الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرأة في الدخيل الجائر من التراث -الحلقة الرابعة

محمد الأزرقي

2006 / 11 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


منذ ثلاث سنوات وأنا أعمل مترجماً ومستشاراً ثقافيَّاً لمنظمة "الدفاع عن الحقوق الدستورية". وهي منظمة سياسية طوعية لا يتلقی العاملون فيها اجراً، ولها فروع في کبری المدن في الولايات المتحدة. وقد تصدرت هذه المنظمة غيرها من المنظمات ذات الطبيعة المشابهة عندما تولت الدفاع عن حقوق معتقلي گوانتانامو ودفعت بقضيتهم لتعرض علی المحکمة العليا في واشنطن. ومن المعتقلين الذين يتولی فريق المحامين الذين أعمل معه قضيتهم، صبي سعودي اسمه عبد السلام الشهري کان عمره عندما القي القبض عليه في افغانستان 12 عاماً فقط! وقد استرعی هذا المعتقل اهتمامي لصغر سنه أولاً، ولأن لقبه ذکرني بشخص طالما اعجبني ما يکتبه في إحدی الصحف العربية. وبمرور الوقت تطلبت طبيعة العمل الأتصال بعائلة الصبي المعتقل والألتقاء بالبعض من أقاربه، خاصة إبن عم له يعمل معلماً في احدی المدارس في المنطقة الشرقية من السعودية. وعندما سألت إبن العم هذا في إحدی المرات إن کانت له صلة قربی بالکاتبة السعودية ثريا الشهري، ضحك عوض بصوت خافت وقال، "نعم، لکن العشيره تبَرَتْ منها."

لم أفاجأ بما قاله عوض بأن "العشيره تبَرَتْ منها" لأن ثريا الشهري ما زالت تبدع في کتابة مقالات جريئة تنشرها جريدة الشرق الأوسط. من هذه المقالات مقالة نشرتها منذ بعض الوقت بعنوان "فقه المرأة بحاجة إلى تفسير آخر". قالت ما معناه انه دون إغفالنا بطبيعة الحال هناك إساءة في تفسير معنى القوامة، حيث الاختلاف المتكرر في فهم بعض الآيات والأحاديث المعنية بالنساء، عدا عن التحولات المتلاحقة التي جعلت المجتمع الإسلامي أقرب إصراراً للانغلاق والتأخر، وأكثر ترسيخاً لسلطته السياسية الاستبدادية، وبالتالي أميل قابلية لاستحداث عادات وتقاليد جاءت على حساب قدسية النص. ثم تمضي الشهري الی القول إن تحرير المرأة الذي بدأ في حياة النبي، لم ينته بوفاته. فإذا لم تعمل المرأة في عهده قاضية أو تتسلم منصباً سياسياً فهذا لا يعني أنه من الممنوعات لاحقاً، ولكن يعني أن النبي تصرف ضمن حدود الله وما سنّه من تعريفات تتناسب ومجتمعه آنذاك. إن ظروف التطور التاريخي للعرب وقتها لم تكن تسمح بقيام مجالس تشريعية أو نيابية، حتى تتقلد المرأة فيها منصباً قيادياً. ومع ذلك، فالإسلام أعطى المرأة حقها السياسي منذ أول يوم للدعوة، فكانت أول إنسان يقتل في سبيل الدين (سميّة)، غير حضورها لبيعتي العقبة الأولى والثانية، اللتين كانتا بمثابة المؤتمر التأسيسي لقيام الدولة الإسلامية في يثرب. حتى أنها حين تشجعت وخاضت دروباً لأول مرة وبنفسها (خولة بنت الأزور) لم يمنعها أو يلمها أحد. فإذا جاز لنا تشبيه وضع المرأة بموضوع الرق في الإسلام، نجد أن الرق لم يُلْغَ إلا في زمن متأخر جداً من ظهور الإسلام، ذلك لأن القفزات الفجائية التي يكون فيها حرق لمراحل التطور الاجتماعي لا يمكن السماح بها وإلا نكون قد حكمنا على المجتمع بالخلل فالدمار. وكذلك هي حكاية المرأة على مدى العصور.
تعتقد ثريا الشهري أن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل من الناحية الشرعية في مجالات الحياة والإنتاج، ما عدا ممارسة البغاء والعري، وإنما هي الظروف الموضوعية التاريخية التي تتحكم في تحديد نوعية العمل. ولذا وجب علينا كمسلمين أن ننظر إلى عمل المرأة من خلال التدرج المرحلي، وليس بقياس الشاهد الذي هو نحن على الغائب الذي هو وضع المرأة الاجتماعي والسياسي والقضائي في زمن النبي، والذي هو زمن مختلف عنا في كل شيء. فالإسلام لم يحرّم الاختلاط ولكنه حذَّر وحرص من خلوة الرجل والمرأة بدون محرم في مكان مغلق، وهو منع إيجابي في كل الأحوال. أمّا أن بعض المهن صعبة وفيها مشقة ولا تليق بأنوثة المرأة، فهذه يعود تحديدها إلى المرأة والتجربة العملية ومدى قدرتها على الاستمرارية لو أصرت عليها. ثم تذکرنا الشهري بملكة سبأ، "حين ذكر سبحانه وتعالى حالة امرأة حاكمة في القرآن، لم نع أي استنكار لكونها حاكمة لقومها، ولكن لعبادتها وقومها للشمس من دون الله. ألا تكفي معاملة النبي سليمان عليه السلام لهذه القائدة بمفهوم الند بالند حتى نعلم أنه يحق للمرأة أن تتقلد أعلى مراكز المسؤولية في الدولة الإسلامية، وفي سلطاتها الثلاث، إذا كانت مؤهلة لذلك!"

لقد تركتنا ثقافتنا الممزقة بين مستوى خطابي يصيح أصحابه بقيمة المرأة وإبرازها، وبين مستوى واقعي معاش تظل المرأة فيه عرضة للعن والتكفير والاتهام والانتقاد، بين مناد مؤمن بأن الجنة تحت أقدام الأمهات، وبين مجتمع يزعم محدثوه أن معظم أهل النار من النساء. وكأن الأمهات لسن من النساء، وكأننا ندعو الابن إلى البر بوالدته، فإذا فعل ذهب هو إلى الجنة، وذهبت هي إلى النار. ولا أدري حقاً لمَ يكون تحذير الشيوخ موجهاً عادة للمرأة بجميع تفاصيل حياتها، ولا نسمع على نفس القدر من يلوم الرجل على خطاياه وما أكثرها كما يحصل عند الحديث عن المرأة! وإن كان مثيرا للملل تمسك كثير من الرجال المسلمين اليوم بنظرتهم الفوقية للأنثى، نظرة وصلتهم من عصور حكمتها الشخصية الذكورية ذات المصالح المعروفة، إلا أن الأكثر إثارة للشفقة والسخرية على السواء أن يظن المرء أنه بتمسكه هذا إنما هو يتقيد بالقرآن. فإذا كان قطاع من الفقهاء قد ذهب في عصور التدوين وتأصيل الفقه إلى ما ذهب إليه خوفاً من سلطة أموية أو عباسية، فليس ثمة ما يجبرنا على الالتزام بتفاسيرهم، إلا إذا كنا نخشى أن تطيح بنا رياح التجديد والاجتهاد.

وفي مقالة اخری تقول ثريا الشهري إن استمرار حياة العشيرة في الجزيرة العربية قد ارتبط بطاقة المرأة على الإنجاب. ونتيجة لمحيط اجتماعي أصبحت المرأة فيه المصدر الحقيقي لتحديد مرجعية الأبناء المولودين من أزواج متعددين. لقد اختصت بخط الانتساب فنسب حملها إليها، إلى أن جُعل انتقال الإرث إلى أنسباء المتوفَى من طرفها. وما شيوع كلمة البطن والفخذ التي استعملها العرب وما زالوا ذات الارتباط المباشر بأعضاء المرأة وعملية الميلاد، سوى بمعنى العائلة أو العشيرة. وما لفظ الأمة سوى اشتقاق يعود بأصله إلى كلمة الأم، حتى لقد تضخم الاعتقاد بتوارث الصفات الطبيعية من الخال إلى الولد أكثر من أي شخص آخر. بل إن عبادة الشجرة المعروفة في عدد من المجتمعات القديمة، لم تكن غير تجسيد للحياة والخصوبة التي هي من صفات المرأة. ولكن، وبالرغم من كل ما قيل وعلى خلاف ما قد يتهيأ للرائي لم تكن المرأة العربية تتمتع في ظل العلاقات القبلية والرعوية، الأبوية بتلك المساواة الاجتماعية المتخيلة، فهي إن احتفظت بنصيبها في بعض النواحي، تراه خسرته واغتصب منها في النواحي الأهم. فيكفي وأدها حية وحرمانها من الإرث واستباحة الرجال لها، وهي الأمور التي أبطلها الإسلام وكفل لصاحبتها مساواتها مع الرجل في الخَلْق والإيمان والتكليف. لكننا نجد أنه ومع التوسع المجتمعي وتعقده في العهد الأموي، وقت اكتمال نشوء الدولة في جوهريها السياسي والتشريعي، قد أخذت مكانة المرأة في التدني وفرض القيود على حريتها وحركتها، بدءاً بحضور المساجد وانتهاءً بالمنع باستثناء العجائز. ثم ليليه العهد العباسي فيقضي على البقية الباقية من آثار حضور المرأة المحترم، أذ إنه مع توسع الفتوحات وتفشي الفساد والتفكك الاجتماعي والأخلاقي وانتشار الجواري والقيان والغلمان والخصيان، تقلصت مساهمة المرأة في مجتمعها، وانقسمت النساء إلى حرائر وجوار، في وضعية سهلت معها استغلال الرجل لها كذريعة لسيطرته على بنات جنسها.

وتختتم الشهري مقالتها بالقول إن تنشيط وعي المرأة وتثقيفه شرط أساسي لتحسين وضعيتها الاجتماعية، وكذا قابليتها للرفض والمقاومة والاختيار. غير أن الرجل وبسبب تكوينه النفسي وتنشئته البيئية على قيم وسلوكيات تدعم من تفوقه على المرأة منذ اللحظة التي يعي فيها أنه ذكر وأنها أنثى، يشير بالدلالة إلى أن التغيير الجذري لا ينبغي أن يكون في حدود العلاقة التسلطية بين الرجل والمرأة على مستوى الأفكار النظرية فحسب، ولكن على نطاق الممارسة العملية القريبة، وفي سياق التربية الفعلية ومنذ الولادة على المدى البعيد كذلك. أضف إلى ذلك حتمية ما يقتضيه الأمر من إجراء تعديل وتبديل في القوانين المدنية والأعراف الاجتماعية، بما ينسجم مع احترام القدرات العقلية والروحية للمرأة، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبداً، وليس بتهميشها في منظومة المجتمع واستدعائها وقت الحاجة واجهة للتزيين وكسب النقاط.

لقد أشرت في الحلقة الأولی الی أن المرأة تظهر في عدد من الأفكار الشائعة بأنها فتنة وأقل قدراً من الرجل. وهذا يدعو لمناقشة الحديث النبوي أن النساء ناقصات عقل ودين. ورغم ان هذا الحديث ليس شائعا ولا يشار إليه إلا نادرا بين المسلمين غير العرب، لكنه الحديث الذي يكاد يكون وحيدا في أوساط الإسلاميين العرب عند مناقشة أي موضوع يتعلق بالمرأة، سواء في بلادهم أم في أوروبا، رغم أن بعض علماء المسلمين يؤكدون ضرورة فهم الأحاديث في سياقها الزماني والمكاني. وبعضهم يحاول التشكيك في صحة الأحاديث التي تنتقص من المرأة، التي وإن سلموا بصحة بعضها فإنهم يعدونها دليلا على حث الرجال على معاملة المرأة برقة ولطف وليس أنهن أقل قدرا منهم. أما في موضوعات كقوامة الرجال فتبرز مشكلة ترجمة المصطلحات من جديد ونقل المفاهيم من ثقافة لأخرى، فالقوامة تراها المسلمة من حقوقها، بينما ترى المرأة الغربية أن حقها هو في أن تكون هي قادرة على رعاية نفسها خارج حماية الرجل إياها. وفي قضايا الميراث وشهادة المرأة تبرز أفكار وأسئلة جديدة لدى اتجاه ما بعد الإخوان. فهل يمكن تغيير نظام الميراث في ضوء تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأسرة المسلمة؟ إن البعض في اتجاه الإخوان يلفتون الانتباه إلى أن المرأة لا يطبق عليها "للذكر مثل حظ الأنثيين" في الميراث دائما، بل هي في حالات أخرى تأخذ مقدارا مساويا للذكر. وتلاحظ الباحثة آن صوفي رولد، التي تعرضنا لآرائها تفصيلاً في الحلقة الثالثة، أن المسلمين المنتمين للحركات الإسلامية يميلون عادة لتكرار آراء جماعاتهم في أدبياتها أكثر من تقديمهم رأيا جديدا، بينما يحاول اتجاه ما بعد الإخوان خلق قاعدة جديدة في التفكير الإسلامي.
يدافع بعض الإسلاميين بأن الوضع الطبيعي للمرأة هو نفسه الوضع الواقعي للمرأة في البلاد الأوروبية، حيث في الغالب هي المسؤولة عن أعمال البيت والأطفال. ومن الطريف إشارة هذا البعض إلى أن جوانب كثيرة من نظام الأسرة في الإسلام هو المواصفات المثالية التي تشجعها بعض البلدان الأوروبية. ويدرك المسلمون أن الأوروبيين ينظرون بعين الاستغراب للفجوة القائمة بين النظرية الإسلامية والتطبيق في الحياة اليومية. ولدی النظر في علاقة المرأة بالرجل، التي يأتي في مقدمتها طاعة الزوجة لزوجها وعقوبة المرأة الناشز، نجد ان مفهوم الطاعة له تصور سيئ في الغرب، الذي يفسره بالضعف وينظر إليه عبر منظار المساواة بين الجنسين. وتعود مشكلة ترجمة المفاهيم لتفتح الباب واسعا لدعم نظرة الغرب عن الإسلام بأنه دين يعادي المرأة. أما في نشوز المرأة وضربها فالعلماء يلجأون لتفسير معنى النشوز أولا لئلا يفتح المجال للضرب بلا حدود. وهذا هو الذي دعا الی تفسير هذه الظاهرة بأنها نوع من التأثر بالعولمة التي تعد العقوبة الجسدية شيئا غير مفهوم في حالة الراشدين، فضلا عن الأطفال.
اما المشارکة السياسية للمرأة، فقد اثير هذا الموضوع بعد أن ظهرت قيادات نسائية في بعض البلاد الإسلامية مثل بن نظير بوتو. وفي هذا الجدل يتم الاتكاء على حديث "لا يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة". وخلصت الباحثة رولد إلى أن الأفراد المستقلين من اتجاه ما بعد الإخوان وحزب التحرير الإسلامي يقبلون المرأة في مناصب عالية في المجتمع، بينما يرفض السلفيون تماما توليها المناصب العليا فضلا عن رئاسة الدولة، وهي فكرة يمكن قبولها لدى اتجاه ما بعد الإخوان. أما الإخوان فيرفضونها تماماً. ومن المفارقة أن مناصري حقوق المرأة المسلمين يشددون أنهم لا يريدون للمرأة تولي المناصب العليا، بل هم يسعون فقط للحد الأدنى من المشاركة السياسية لها في المجتمع. كما أن الأفراد المنتمين إلى منظمات معينة يميلون للتقيد بأفكار الجماعة في البلد الأم، في حين أن دوافع كالعولمة والهجوم على الإسلام والتعلم في الغرب والتفاعل مع مجتمع الأغلبية هناك، تدفع باتجاه تغيرات أساسية ليصبح بالإمكان تقبل القيادة النسائية المسلمة. وهذا يعني التحول نحو النموذج الثقافي الغربي الذي يدعم المساواة بين الجنسين.
اما تعدد الزوجات فهي القضية المثيرة للجدل عند غير المسلمين، فضلا عن النساء المسلمات اللواتي يفزعهن زواج أزواجهن بأخريات. وفي حين يدافع السلفيون عن التعدد باعتباره الأصل وليس الاستثناء، نجد من بين الصحابة من لا يشجعونه. وبذا تكون أفكارهم أقرب للنموذج الثقافي الغربي في عصرنا الحديث. بينما يرى أصحاب الاتجاهات الأخرى أن التعدد هو الاستثناء وليس القاعدة. وفي كلتا الحالين ينبغي ملاحظة أن النصوص الإسلامية يمكن تفسيرها بطرق متعددة بتعدد المفسرين وثقافاتهم وظروفهم. أما في أوروبا فإن فكرة التعدد غير مشجَّعَة بين أوساط الإسلاميين العرب، رغم أن التطبيق العملي للفكرة متنوع بتنوع المجتمعات الثقافية. ففي دول منطقة الخليج مثلا كان التعدد أكثر شيوعا في بداية القرن وقبل الثروة النفطية ثم بدأ يتراجع بتأثير العولمة ووسائل الإعلام. وتذكر سعوديات أن المسلسلات والأفلام المصرية ساهمت في هجر هذا النوع من الزواج بين السعوديين، لأنها صورت التعدد على أنه مشكلة اجتماعية.
يظل حجاب المرأة المسلمة من أبرز المظاهر الدينية التي تثير مشاعر قوية في أوروبا. ففي الثقافة الغربية عموماً يُنظر للدين على أنه أمر شخصي غير ظاهر يستقر في القلب. وبما أن الحجاب أمر ظاهر للعيان فهو شيء مستهجن. ولا تنسى الباحثة هنا أن تذكّر بمزية أخرى لبحثها وهي أنها مسلمة محجبة تتلقى شخصيا انطباعات سلبية وإيجابية بسبب الحجاب. وهي تتساءل لماذا لا يثير حجاب الراهبة المسيحية ذلك الاستهجان مع أنه يتشابه ظاهريا وحجاب المسلمة، فكلاهما يغطيان جسد المرأة ورأسها؟ وتجيب بأن الراهبة في تصور الأوروبيين رمز للنقاء والتدين، بينما المسلمة المحجبة حجابها رمز للقهر ضد المرأة وخطر من أخطار المنظمات الإرهابية ومتطفلة على التقليد السائد في أوروبا.
وحتى عند تفسير المسلمين للحجاب على أنه احترام لكيان المرأة وعقلها بغض النظر عن شكلها، فإن مثل هذه التفسيرات تثير جدلا في الثقافة الغربية التي لا تفسر الاغتصاب مثلا بأنه نتيجة لثياب المرأة المثيرة، بل يفسرونها بحاجة الرجل إلى ممارسة القوة والتعبير عن الظلم الذي قد يتعرض له. وهنا يجدر الانتباه إلى اختلاف تفسير القضايا الاجتماعية من ثقافة لأخرى. ومع اختلاف المذاهب الإسلامية على كيفية الحجاب إلا أن المسلمين في أوروبا يفضلون تغطية الجسد والرأس فقط دون الوجه، بينما يفضل السلفيون تغطية الوجه أيضا مع إقرارهم بصعوبة ذلك في المجتمعات الأوروبية، لإثارته العدوانية تجاه المسلمة. وكثير من عضوات الإخوان لا يغطين وجوههن في أوروبا بينما يفعلن ذلك في مصر. وما من شك ان العرب والمسلمين في بريطانيا يتابعون موضوع النقاب الذي تصر معلمة مصرية علی ارتدائه داخل المدرسة، بل وفي صفوف الأطفال الصغار الذين تعلمهم.
تلاحظ الباحثة آن صوفي رولد أن عملية الاختيار الجديدة من المصادر الإسلامية ربما تقلب الكثير من وجهات النظر التقليدية حول المرأة، حيث ظهرت أفكار جديدة بأن التفسيرات المقدمة لبعض النصوص حول المرأة والقضايا الاجتماعية ليست هي الوحيدة، بل على العكس هناك مرونة وأكثر من طريقة في التفسير، تلعب فيها الظروف الخاصة والعامة للمفسر دورا مهما. وهي تتوقع أن هناك اتجاها للتغير في ظل التحديات التي يواجهها المسلمون في الغرب ولعوامل أخرى كالتعليم والعولمة، الإعلامية منها بالتحديد، وانتشار الإنترنت والنقاش مع الآخرين حول العالم. ولهذا فاتصال المسلمين بالعالم الغربي أصبح مصدرا للتجديد والصحوة وليس بالضرورة مصدرا للتغريب.

إن النقاش الدائر بين هذه الأصوات، في رأيي، ليس له من فائز أو خاسر بل إن وجودها جميعا يعني وجود نقاش حر وحي يجمع الأصوات الرافضة والمدافعة على حد السواء في مناخ جديد لمناقشة الدين والحياة بدون خوف. إننا لسنا في حاجة إلى تعداد أوجه المعاناة التي تعيشها المرأة العربية في حياتها اليومية لنقر بحقها في حياة أفضل مما يقدمه هذا الواقع الحاضر، لكنني أشدد على أن هذه المعاناة هي المدخل الحقيقي للوعي بوطأة هذه القضية على مستقبل المجتمع، وذلك على النقيض من الكتابات التي تعدد أوجه الاختلاف بين الذكور والإناث من حيث نسب التعليم والتشغيل واحتلال المناصب القيادية، أو عدد الحقائب الوزارية ومقاعد البرلمان النسائي. إن ما لم يفهمه العديد في مجتمعاتنا هو أن المطالبة بالمساواة وبالحرية للمرأة يعني بالأساس الخروج من الصورة القاتمة التي يرسمها الواقع اليومي للمرأة في المجتمعات العربية وفي بقية المجتمعات.



صورة تظهر محنة المرأة العراقية في العهد الأمريکي الزاهر. إمارة طالبان اخری!


صورة تظهر محنة المرأة العراقية في العهد الأمريکي الزاهر. إمارة طالبان اخری!

إنه يعني استرجاع المرأة لإنسانيتها التي اغتصبتها الثقافة والهياكل الاجتماعية القائمة، وليس الأمر كما يذهب إليه البعض عندما لخصه في تذكير الإناث وفي التعدي على الطبيعة وعلى الفطرة، لأن قضية المرأة مرتبطة بطبيعة الثقافة السائدة وبالهياكل الاجتماعية الموجودة، وهي توظف الاختلافات البيولوجية لتبرير التفاوت الاجتماعي. إنني أستغرب من أن يتم تقديم مطلب المساواة بين الرجل والمرأة على أنه سعي دؤوب من طرف المرأة للتشبه بالرجل، أو أنه محاولة لصهر هويتين في واحدة. فكل رواد التحرر في هذا المجال ركزوا أكثر على مظاهر استغلال المرأة وعلى ضرورة المساواة مع الرجل انطلاقا من البعد الإنساني العام وليس انطلاقا من التقسيم بين الذكور والإناث. وليست المطالبة بالمساواة تعديا على الفوارق البيولوجية الموجودة كما أنها ليست طمسا للتنوع البيولوجي، بل هي دعوة لتحقيق مساواة في ظل التنوع البشري الطبيعي، فكما لا يمكننا أن نغفل عن حقيقة وجود إناث وذكور في العالم، لا يمكننا أيضا أن ننكر وجود الإنسان.

إن المساواة لا تعني التسوية البيولوجية، لأن مثل هذا القول فيه الكثير من السطحية وهو ابتذال لتجارب تاريخية رائدة لتحسين وضع المرأة. وحتى إن أخذنا بعين الاعتبار فاعلية الفوارق البيولوجية، فهذا لا يمكن أن يحجب عنا واقع المرأة التي تحدت مثل هذه النظرة الدونية لتقوم بما لا يقوم به الرجال وأكثر. أقول هذا وأنا أستحضر دور المرأة في الأرياف العربية، حيث تقوم بحراثة الأرض وجمع الحطب ورعي الأغنام وغير ذلك من الأعمال الشاقة إلى جانب دورها كأم. أستحضر كذلك مثال مناضلات شهيرات ضد الاستعمار وضد الهيمنة، حيث لعبت النساء العراقيات دوراً مشرفا، الی جانب اخواتهن العربيات مثل جميلة بوحيرد خلال الثورة الجزائرية، وسناء محيدلي في لبنان، وكذلك المناضلات من أجل الحرية وحقوق الإنسان وكرامة الوطن مثل راضية النصراوي في تونس وكذلك توجان الفيصل في الأردن. لقد قدمت هذه الأسماء الكثير للمواطن العربي دون أن يمثل حيضهن عائقا أمام ذلك، وأقول لمن ينكر أي دور سياسي للمرأة بأن في ذلك تجنيا على صفحات مشرقة من التاريخ النضالي العربي.

يكتب الشاعر والمفكر احمد عبد المعطى حجازي تحت عنوان "نحن فى حاجة الى فقه جديد" مشيرا الى ان الحاجة الى خطاب ديني جديد تستلزم وجود فقه جديد يمكننا من ان نعيش فى هذه العصور الحديثة كأعضاء فاعلين فيها نسهم فى حضارتها. ويؤكد حجازي ان الاسلام دين يخلو تماما من أى سلطة دينية، وإقامة الشعائر الدينية الاسلامية لا تحتاج لأى وسيط كهنوتي. والإسلام لم يأت بأى نظام سياسي، وترك امور الدنيا لاجتهادات العقل البشري، مكتفيا بإعلاء قيمة العدالة، وقيمة الاخوة، وقيمة المساواة. واعتبر قلب المؤمن مرجعا وحيدا نحتكم له ونرضى بحكمه فى ما لم يرد فيه نص. ولا شك ان امور الدنيا، وخاصة فى هذه العصور الحديثة، تقع كلها فى الجانب المتروك لاجتهادات العقول. ويرى حجازي أن اغلاق باب الاجتهاد فى القرن الثالث الهجري كان سياسة اتبعها الحكام المسلمون وتواطأ معهم فيها فقهاؤهم الذين كانوا يعملون فى خدمتهم. فالابقاء على باب الاجتهاد مفتوحا يشجع المسلمين على التفكير لانفسهم، ويحررهم من طغيان السلطة المطلقة والرأي الواحد، ويسمح بالتعدد، وهو شرط من شروط الحرية.

إننا اليوم في العالم العربي بحاجة ماسة إلى تغيير وضع المرأة، لكن هذا التغيير يجب أن يندرج ضمن مشروع أشمل لتحرير الإنسان العربي، فلا قيمة لمبدأ تحرير المرأة ومساواتها دون إيجاد الإطار العام لتحقيقه. وبعيدا عن التهميش نقول بأن المطروح ليس التسوية مع الرجال بتحدي الفوارق البيولوجية، بل إن المطروح عمليا هو تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة من خلال منع ضربها وإعطائها الحق في موضوع الطلاق وتحديد سن الزواج ومنع إيقافها عن الدراسة. إننا في حاجة إلى مزيد من العقول المفكرة إناثا وذكورا، بقدر حاجة عالمنا الی فرز الدخيل الجائر من التراث الذي يتمثل في الأفکار الظلامية الظالمة التي وردت في مخطوطة علي بن عمر بن علي بن البتنوني.

إنتهی


المصادر التي أشير اليها في المقالة

1. علي بن عمر بن علي بن البتنوني، العنوان في مکايد النسوان، مخطوطة حققها بشارة مرجية، دار الکرمل، عمان، 2001.

2. معتز الخطيب، تحرير المرأة: عقم المفهوم وانتهازية التطبيق، التجمع الأسلامي في أمريکا الشمالية بالتعاون مع دار المنار الجديد، العدد 19 حزيران، 2003.

3. ثريا الشهري، سلسلة مقالات في صحيفة الشرق الأوسط، 2004 - 2006.

4. فاطمة الصمادي، نساء في معترك السياسة، عمان، الأردن، 2005، مراجعة ابراهيم غرابية.

5. فوزية العشماوى ، ألمرأة فى أدب نجيب محفوظ، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2005، مراجعة أيمن رفعت.

6. زينب حفني "المرأة العربية: تأملات في حالها ودورها في صنع القرار"، الحياة، 4/5/2005.

7. آن صوفي رولد ، النساء في الإسلام: التجربة الغربية، روتلج، لندن، 2001، مراجعة مکتب کمبرج.

8. جوزيان كرسكولو، النساء المسلمات: مواجهات هنا وهناك، دي لاكرونيك سوشال، باريس، 2001، مراجعة مکتب کمبرج.

9. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، غزاليون ورشديون: ثلاثون باحثا عربيا فى مناظرة حول تجديد الخطاب الديني، 2003، مراجعة وفاء حسين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة