الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن داعش في ذكرى معركة الباغوز

راتب شعبو

2023 / 3 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


في آذار 2019 جرت معركة الباغوز، آخر المعارك الكبيرة ضد تنظيم داعش في معقله الأخير، كسرت المعركة شوكة هذا الوباء الذي ظهر وانتشر بسرعة تضع العقل في الكف. ليس غرضنا هنا أن نتأمل في كيفية البروز الصاعق "لدولة" مضادة لكل الدول، ومضادة للعالم بالأحرى، ولا التفكير في من أين توفرت على القدرات المادية والتنظيمية والأسلحة والخبرات ... الخ، أو كيف تمكنت من ترجمة أموالها (لنفترض أنها نهبت الأموال من البنوك) إلى مستلزمات مادية محددة وبمقادير وأعداد كبيرة تتطلب علاقات خارجية وصفقات مع دول أخرى "معادية" لها. وكيف استطاع التنظيم أن يبرز متحدياً محيطه وأن يصل إلى درجة يحتاج بها العالم إلى تشكيل تحالف دولي واسع يضم عشرات الدول وتتزعمه أقوى دولة في العالم، لمحاربته الأمر الذي لم ينته، بصورة تامة، حتى اليوم. كما ليس غرضنا هنا أن نناقش مفارقة بروز التنظيم في بلدين (العراق وسورية) محكومين منذ عقود لأبناء منهج واحد يتحدثون عن البعث العربي وعن الاشتراكية والتقدم، فيما كانوا في الفعل يثابرون على بناء شروط مناسبة لبروز هذا النوع من التنظيمات السوداء. لا عجب في أن تغريب الناس عن دولتهم بسبب استعمار الدولة من قبل طغمة حكم، وحقن المجتمع بالعصبيات بسبب الممارسات التمييزية في المجال العام، يمهد لبروز تنظيمات عدمية، كما يمهد نقص المناعة في الجسم لنشوء الأورام.
من الطريف ملاحظة التشابه بين نشوء وانتشار هذا النوع من التنظيمات النكوصية العداونية، وبين نشوء وانتشار الورم السرطاني. في الحالتين هناك نكوص، في السرطان أيضاً تنكص الخلية إلى حالتها البدائية ولا تحافظ سوى على وظيفة التكاثر، وفي الحالتين هناك تمدد وانتشار بآلية عدوانية تجاه المحيط. أي أننا، في كلا الحالتين، أمام نكوص غازٍ يهدد حياة الجسد والمجتمع.
يكفّر تنظيم "الدولة" العالم الحديث، ويكفر صراحة بكل القيم التي تواضع عليها، أو اعترف بها، هذا العالم. لا بل يقيم "التنظيم" مشروعيته أساساً على رفض كامل ومعلن للقيم الحديثة، يتجلى ذلك حتى فيما يعتمده من أسماء ولباس ورموز. الواقع أن هذا التشبه الشكلي بماض "إسلامي" مؤسطر ومرفوع فوق تاريخه، لا يدل على إخلاص وانتساب صحيح لهذا الماضي، إنما يدل على تضاد معه، بل وخيانة له بالأحرى. مثل من يمارس مهنة الطب دون أن يمتلك من مقوماتها سوى شكليات المهنة، فتكون ممارسته "الطبية"، في هذه الحال، قاتلة ومضادة للطب من حيث هو علم وممارسة داعمة للحياة.
"التنظيم" يرفض العالم الحديث جملةً، دون أن يقدم نقداً لهذا العالم، نقداً يتضمن مقترحات وسبل تجاوز ما في العالم من قصور وأزمات. ما يطغى هو الرفض، والرفض دون نقد، ينتهي بالحركة إلى العدمية أو العنف المجرد من أي مشروع تجديدي. في هذا ما يجعل "التنظيم" على تضاد عميق مع الماضي الذي يزعم تمثيله وإحياءه والوفاء له، ذلك لأن ما ميز الماضي المنشود هو محتواه النقدي وانفتاحه على المستقبل، وهو ما