الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنانية في المجتمع والدولة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 9 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الإنسان أناني بطبعه، حُبه لنفسه وأطفاله وزوجه وأقربائه وأصدقائه ومعارفه الأقربين أكثر من حبه لأي أشخاص آخرين، لاسيما هؤلاء الذين لا تجمعه بهم صلة قُربى أو معيشة أو معرفة سابقة. الأنانية غريزة طبيعية ضرورية من أجل بقاء النوع البشري، الذي يشترك فيها بنفس الدرجة مع سائر الأنواع الحية الأخرى دون استثناء. من دون هذه الغريزة ما نشأت الحياة وما عَمَرها البشر وما حافظوا على بقائهم فيها إلى اليوم. ولأنها طبيعية، فهي موجودة في كل الكائنات الحية وفي البشر أجمعين من دون أي استثناء على الإطلاق. لم ولا ولن يوجد بشر على الإطلاق يخلو من الأنانية، حتى لو كانوا قديسين وأنبياء! ولما كان الإنسان بطبعه أنانياً بهذا الشكل، يَخُصُ نفسه وذويه بما يَضِنُ به على من سواهم، كان لزاماً أن يجد صعوبة بالغة في التأقلم لدى انتقاله من نمط العيش البدائي الضيق والمنعزل وسط أفراد أسرته وعائلته وعشيرته وقبيلته الصغيرة والكبيرة عبر الصحاري والأدغال والبراري إلى رحابة مجتمع المدينة حيث تضيع ويصعب تتبع والمحافظة على مثل هذه العلاقات الإنسانية الحميمة والمباشرة ذات الأصول البيولوجية المعلومة. إذا كان المرء يعيش دافئاً ومحمياً وسط أهله وعشيرته وقبيلته في حياته الأولى، هو في المدينة يحيا غريباً، مُحاطاً لا محالة بالأغراب من كل مكان؛ وإذا كان بفطرته أنانياً، هم جميعاً كذلك أنانيون بالفطرة؛ وإذا ما انساق كل فرد، في الحياة المدنية الجديدة، لوازع غريزته الأنانية، ستقودهم أنواتهم تلك بالضرورة إلى تنافس وصراع قد يُحول حياتهم المشتركة معاً إلى جحيم لا يُطاق، الذي قد يُنهيها في نهاية المطاف ويُعيدهم إلى حيث بداوتهم الأولى. لذلك كان لا بُدّ، في حياة المدينة والحضر، من استحداث ضابط مُكافئ يُنظم الغرائز الأنانية لم تكن له حاجة من قبل في حياة البداوة.

يتألف المجتمع من مجموع كل أفراده دون استثناء، لأن المُستثنى منهم يصبح منبوذاً، مطروداً، منفياً، ولا يعد يُشاركهم بعد عيشتهم المشتركة. في هذا التجمع الكبير المؤلف من أفراد، لكل فرد أناته الخاصة التي لو تُرك لها العمل إلى منتهاها ستتعدى بالضرورة على أنوات الآخرين وسينشأ تنافس وصراع يهدد حياة الجماعة المشتركة. بعكس الحياة الانفرادية المنعزلة، تحتاج الحياة الاجتماعية إلى تضافر الجهود والتعاون فيما بين الأفراد. ولكي يتحقق هذا التعاون فيما بين أفراد أنانيون بطبيعتهم، لابد من مُكافئ يعوضهم عن التنازل عن بعض من أنانيتهم الذاتية. إذا كانت الأنانية تضمن للفرد بقاءً ورفاهيةً لنفسه وذويه، ماذا لو كان ثَمَّة شيء آخر قادر على أن يضمن له ولذويه أيضاً بقاءً ورفاهيةً أكبر وأفضل؟ التعاون. التعاون والجهد المشترك فيما بين أفراد أنانيون بطبعهم يضمن لكل واحد منهم ولذويه أمناً ورفاهيةً أكبر كثيراً مما يستطيع أن يُنجزه بمفرده عبر أنانيته الوحيدة. معنى ذلك أن الفرد الأناني حين يتعاون مع أفراد أنانيين مثله لا ينتقص من أغراضه ومصالحه الأنانية، بل يُعززها ويزيدها أكثر. كل فرد يحيا في جماعة يعرف بخبرته المعيشية اليومية دون حاجة لتعليم أن معيشته وسط جماعة تكون أكثر أمناً ورفاهية من معيشته منفرداً، وكلما زاد حجم الجماعة كلما كانت الحياة وسطها أفضل. هو درس قديم قدم الإنسانية ذاتها يحمله كلٌ منا في مورثاته الحضارية ويجعل الكثيرين إلى اليوم يختارون مغادرة أماكن ولادتهم ونشأتهم الأولى في القرى ووسط القبائل إلى رحاب مدن ضخمة زاخرة بالبشر وسعة العيش مثل القاهرة وبغداد والرياض...الخ.

لكن أنانيتي هي بمثابة سلاحي البيولوجي الذي به أحمي وأضمن العيش لنفسي وأحبائي. ماذا يضمن لي أنني بعدما أُسلم سلاحي الفطري هذا، حتى أستطيع التعاون مع الآخرين، ألا يكون هناك لا يزال البعض منهم قد رفضوا تسليم أسلحتهم واحتفظوا بغرائزهم الأنانية وبالتالي لن أَسلم بالضرورة من عدوان أنانيتهم؟! لكي يقبل الفرد بالتنازل طواعيةً عن أنانيته الفردية وسط المعيشة الجماعية يجب أن يصل أولاً إلى قناعة مُرضية أن جميع الأفراد مثله، أو على الأقل غالبيتهم العظمى، سيفعلون مثله، وبالتزامن. لكن حتى لو قلبت الغالبية العظمى من الأفراد بالتنازل طواعيةً عن أنواتها الفردية لكي تجني ثمار العيش المجتمعي، ماذا عن الأقلية التي تأبى وتُصر على اقتفاء شهواتها ومصالحها الأنانية على حساب الصالح العام؟ هنا تنشأ الحاجة إلى شيء آخر لا يزال أبعد من المجتمع- دولة- وظيفته الأساسية من شقين: (1) ضمان المساواة، أو على الأقل أقصى قدر ممكن منها، بين أنوات كل أفراد المجتمع بحيث لا تجور أناة واحد منهم، أو بعضهم، على آخر، أو آخرين؛ (2) الفصل والتحكيم في دعاوى عدوان أناة شخص، أو مجموعة، على أناة شخص آخر، أو مجموعة أشخاص آخرين ومعاقبة المعتدي، وجبر وتعويض المعتدى عليه.

هكذا نكون قد وصلنا، أخيراً، إلى الدولة. إذا كان المجتمع يتألف من مجموع أفراده بالكامل دون استثناء، من أين، إذن، تأتي الدولة بكيانها؟ من هم الأفراد الشاغلون للمناصب المكونة لها؟ في الحقيقة، الدولة لا تملك كياناً أو وجوداً مستقلاً عن المجتمع، ولا يمكن أن ينشأ لها وجود إلا من نفس أفراد هذا المجتمع لكن في أدوار أخرى غير- وبالتوازي مع- أدوارهم المجتمعية. معنى ذلك أن نفس هؤلاء الأفراد الذين أصبحوا يُشكلون الآن ’دولة‘ هم أنفسهم الأفراد الأنانيون الذين يتألف منهم كل المجتمع. عندئذٍ يُطرح السؤال: ماذا لو فشل هؤلاء الأفراد في دورهم الرسمي الجديد كمسؤولي دولة في تحقيق تكليفي الدولة الأساسيين (المساواة والتحكيم بين الأنوات المتنازعة) أو، وهو الأكثر احتمالاً ووبالاً، أغرتهم قوتهم المكتسبة بفضل مناصبهم الرسمية كمتحدثين وفاعلين باسم الدولة التي تنوب عن المجتمع بأسره لكي يُطلقوا العنان لشهواتهم وغرائزهم الأنانية الفطرية التي ستحابي بالضرورة، بعد أنفسهم، ذويهم وأقربائهم وأصدقائهم ومحاسيبهم ورفقاء دربهم وسلاحهم والمؤيدين والداعمين والمنافقين لهم...الخ على حساب فئة أو شريحة أو طبقة معينة أو أكثر لا تروق لهم لسبب أو لآخر، وبالتالي يغذون ويسمنون أنواتهم ومصالحهم الخاصة على حساب آخرين أو المصلحة العامة للمجتمع إجمالاً؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شوارب الدروز أسرار ورموز • فرانس 24 / #الدروز


.. ما دلالة تحريم شرب القهوة في أعراف العشائر السورية؟




.. إيران تعيد تسليح ميليشياتها.. وأميركا تستعد للعودة إلى الحرب


.. إمام عراقي سابق يحذر: الرجل العربي يعيش ازدواجية خطيرة | #ال




.. حصريا من قاعدة العديد القطرية: القصة الكاملة للتصدي لصواريخ