الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوتوبيا الشعر

محمد أبو زيد

2006 / 10 / 24
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الكتابة كما عرفها جان كوكتو هي فن التورط ، و الشعر كما تقدمه الشاعرة نجاة علي في ديوانها الثاني " حائط مشقوق " والذي صدر أخيرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب هو أيضا كذلك فن التورط لكن في الحياة في تفاصيلها ، في التقاط الشاعرية من هذه التفاصيل ، لذا يصبح من الصعب على أي قارئ أن يبحث عن تعريفات الشعر الكلاسيكية أثناء قراءته لديوان نجاة ، ذلك لأن الديوان يخلق شاعريته الخاصة به ، يستمدها من لغته ، من بلاغته المفارقة للمألوف ، من تفاصيله الدقيقة التي لا تشبه بأي حال من الأحوال تلك التفاصيل التي يتحدث الجميع عن أنها علامة قصيدة النثر الآنية ، ولا تتخذ نجاة من تلك التفاصيل متكئا للحكي بقدر ما تستند إليها لتعبر من خلالها إلى شاعرية النثري البسيط .
ويبدو ديوان نجاة علي " حائط مشقوق " بقصائده الستة عشر كأنه امتداد لديوانها الأول " كائن خرافي غايته الثرثرة " والذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2002 ، و كأنه بقية مشروع خاص تعمل نجاة عليه في دأب وصبر ، و كما يبدو امتدادا فإنه يبدو لإضافة أيضا إلى ما قدمته ، وتقديم لمساحة أوسع من الرؤية ، فنجد هنا عددا من التيمات التي استخدمتها نجاة في ديوانها الأول مع تطور الحالة واللغة بالطبع ، ولعل أهم هذه التيمات هي تيمة غياب سلطة الأب والتي تبرز في عدد من القصائد أبرزها " الجنرال " و " هزائم صغيرة للعشاق" ، ففي حين تبدو حالة حزن واضحة في الديوان الأول لغياب الأب :
وقبر كتبت عليه
بحزن متوهج :
" يا أبي
كل هؤلاء الرجال
لا أحد "
أو مثل قولها في قصيدة كائن خرافي غايته الثرثرة :
وجوه مكسورة
وملامح تشبه ملامحي بالضبط
في آخر مرة
رأيت فيها أبي
نجد هذه الرؤية قد تطورت ، وأصبحت أكثر شفافية ، و وضوحا ، بل وأكثر صفاء، فهي في ديوانها الجديد تقدم بقية الحدث بحيادية تامة تستمد شاعريتها من حزن لا تقول به أبيات الديوان وإن كانت تنقله في ثناياها ، فهي تقول في قصيدة الجنرال:
تأخر كثير عن موعده
هذا الجنرال الطيب
الذي يشبه أبي
سيبدو رائعا هذا المساء
في حلته الرمادية
فالجنرال الذي يرد ذكره في الديوان على أنه الأب أو شبيه الأب يبدو صافيا تماما ، فالموسيقى تعزف له وحده ، والحفل معد له وحده ، ولا تبدو حالة البكائية الشديدة الني كانت تصاحب ذكره في الديوان الأول ، كم أنه في قصيدة " هزائم صغيرة للعشاق " يبدو مختلفا أيضا :
وكيف لم ينتبهوا هم
لتلك العلامات الغائرة
صارت الآن خرابات
واسعة
يمر العابرون بها
دون أن يكتشفوا
رائحة أبي
تلك الرائحة التي
تحتل السقف المعتم
وعروقي التي افترستها
الأنيميا
ويبدو الديوان الجديد مختلفا عن القديم وامتدادا له في ذات الآن في أنه يقدم مثل سابقه عالما غريبا ، ففي حين قدمت نجاة في ديوانها الأول عالما خرافيا ، يبدو متأثرا بالأسطورة إلى حد كبير ، وتكثر به الأشباح والمشوهين ، نجدها في هذا الديوان تقدم لنا تطور هذا العالم ، فالحياة تحولت إلى لعبة كبيرة كل منوط فيها بدور ، أو دعونا نقول أن العالم تحول إلى مسرحية فيها المشاهدون والكومبارس ، والأبطال والمصفقون أيضا :
ياله من مشهد رائع
يستوجب التصفيق
لكن المشهد الذي تقدمه نجاة عقب هذين السطرين الشعريين ليس رائعا ولا يستوجب التصفيق ، بل هو مأساوي لدرجة كبيرة ، لكنها قواعد اللعبة ، أو المسرحية فكل يجب أن يقوم بدوره أيا كان ، فالجنرال يقوم بدور الأب ، ويتنقل وهو مرتد هذه الشخصية من قصيدة إلى أخرى ، أما الذات الشاعرة فإنها ترتدي جسدها ، وتنتقل بين المقاهي بحثا عن أشخاص ميتين ، رغم معرفتها بذلك ، أو أن تقوم بدور هيتعرفه مسبقا ، كما في قصيدة المحترفة :
كنت أتفرج عليها
وأضحك
وهي تأخذ مني الولد
الولد الوحيد الذي أحببته
ببلاهة
تركته لها هكذا
دون مقاومة
فهي هنا تنتقل في اللعبة / المسرحية من دور المتفرجة إلى دور البطلة ، وإن بدت سلبية ، لكنها في تنقلها عبر نصوص الديوان مع الآخر / الولد ، تغير كثير ا من هذه الأقنعة للآخرين وتحتفظ بقناع واحد لذاتها ، وربما يبرر هذا أن الصدفة التي تبدو حاضرة حضورا كبيرا في قصائد الديوان والتي ستغير مصائر الأمور لن تتمكن من تغيير الأدوار المنوطة بكل شخص ، رغم انتظارهم وتسكعهم في الشوارع انتظارا لهذه الصدفة :
تتسكع لساعات طويلة
أمام المقهى
على أمل أن تعطل عودتها للبيت
أو تحدث صدفة
صدفة واحدة ويمر أحد تعرفه
الولد الذي قاطعته
مثلا
منذ ثلاثة شهور
لأسباب تافهة
وهذه الأسباب التافهة لا تبدو مبررا بقدر ما تبدو دليلا على أن الأشخاص الذين رسمت الشاعرة حيواتهم بحرص يمارسون حيواتهم ، تماما ، كما خططت لهم ، رغم رغبتهم غي التمرد أحيانا :
وهل هذه أيضا صدفة
أن تولد بنت كهذه
بروح شاحبة
في ليلة ديسمبرية
شديدة العتمة
لكن هذه البنت الشاحبة رغم ذلك تمارس أداء دورها في قصيدة أخرى، أو بالأصح تبحث عن هذا الدور :
تبدو البنت التي انتظرته طويلا
حائرة في وقفتها
كمن يبحث عن دور مناسب
قبل أن تبدأ اللعبة
هل هي لعبة إذن ، وليست مسرحية كما توهمنا منذ البداية ، أو كما أوهمتنا الشاعرة ، ربما ، لكن كل هذه الخيوط ستحيل إلى تيمة أخرى مهمة تطرحها قصائد الديوان وهي الحكاية ، فقصائد الديوان التي تبدو في أغلبها حكاية واحدة طويلة متصلة منفصلة ، نجد بها أشخاص نعرفهم ، أو تحرص الشاعرة على نقلهم واصطحابهم معها من قصيدة إلى أخرى ، كأنهم أبطالها الذين تخشى تركهم ، لكن هذا لا يعني تكرارية النصوص بقدر ما يعني تعدد دوال الحالة وتعدد الأقنعة التي يقدمها الديوان ، والذي يمكن في إحدى حالاته أن نقدمه على اعتبار ه نصا واحدا طويلا.
الدراما في ديوان نجاة علي لا تعتمد على الحكي ، ولا على الحدوتة التقليدية ، وإنما تعتمد على تفاصيل صغيرة تخص هؤلاء الأبطال الذين تتعدد وجوههم وحالاتهم ، ومن هنا لا يمكننا القبض على حكاية واحدة كاملة رغم توفر عناصرها ، بمعنى أن هناك روح الحكاية لكنها حين تمتزج بروح الشعر فإن الأخيرة تطغى ولا يبقى من الأولى سوى تفاصيل مدهشة ، و روح جميلة.
الشخوص الذين تقدمهم نجاة علي في ديوانها ، و لأنهم ينتمون إلى عالم مفارق كما اتفقنا ، ولأنها اختارت أن تصنع منهم عالمها الخاص ، اليوتوبي في أغلبه فإنها قسمتهم إلى أشرار وطيبين ، والتقسيم هنا لا يشير إلا إلى انغماس شاعرية نجاة في البحث عن يوتوبيتها ومدينتها وكائناتها الخاصة وهو ما يستدعي ضرورة أن يكون ثمة آخرون دائما بأقنعة متباينة ، وربما بخلاف قصيدة " المحترفة ، اهرب من صورتها حين تجيء إلي" والتي تتبدل فيها إحدى الشخصيات وترتدي ثوبا شريرا ، فإن بقية الشخوص مقسمون بين هذين العالمين ، فالأب تصفه بأنه طيب، وثمة شخوص آخرين تصفهم بالطيبة رغم اختلاف الآخرين معها في هذا ، ولكن لأنه عالمها فإنها تقسمه كما تشاء( هي التي أوغلت كثيرا في عشق القبور ) ، لذا تصف ملك الموت بالطيبة في قصيدة " في انتظار الملاك الطيب " وربما تبرر الحالة التي تقدمها القصيدة هذا الوصف :
ستعرفه جيدا من هيئته
الطيبة
"ملاك الموت "
ذلك الذي تحبه
لكنه أفسد بتأخره كل شيء
أعدته من أجله
كما أننا نجدها في قصيدة " نزف " تصف أحد الأشخاص – ربما هو الأب - بأنه" كان هزيلا وطيبا ، ولا يريد أن يكلم أحدا " ويبدو لافتا أن الطيبة هنا ترتبط بالصمت ، وأيضا في قصيدة الجنرال وكذلك في القصيدة التي تهديها القاص الراحل سيد عبد الخالق.
العالم الذي تقدمه نجاة بالرغم من ذلك ليس عالما ملائكيا، ولا يوتوبيا ، رغم أنها تصف الملائكة بالطيبين أيضا ، فهي ترى أن :
أظنه سيأتي ثانية
فلن تريحه الجنة كثيرا
بجدرانها العالية
وأبوابها الكثيرة المغلقة
إذ ليس بها أشرار يشبهوننا
تبحث نجاة علي في ديوانها الجديد الجميل " حائط مشقوق " عن الانعتاق من هذا العالم ، عن عالمها الخاص، الذي ليس يوتوبيا بالتأكيد، تبحث عن الحرية ، عن الكتابة الحقيقية ، عن يوتوبيا الشعر ، أو الحالة الشعرية ، وذلك بالقفز على أسوار البلاغة التقليدية ، بشاعرية جديدة ولغة طارجة ، وقصائد جميلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد -الإساءة لدورها-.. هل يتم استبدال دور قطر بتركيا في الوس


.. «مستعدون لإطلاق الصواريخ».. إيران تهدد إسرائيل بـ«النووي» إل




.. مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لسكاي نيوز عربية: الاعتراف بفل


.. ما هي السيناريوهات في حال ردت إسرائيل وهل ستشمل ضرب مفاعلات




.. شبكات | بالفيديو.. سيول جارفة في اليمن غمرت الشوارع وسحبت مر