ليس أجدر على حسمها من الاعلاميِّين أنفسهم.

الأحد
قيل لأعرابي: "ما تسمُّون المَرَق"؟ قال: "السَّخين". قيل: "فإذا بَرَدَ"؟ قال: "لا ندعه يبرد"!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا زادت الجزائر إنفاقها العسكري بأكثر من 76 في المئة؟


.. لماذا تراجع الإنفاق العسكري المغربي للعام الثاني على التوالي




.. تونس: هل استمرار احتجاز المتهمين بالتآمر على أمن الدولة قانو


.. ليبيا: بعد استقالة باتيلي.. من سيستفيد من الفراغ؟ • فرانس 24




.. بلينكن يبدأ زيارة للصين وملف الدعم العسكري الصيني لروسيا على