الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 9 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


قد تكون الأصوات مرتفعة، الكلمات براقة والنظريات مُصْقَلة. كل هذا لا يَهم. المُهم، من قبل ومن بعد أي شيء آخر، هي الأفعال، هذه التي تُطابق الواقع وتُسَيِّره وتؤثر فيه. سواء كانت النظرية رأسمالية أو شيوعية، لا يَهم، طالما كانت نتائج الأفعال على الأرض محسوسة وتُحْدث أثرها. الدولة كانت شيوعية، خلعتها وتَبنت الرأسمالية، أو حتى كانت رأسمالية ثم جَنحت إلى الشيوعية، لا يَهم إطلاقاً. لا الشيوعية ولا الرأسمالية غايات بحد ذاتهما، هما مجرد وسائل لبلوغ وخدمة غايات إنسانية عُليا تُقرها وتعمل تحت غطائها كلٌ منهما. على هذا الأساس يمكن اختبار الاثنتين، أو أي نظرية أو أيديولوجية أخرى مهما كانت تَضعها أو تعمل تحت غطائها أي مجموعة من البشر. هل حققت الشيوعية عدالة ومساواة بين البشر كما وعدت؟ إلى أي حد، وبكم ثمن؟ هل نجحت الرأسمالية؟ على سبيل المثال، حين اعتنقت روسيا عقيدة الاقتصاد المركزي المُخطط المملوك للدولة، ثم الآن حين ارتضت العمل وفق آليات اقتصاد السوق الحُر، هل حدث فرق؟ هل من تغير جوهري في حقيقة الواقع الروسي يُكافئ هذا الانقلاب الجوهري في الأيديولوجيا؟

الأيديولوجيات يصنعها الرجال، لكن الأمم تحياها، كلٍ على طريقتها ووفقاً لظروفها وطبيعتها وشخصيتها الخاصة. هؤلاء الرجال لا يهبطون من الفضاء، بل ينضجون من وفي تربة أممهم ذاتها. والمعلوم أن البيئة الفكرية القيصرية لم تُنتج أي نظريات حداثية تُذكر، لا شيوعية ولا رأسمالية ولا ديمقراطية ولا ليبرالية ولا علمانية ولا أي شيء حداثي آخر؛ وأن حُلم التمتع بالأملاك بالمشاع العادل والمتساوي فيما بين الكافة قديم قدم البشرية ذاتها، حتى تبلور إلى رؤية واضحة المعالم في اليوتوبيا الأفلاطونية الحالمة، ليبلغ طور النظرية الحداثية المُصقلة على يد كارل ماركس، لكن في ألمانيا وليس في روسيا. مع ذلك، كان مقدراً لهذه الفكرة الإنسانية الأزلية أن تبدأ حياتها الفعلية فوق أراضي الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف، أو ما أصبح يُسمى ’الاتحاد السوفيتي‘. في الماضي كما في الحاضر، كانت روسيا ولا تزال بلدٌ تقليدي لا يفهم، ولا يَقدر على إنتاج، أي من مفاهيم أو نظريات الحداثة. هذه هي الحقيقة. لذلك، عندما استُزرعت نظرية حداثية- الشيوعية- عُنوةً في تربة روسية تقليدية، كانت العواقب وخيمة بالتأكيد. عندئذٍ لا عادت الشيوعية شيوعية، ولا بقيت روسيا تقليدية كما كانت من قبل. أدى الاندماج بين عُنصرين متنافرين إلى إنتاج غول ذّرْي ذو قدرة تدميرية جَبَّارة، نالت من قُدرات ومُقدرات حاضنتها الوطنية أكثر مما طالت أي أمة أخرى.

عندما يُهيمن اقتصاد الزراعة أو استخراج المواد الأولية على مكان، يترك ذلك بالضرورة بصمته المؤكدة على شخصية وذهنية القاطنين فيه. مثل هذه الأنشطة تُقوي العضلات على حساب الذهن، التقليد على حساب الابتكار، الريع على حساب الإنتاج وتُرسخ بين الأفراد والمجموعات علاقات السلطة والولاء على حساب النِدّية والمنافسة. في المقابل، الوضع مختلف كثيراً في كنف التصنيع والتجارة، حيث يَدُب في أوصال المجتمع حراكٌ يخلق بينهم منافسة تحفزهم على الابتكار، حرية تُعاند الانسياق الأعمى وراء التقاليد، وإنتاجية تُقزَّم بجوارها مداخيل الريع. لا جدال في أن روسيا كانت عبر التاريخ ولا تزال إلى اليوم قوة جبارة، لكنها كانت ولا تزال تقليدية تُعْلي من قيمة المجهود العضلي على العقلي، التقاليد الموروثة على الابتكار، الامتثال للأوامر على المنافسة. النتيجة، بقيت الدولة الروسية- في أفكارها وأفعالها معاً- قوة ضخمة لكن راكدة، تُعادي الحراك المجتمعي والتنافس العادل بين الأفراد والمجموعات، وتُقيد الحريات العامة والخاصة ذاتها التي قد تأسست من فوقها قيم الحداثة. روسيا حتى اليوم لا تستسيغ سوى مذاق القوة والتقاليد، ولا تُنتج غيرهما. حين يوضع مجتمع تحت قبضة قوة لا ترحم وتقاليد عفي عليها الزمن، لا تنتظر منه أبدأ أن يُنتج أي حداثة من أي نوع. روسيا كانت ولا تزال قوة تقليدية.