يفتقده "التنظيم" بالكامل. لذلك ينبغي التدقيق في تحديد نكوصية هذا "التنظيم"، لإدراك أن مرجعيته ليست ذاك الماضي الذي يزعمه، إنه في الحقيقة لا يستلهم الماضي الإسلامي الحي الذي يكتسب قيمته العامة بوصفه منطلق الدعوة الإسلامية ومصدر إشعاعها، بل يعود إليه بوصفه "صنماً" وموضوعاً للإيمان. أو بكلام آخر، يعود إلى الماضي المنشود ليجعله منتهى وليس منطلقاً، وليقتل فيه طاقته الإشعاعية. على هذا، فإن نكوصية "التنظيم" هي عملية إخماد للماضي المنشود وليست عملية إحياء له، كما يريد أن توحي، أو قل هي نكوصية غير إحيائية. والحق أن هذه التنظيمات محكومة بالاندثار، على خلاف الماضي الذي تتغنى به. ويمكن القول إنها النقيض المباشر لما تعتقد أنها تؤمن به وتجاهد من أجله.
أقدم "التنظيم" على ممارسة نكوصه الشكلي هذا بأكثر الطرق فجاجة واستفزازاً، أكان ما يتعلق بمعاملة المرأة أو بمعاملة أبناء الأديان والمذاهب غير المسلمة السنية، أو بمعاملة أهل المذهب السني غير الملتزمين بالنسخة الدينية / السياسية التي يقرها التنظيم بوصفها "الإسلام الصحيح". لكن مع ذلك استطاع التنظيم أن يسيطر وأن يمحو حدوداً دولية وأن يطبع مرحلة من تاريخ هذه المنطقة بطابعه. يجد ذلك تفسيره في الدور السياسي الذي لعبه التنظيم حين برز بوصفه الرد الأكثر جذرية في وجه الواقع السياسي القائم على تهميش وإفقار وإذلال قطاعات واسعة من الشعب، وبوصفه الرفض التام للواقع الذي يبدو مغلقاً بلا أفق. لم يكترث الناس لما يطرح التنظيم من أفكار، بقدر اكتراثهم لفاعليته في مواجهة القوى التي تحرس واقع البؤس الذي هم فيه. في مثل هذه الحالات يبدو الرفض أهم من النقد، وتبدو اللاعقلانية بمثابة الأمل الوحيد للتغيير، وهو ما جسده التنظيم.
لا يمكن لوم القطاعات الواسعة من الجمهور المسلم السني إذا رَجَتْ خيراً من "التنظيم"، وإذا لم تعاده، ولاسيما أنه حمل راية الهوية الدينية التي ينتسبون إليها والتي يستقر في وعي الكثيرين أنها تتعرض لحرب إقصاء، فقد عادت السلطة في العراق إلى الأغلبية الشيعية، بعد أن أطيح بصدام حسين المنتمي إلى الأقلية السنية، دون أن يحدث الشيء ذاته مع الأغلبية السنية في سورية. بات السنة إذن مبعدين عن السلطة في البلدين اللذين توضع فيهما "التنظيم"، كما يبدو الأمر لوعي هوياتي انتعش في المنطقة عقب الاحتلال الأمريكي للعراق. والحق أن هذا الوعي مهد لصعود التنظيم الذي استثمر في الهوية الدينية المذهبية إلى حدود قصوى، والذي تمت مواجهته في العراق كما في سورية على يد تشكيلات عسكرية تغلب عليها الهوية المذهبية الدينية غير السنية، فبرز كأنه التمثيل الأقوى للمسلمين السنة هنا وهناك.
الشروط التي سمحت ببروز "التنظيم" المضاد للوطنية السورية وللعقلانية الحديثة، هي نفسها التي أعاقت أن تكون مهمة مواجهته مركز استقطاب وطني سوري، فقد أنجز المهمة تحالف دول خارجية، بمساعدة قوات سورية يغلب عليها العنصر الكردي، قوات لم تشكل، في ظل حساسيات الوضع السوري، محل إجماع وطني رغم حجم التضحيات التي قدمتها في مواجهة "التنظيم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل