الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي

فراس ناجي
باحث و ناشط مدني

(Firas Naji)

2023 / 10 / 26
القضية الفلسطينية


أثير الكثير من الجدل حول معركة طوفان الأقصى، فيشبهها البعض بهجمات 11 سبتمبر المتطرفة لن يحصد منها الفلسطينيون الأبرياء الا الدمار، ويمجدها البعض الاخر كضربة بطولية لعنجهية إسرائيل لم تتلقى مثلها منذ حرب أكتوبر في 1973، بينما يراها اخرون تخدم المصلحة الإيرانية لكن بثمن باهض يدفعه شعوب الدول العربية المجاورة لإسرائيل. الا انها من منظور آخر تمثّل محطة فارقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي ما يمكنها ان تكون المدخل الى تغيير الخريطة الجيوستراتيجية للشرق الأوسط، وبالتالي ذات تأثير كبير على المشهد السياسي في العراق.

البعد الجيوستراتيجي لمعركة طوفان الأقصى

عسكريا، حققت المقاومة الفلسطينية إنجازا متميزا نقل بالمعركة الى أراضي فلسطين التاريخية لم يتمكن من تحقيقه لا الجيش المصري في أكتوبر 1973 ولا حزب الله اللبناني في 2006. فقد اخترقت الجدار الأمني حول غزة وسيطرت على قاعدة عسكرية كبيرة ونحو 20 مستوطنة إسرائيلية، مع تحييد وأسر عدد كبير من العسكريين بينهم ضباط كبار بالإضافة الى الخسائر في المدنيين، كل هذا عبر تنسيق عسكري استخباراتي غير مسبوق وبأسلحة جوية وبرية وبحرية.

أما البعد السياسي لهذه المعركة فهو أكثر دلالة، فقد تحطّمت الصورة الأسطورية لإسرائيل كدولة لا تُقهر، تنعم بالأمان داخل حدودها المحمية من الجو والبر والبحر، بينما تتحكم هي بالفلسطينيين المطوقين بصورة كاملة وتخترقهم امنيا واستخباراتيا في كل تفاصيل حياتهم. لقد أثبتت المعركة فشل ستراتيجية اسرائيل الأمنية وكشفت عن أرض بدون دفاعات حقيقية وجيش مُهلهل ومدنيين بدون حماية. ان صدمة الهزيمة في إسرائيل اليوم ليس من السهل تجاوزها، خصوصا اذا أخذنا في الاعتبار الانقسام المجتمعي الحاد فيها بين معسكر العلمانيين ومعسكر المتشددين اليهود. مع ملاحظة ازدياد حالات العصيان والتخلف عن الخدمة العسكرية في صفوف العلمانيين احتجاجا على عدم خدمة المتشددين اليهود في الجيش، واستئثارهم بالمساعدات المالية وسياساتهم الحكومية في التطرف الديني وزيادة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لقد تحولت أرجحية توازن القوة ستراتيجيا نحو محور المقاومة بصورة كبيرة بحيث من الصعب على إسرائيل اعادته الى سابق عهده، ناهيك عن إعادة تشكيله لصالحها. فقد ترسخت من خلال معركة طوفان الأقصى قواعد اشتباك جديدة تعجز إسرائيل في الوقت الحاضر عن ردع المقاومة عنها، تتضمن اختراق الحدود والصدام مع إسرائيل عسكريا على أكثر من جبهة في وقت واحد. كذلك ترسخت الشرعية السياسية للمقاومة الفلسطينية بقيادة حماس في مجموع الأرض الفلسطينية وإقليميا باعتبارها الفاعل الفلسطيني الرئيسي على حساب السلطة الفلسطينية.

الا ان الأهم من ذلك هو تصدع قوة الردع الحربي لإسرائيل والتي أقنعت فيها الدول العربية عبر حروبها السابقة، بأن تفوقها العسكري ودعم الولايات المتحدة لها يحيل أي تحدي لها الى خيار خاسر مسبقا. وكانت الولايات المتحدة قد استثمرت قوة الردع هذه للتحول من ستراتيجيتها السابقة في التدخل العسكري المباشر في الشرق الأوسط الى ستراتيجيتها البديلة في "التوازن عن بعد" offshore balancing بما يتيح لأمريكا إعادة تموضعها الدولي للتركيز على تحديات احتواء قوة الصين المتعاظمة في منطقتي شرق اسيا والمحيط الهادئ. فتكون قوة الردع الإسرائيلية رأس الحربة في مواجهة التهديدات المشتركة للمعسكر الأمريكي-الإسرائيلي وحلفاءه من جانب ايران واذرعها في المنطقة. حيث شرعت أمريكا لربط الجيش الإسرائيلي مع الجيوش العربية في بنية أمنية واحدة نتج عنها نقل إسرائيل في 2021 من منطقة عمليات القيادة الاوربية للقوات الامريكية الى منطقة عمليات القيادة المركزية المشرفة على دفاعات الدول الخليجية، مع تأسيس نظام للدفاع الجوي المشترك بين الأطراف المتحالفة.

ولعل المقارنة لمعركة طوفان الأقصى بهجوم "تيت" في الحرب التحررية الفيتنامية في يناير 1968 يمكننا من تقييم إنجازها السياسي الفارق في هذا النطاق بصورة ملموسة أكثر. فحينها قامت قوات مشتركة من فيتنام الشمالية وثوار الفيتكونج بهجوم مباغت اخترقت فيه دفاعات فيتنام الجنوبية التي كانت تدعمها القوات الامريكية، نقلت فيه المعركة من المناطق الحدودية الى قلب نظام العدو فوصلت فيه الى السفارة الامريكية والقصر الرئاسي في سايغون بالإضافة الى عدد كبير من المدن الفيتنامية الجنوبية. وعلى الرغم من اندحار مقاتلي المقاومة الفيتناميين وعدم تحقيقهم للأهداف المرجوة حينها مع تكبدهم خسائر فادحة (45 ألف قتيل للمقاومة الفيتنامية مقابل 9 الاف قتيل للقوات الامريكية والفيتنامية الجنوبية)، الا ان النتائج السياسية للهجوم حققت تغيّر في موازين القوى الجيوستراتيجية لصالح حركة التحرر الفيتنامية. فقد أثبت الهجوم هشاشة دفاعات القوات الفيتنامية الجنوبية رغم دعم القوات الامريكية لها، ما أفقد ثقة الإدارة الامريكية في قدرة حليفتها على الانتصار في الحرب بالإضافة الى تزايد تكلفتها البشرية والاقتصادية على المجتمع الأمريكي، ما أدى في النهاية الى الهزيمة والانسحاب الغير مشروط للقوات الامريكية وسقوط النظام السياسي الفيتنامي الجنوبي في 1975.

ومن نفس هذا المنظور، يبدو ان معركة طوفان الأقصى قد كشفت عن ان إسرائيل يمكن ان تكون عبأ على أمريكا اكثر من كونها الوكيل المنشود لردع التحديات الاقليمية المشتركة ومساعدة الولايات المتحدة في التركيز على أولوياتها العالمية. فقد انخرطت أمريكا في حرب غزة بصورة غير مسبوقة في أي من حروب اسرائيل السابقة، والذي شمل تحريك حاملات طائرات وقوات قتالية أمريكية الى إسرائيل مع زيارة الرئيس الأمريكي بايدن وطاقمه الحربي اليها لمساعدتها على تجاوز حالة الصدمة في صفوفها وردع أي جبهة جديدة يمكن ان تنفتح ضدها. وبتقويضها قوة الردع الإقليمية لإسرائيل، سددت معركة طوفان الأقصى ضربة قاضية لمشروع التحالف الجيوستراتيجي العربي-الإسرائيلي. فقد صرّح جو بوتشينو المدير السابق للاتصالات في القيادة المركزية الأمريكية ان " طوفان الأقصى حطم الحلم بالتكامل الأمني بين إسرائيل والعرب"، لافتا الى ان طوفان الأقصى سيؤدي "إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية في الشرق الأوسط لعقود من الزمن"، مشيرا الى الفجوة الواسعة بين إسرائيل ودول الخليج – خاصة السعودية التي بلورت موقف حاسم لمنظمة التعاون الإسلامي ضد إسرائيل – في أعقاب العدوان الإسرائيلي الوحشي على المدنيين في غزة.

تداعيات طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي

بِغَض النظر عن هدفها المُعلن من تدمير القدرة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، يبدو ان إسرائيل سوف لن تتمكن سوى من سفح المزيد من الدم الفلسطيني في حربها الحالية على غزة بدون رد الاعتبار لقوة ردعها العسكرية التي مرّغته في الوحل ضربة طوفان الأقصى الستراتيجية. وهذا يعني انه سيكون من الصعب على الولايات المتحدة اقناع دول الخليج بأن السبيل لحماية مصالحها هو التحالف العسكري مع إسرائيل كرأس حربة لردع التهديد الإيراني في المنطقة، خاصة وان القضية الفلسطينية الان قد استعادت بعض من مركزيتها الاقليمية، فيما فقدت أمريكا مصداقيتها للعب دور الوسيط والضامن للسلم والاستقرار في المنطقة مقابل قوى عالمية أخرى مثل الصين أو روسيا.

في المقابل، يبدو بان السعودية ستبتعد عن أي خطوات محتملة نحو التطبيع مع إسرائيل أو تعزيز التعاون الجيوسترتيجي الدفاعي معها في المستقبل المنظور، أولا لأنها بدأت تشكك بقدرة النظام العسكري الإقليمي الأمريكي-الإسرائيلي على ردع ايران ومحور المقاومة، وثانيا لأن حوافز التهدئة المباشرة بين السعودية وايران توفر مردودات أكبر ويقين أكثر من حوافز الردع العسكري في الوقت الحاضر. وما يعزز هذا الاعتقاد هو الاتصال الهاتفي الأخير بين ولي العهد محمد بن سلمان والرئيس الإيراني رئيسي مع اللقاءات المتعددة بين وزراء خارجية البلدين، بالإضافة الى تأكيدات ايران استعدادها للتحاور مع السعودية لمعالجة الخلافات بينهم، ومبادرتها لتأسيس قوة بحرية مشتركة مع دول الخليج تحت رعاية الصين لبناء نظام أمني إقليمي بعيد عن النفوذ الأمريكي.

ان هذه التداعيات الإقليمية المحتملة يمكن ان تمثل فرصة وتحدي في نفس الوقت للعراق ولقواه الوطنية التي تسعى الى بناء دولة السيادة والمواطنة والعدالة الاجتماعية. الفرصة، هي في التحول الجيوستراتيجي الذي سيكون فيه المعسكر الأمريكي-الإسرائيلي فاقدا للمبادرة وفي حالة انحسار للنفوذ في المنطقة وهي حالة لم نشهدها منذ ستينات القرن الماضي حيث يمكن اعتبار ان معظم المشاكل المستعصية في العراق والمنطقة هي نتاج سياسات أمريكا والغرب واصرارهم على الهيمنة على الشرق الأوسط من خلال اذكاء التصادم بين دولها بينما يتم دعم إسرائيل لتبقى اليد الطولى للدفاع عن مصالحهم فيها.

اذن، يمكن لنتائج معركة طوفان الأقصى ان تمثل بوادر لفرصة حقيقية للتقارب بين الدول الإقليمية "المشرقية" وتهدئة الصراعات الجانبية بينهم من أجل الدفع بالمصالح المشتركة والتي يمكن ان تتضمن – بالإضافة الى التعاون الاقتصادي - التعاون الجيوستراتيجي. وعلى الرغم من ان أفق هذا التعاون الجيوستراتيجي لا تزال غير واضحة المعالم، الا ان هذا بالتأكيد سينعكس إيجابيا على الوضع في العراق باعتباره أحد ساحات الصراع الإقليمية، ولكونه يمكن ان يكون الجسر الثقافي والجغرافي للتكامل الإقليمي.

أما التحدي، فهو في كيفية استثمار هذه الفرصة التاريخية من قبل القوى الوطنية العراقية في بلورة مشروع سياسي وطني عابر للأيديولوجيا يعكس هذه التطورات الستراتيجية الإقليمية ويحمل معنى جديد ومتطور لمفاهيم الاستقلال والسيادة والبناء الاقتصادي يمايز فيها بين تدخل القوى الخارجية التي تعمل لصالح المشروع الجيوستراتيجي المشرقي، عن تلك التي تعرقله لمصلحة التحالف الأمريكي-الإسرائيلي. وهذا يستدعي رؤية سياسية واضحة خارج السياقات التقليدية المعروفة للانقسامات السياسية: "المدنية" أو "الليبرالية" أو "الإسلامية". فمثلا، يمكن ان يكون قسم من التيار المدني لا يتعاطفون مع حماس باعتبارها حركة إسلامية، أو يعملون على الضد من مصالح محور المقاومة إقليميا على اعتبار الدور السلبي لإيران في الشأن العراقي. بينما المطلوب هو الموقف الواضح بين رفض التدخلات الإيرانية في العراق والتي تقوض من سيادة الدولة العراقية وتضعف السلطة الحكومية، وما بين مساندة الموقف الإيراني في دعم جبهات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وموقفها الإقليمي في تأسيس منظومة جديدة للتعاون والتكامل مع دول المنطقة خارجة عن النفوذ الأمريكي-الإسرائيلي.

أما بالنسبة الى الموقف من النفوذ الأمريكي في العراق، فهذا يتطلب رؤية وطنية متكاملة وبرنامج لاستعادة السيادة الوطنية بعيدا عن الاسفاف والنفاق السياسي حول جلاء القوات الأمريكية من العراق، لأن العراق الان مرهون سياسيا واقتصاديا وعسكريا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة الى تدخلات الدول المجاورة بسبب ضعف الحكومة في ممارسة سيادتها الداخلية.

وهذا أيضا يتطلب موقف واضح من أجل حماية الحقوق المدنية للعراقيين وللمعالجة الكفوءة لآفات الفساد والسلاح المنفلت والتعدي على القوانين التي تنخر بالدولة العراقية، والتي بدون تحقيقها لا يمكن النهوض بالواقع العراقي بغض النظر عن الواقع الجيوستراتيجي للمنطقة. خاصة وان بعض القوى المسلحة والمتسلطة قد تلجأ الى تكميم الافواه والقمع بحجة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وتخوين أي أصوات لا تتفق مع رؤيتها السياسية أو سياساتها المصلحية.

وفيما يتحضر المشهد السياسي في العراق لإستحقاق انتخابات مجالس المحافظات، المطلوب الان من التحالفات السياسية الوطنية – مثل تحالف قيم المدني – ان توّسع من افقها السياسي وتعمل على تنضيج برنامجها الوطني لتضمين التحولات الجيوستراتيجية في المنطقة بما يخدم مصلحة العراق وشعبه، خاصة فيما يتعلق بنبذ النزعة الوطنية الضيقة المعادية لدول الجوار وتبني النزعة الوطنية المتآلفة والمتكاملة مع الجوار العربي والإيراني والتركي والمتآخية مع شعوب المنطقة المتعددة. ان شعار "ايران برة برة" هو ليس ضد العدو الفارسي المجوسي كما كان يدعوه النظام البائد، بل هو ضد جارة تجاوزت حقوقها وأضرت بالعراقيين وحان الوقت لعودتها الى صوابها وتحسين العلاقة على أساس الجيرة المتكافلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جبهة اية الله ..عن اي تحالف مشرقي تتكلم ياستاذ
د. لبيب سلطان ( 2023 / 10 / 26 - 07:32 )
سيدي الكاتب
حان الوقت لكشف دجل وتجارة ومهاترات ماتسمونه محورالمقاومة وميليشيات فاسدة حرامية في العراق وسوريا ولبنان ودعوتكم لتوسيعه الى الصين وبوتين باسم مجابهة التحالف الاسرائيلي الاميركي .اين سيصل هذا المركب ؟ وما اهدافه ..تحرير فلسطين ؟ قبله شهدنا مركب تحالف قومي تقدمي عربي سوفياتي ادعا مجابهة نفس هذا المحور ..اين وصل..مزيد ا من التراجعات والاحتلال وقمع الديكتاتوريات والتخلف والمتاجرة بالقضية على مدى نصف قرن من ناصر الى صدام، واليوم تريدونه مع اية الله وميليشياته السلفية..لم تكن غير هذه المراكب هي من دمرت شعوبنا والقضية الفلسطينية
و نصائحكم لقائمة قيم والقوى المدنية مضحك تريدهم الاصطفاف مع الميليشيات الايرانية كما وردت في مقالتكم ـان توّسع من افقها السياسي وتعمل على تنضيج برنامجها الوطني لتضمين التحولات الجيوستراتيجية في المنطقة بما يخدم مصلحة العراق وشعبه، خاصة فيما يتعلق بنبذ النزعة الوطنية الضيقة المعادية لدول الجوار وتبني النزعة الوطنية المتآلفة والمتكاملة مع الجوار العربي والإيراني والتركي المتآخية ـ الصحيح هو:يامدنية عربية حاربو السلفية في بلداننا لمجابهة الصهيونية

اخر الافلام

.. مراسل فرانس24 يرصد لنا حالة الترقب في طهران تحسبا لهجوم إسرا


.. غارات إسرائيلية -عنيفة جدا- تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت




.. هل يؤثر مقتل هاشم صفي الدين على معنويات مقاتلي حزب الله في ج


.. انفجارات متتالية تهز ضاحية بيروت الجنوبية جراء القصف الإسرائ




.. غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات في غزة تسفر عن شهداء وجرحى