الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقعد الفارغ

جميلة شحادة

2023 / 5 / 14
الادب والفن


كان المقعد فارغًا، فشعرتُ بانقباضة في صدري لا أدري تمامًا ما سببها؟ ربمّا لأن المقاعد الفارغة تثير بي الحزن، فقد لا يعود البعض ممَن شغَلها ذاتَ أُنسٍ إليها مرة ثانية. وربما؛ ستظلُّ شاغرة كتلك التي ما زالت تحتلُّ مساحةً من أركان بيتي، وتنتظر الأحبةَ الذين غادروها ولم يعودوا، فقدِ اكتفوا بأن تركوا عطرهم يفوح في كل ثنايا المكان والزمان، لكنّي أنا، ما اكتفيت.
" لقد مات". قالت رغد ردًا على سؤالي لها عنه. لقد مات قبل خمسة أيام، وهناك نعي معلّق على باب العيادة، ألم تلاحظيه عند دخولكِ للعيادة؟ سألتني رغد وتابعت تقول دون أن تنتظر سماع ردّي: " على أي حال النعّي مكتوب بالروسية فقط، ومع هذا قرَّرت الإدارة أن تلصقه على المدخل الرئيس للعيادة تكريمًا له على ما قدمّه لها من خدمات.
ترقرقت دمعتان في عينيّ، وشعرتُ بهما تتوسلان كي أفكَّ قيْدهما، لكني لم أفعل، وكنت أقسى من السجّانِ.، حيث أعدتهما سريعًا الى مخبئهما. لستُ جاهزة بعدُ لأظهر حزني، لست جاهزة بعدُ لأكشفَ لبيض الوجوهِ، سَمار فقْدي.
لقد مضى ثلاثة أشهر على أول مرة شاهدته فيها. كان يجلس على مقعد خشبيّ موضوع على الرصيف أمام إحدى العيادات في المدينة. كان يرتدي ينطالًا من نوع الجينز، وقميصًا طويل الأكمام أزرق اللون كزرقة عينيْه، ويعتمر قبعة كروهات صيفية ملوّنة بالرماديّ الفاتح والكحلي الغامق، مصنوعة من قماش الكتّان، وجزؤها الأمامي يندلع كلسان طفلٍ اندلع من فمه ساخرًا من أحدهم. كان دائم النظر الى البعيد، لا ينتبه الى المارين من أمامه، وهم بدورهم لا يعيرونه أي انتباه أو اهتمام. ربمّا، هو مصاب بحنين موجع لأيام خلت، وها هو يستحضرها بجلسته هذه كشريط يعيده الى الوراء، ليتفرج بالأسود والأبيض على محطات قد مضت من حياته.
من ملامحه يكتشف الناظر إليه أنه قادم من روسيا، ولا يمكن لأحد أن يخطئ بذلك، وإنما قد يخطئ بتحديد عمره؛ فقد عرفتُ من "رغد" أنه يبلغ الثالثة والسبعين من العمر، غير أن مظهره الأنيق وجسمه الرياضي يجعلان كل من ينظر إليه يظن بأنه لم يتجاوز الخمسين من العمر.
- أهلا ديمتري. هتفت رغد باللغة الروسية مُرحبة به عندما لمحتْهُ يطلُّ بقامته السامقة من باب قسم العلاج الطبيعي. كانت رغد تجلس خلف مكتبها وأمامها الحاسوب، وأنا أجلس على مقعد أمامها لتوثيق بعض المعلومات عن وضع الانزلاق الغضروفي أسفل الظهر الذي أصبتُ به نتيجة حادث سير، كان هذا بعد الجلسة العلاجية السادسة، والمتبع أن يتم تقييم وضع العضو المصاب ومدى الألم الذي يشعر به المعالَج بعد الجلسة العلاجية السادسة، لمتابعة طريقة العلاج، أو لإحداث التغيير عليها بما يتلاءم مع الوضع الصحي للمتعالج. إذن هو أيضًا متعالج في قسم الفيزوترابيا. قلت لنفسي. لم تكن "رغد" هي المعالجة لديمتري، بل جواد، ومع هذا كانت علاقتها به متينة، وبي أيضا، فقد بنيت معها علاقة ودية منذ الجلسة العلاجية الثانية، ولا سيما أن أختها "بلسم" زميلة لي في العمل. عندما لاحظت رغد دهشتي من ترحيبها الحار به، قالت وهي تشير لي بيدها أن أستلقي على السرير لتصلني بجهاز يصدر ترددات كهربائية تُشغِّل عضلات ظهري، بهدف تقويتها.
- أُذكِّرهُ بابنته لوسْيانا. لقد صرّح لي بذلك، فهي تجايلني، وابتسامتي تشبه ابتسامتها، لكن مهنتها تختلف عن مهنتي، فهي محاضرة جامعية، ومؤرخة أيضًا.
- وفي أي جامعة تعمل؟ سألت رغد.
- لم يخبرني عن اسم الجامعة التي تعمل فيها، كل ما أعرفه أنها تعمل في إحدى جامعات موسكو حيث تقيم مع زوجها.
- "إذن هي لم تقدم الى البلاد"؟ سألتُ رغد.
- "كلا. لقد رفضت القدوم مع والديْها الى البلاد قبل سبع عشرة سنة بالرغم من أنها ابنتهما الوحيدة، لم تقتنع أن بانتظارها أرض السمن والعسل وبلد الديموقراطية والمساواة". وتابعت "رغد" كلامها وهي ما زالت تضبط قوة الترددات الكهربائية الصادرة عن الجهاز بما يتلاءم مع قدرة تحملي لها قائلة: "ديمتري طبيب بجراحة الأوعية الدموية، ومع هذا لم ينجح بإنقاذ زوجته "نتاليا" مدرِّسة الموسيقا من الموت قبل ثلاث سنوات، لقد ألمّت بقلبها نوبة حادة فجائية، أدت الى وفاتها. ديمتري عمل في هذه العيادة، وقد أثبت جدارته في ممارسة مهنته، وبنى علاقات طيبة مع مرضاه وزملائه في العمل، وعندما خرج الى التقاعد، ظلّ يداوم في العيادة كطبيب متطوع، وهو منذ سنة، يجيء أسبوعيًا الى هنا للعلاج الطبيعي". لم تذكر رغد سبب حاجته للعلاج الطبيعي، وأنا لم أسألها.
انتهت جلستي العلاجية، شعرت بمرونة بعضلات ظهري، غير أن عضلة قلبي كانت أسرع من المعتاد في ضخ دمي الى خلايا جسمي. عدت مسرعة الى البيت، توجهت مباشرة الى الشرفة المطلّة على الشمال لعلّي أستنشق أكبر كمية من الهواء، وأملأ رئتيَّ بالأكسجين بعد أن شعرت بالاختناق. التفت يسارًا، اصطدم نظري بالمقعد الفارغ، فحرّرتُ دموعي من أسرها.
**********
12.10.2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في