حين يفتقر المرء إلى القدرة على إنتاج شيء ينقصه، يستطيع بسهولة أن يشتريه طالما كان معروضاً في الأسواق. بعدما يصبح بين يديك وتحت تصرفك، يمكنك استخدامه حسب رغباتك ولخدمة أهدافك الخاصة وليس بالضرورة للأغراض الحقيقية التي أُنتج من أجلها. مثلما يمكنك اقتناء سكيناً ليس لأغراض الطهي وتناول الطعام لكن لتنفيذ جريمة قتل بشعة أو افتعال مشاجرة بالأسلحة البيضاء على الملأ وفي وضح النهار، يمكنك أيضاً تبني ديمقراطية ليس لأغراض تمكين الأفراد والمجموعات من حقوقهم الأساسية وتحقيق التداول السلمي للسلطة لكن لكي تُخفي تحت غطائها الحداثي بشاعة التسلط والاستبداد والانتهاكات لحقوق الإنسان؛ ويمكنك بالمثل أن تستورد شيوعية، ليس كما تدعي لكي تُقيم ميزان العدل والمساواة في توزيع الدخل بين المواطنين لكن كستار تستحوذ من ورائه باسم الدولة على ثرواتها ومقدراتها ثم تضعها تحت تصرف زُمرة من الرفقاء والأخوة والكوادر بعيداً عن أعين ومحاسبة جماهير الشعب. الأكثر لا يزال، يمكنك أن تشتري رأسمالية ليس لكي تُهيئ وتساوي ملعب النشاط الاقتصادي أمام المنافسة العادلة والفرص المتكافئة لكن من أجل تصفية وخصخصة وبيع أصول وموارد وأراضي الدولة وقطاعها العام في مناقصات فاسدة وبأسعار بخسة لفائدة الأقارب والمحاسيب والموالاة المقربين من النظام لكي تصنع منهم نُخبة أوليغارشية يمكنك التعويل عليها وقت الحاجة والشدة. واللافت أن الأوليغارشية الحالية هي ذاتها امتداد ووريث الأرستقراطية والاقطاعية والشيوعية الروسية في الماضي، من صنيعة القيصر أو الحزب الشيوعي أو الرئيس المنتخب، ولخدمتهم.

من قديم الزمان، أكثر ما يُخيف روسيا هو التغيير. في الوقت الراهن، لا تخاف روسيا من الجنود الأوكرانيين ولا من الأسلحة الغربية بقدر ما تخاف من التغيير الحداثي الداهم على حدودها الغربية. هذا التغيير الحقيقي المُتسلل إلى جارتها وشقيقتها الصغرى أوكرانيا إذا ما وطد مؤسساته هناك سيمتد حتماً وينسف من الجذور أسطورة يُقدسها ويُرددها الروس أباً عن جدٍ- مَجْد القوة وعراقة التقاليد. لا الشيوعية أو الرأسمالية أو الديمقراطية أو العلمانية أو حقوق الإنسان أو أي من هذا الهُراء الغربي يَعنيهم في شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقاله علميه هادئه للتعريف بروسيافي ال120سنه الاخير
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2024 / 9 / 27 - 05:47 )
في ال120 سنه الاخيره من العهد القيصري والسوفيتي المقبورين الى عهد شرطي المخابرات -مجرم الحرب بوتين حاليا-كلمن يريد ان يعرف حقيقة روسيا بائسة الحظ وشعبها المنكود وزعمائها الاشرسين فليقراء عالاقل هذا المقال كمدخل للمعرفه الحقيقيه بروسيا -شكرا للاخ الكاتب على جهده الثمين-تحياتي


2 - روسيا لاتستطيع تصور نفسها غير امبراطورية
د. لبيب سلطان ( 2024 / 9 / 27 - 09:34 )
تحية للاخ العزيزعبد المجيد
هذه المقالة حول روسيا والتي قبلها تحليل سيطرة الدولة على الاقتصاد كلاهما ينطبق على روسيا وعلى العالم العربي بان واحد
روسيا بلد امبراطوري منذ 300 عام ولم تفترق عن هذا التوجه لا زمن القيصر ولا زمن الاتحاد السوفياتي ولا زمن بوتين ..وسواء كانت اقطاعية او شيوعية او رأسمالية تجد ان توجهات الدولة واحد ..القمع والسيطرة داخليا والتوسع خارجيا..في روسيا يغيب مفهوم الدولة الديمقراطية، يختفي في العقل السياسي كما في الجمعي الشعبي العام لغياب طرحه وممارسته بتسلط انظمته بالقمع على الشعب باسم مصالح الامة والدفاع عن الامبراطورية الروسية
في العالم العربي نفس الموجة والتوجه عند النظم القومية لتقيم الوحدة العربية وانتهت الى الموجة الاسلاموية باقامة الخلافة الامبراطورية
لعل اهم اركان اي مشروع امبراطوري قمعي هو وضع الاقتصاد تحت ادارة الدولة كي تبسط هيمنتها على شعوبها من خلال السيطرة على مصدر معيشته ومنه لتقام الديكتاتوريات ولتكن مسمياتها قيصرية اقطاعية او ماركسية او رأسمالية تحولت لفاشية فجميعها واحدة في روسيا هدفها جعل الشعب يركع امام حاكم امبراطوري يعيد مجد الامة
شكرا لك

اخر الافلام

.. أميركا تواصل دعمها للشرع وتطالب إسرائيل بوقف تدخلاتها في سور


.. اشتباكات عنيفة بين فصائل عشائرية ومسلحين دروز قرب مدخل مدينة




.. نشرة إيجاز - الجزيرة تحصل على كلمة مصورة لأبو عبيدة


.. أبو عبيدة: الاحتلال ما كان ليرتكب الإبادة في غزة لولا صمت قا




.. الأسبوع وما بعد | شحنة صواريخ أميركية تبدأ طريقها الناري نحو