الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إلى تلك التي لم ألتقِها بعد
علي دريوسي
2024 / 12 / 25الادب والفن

في ليلة هادئة تحت سماء مُزينة بالنجوم، كان يجلس على مقعد خشبي في الحديقة، مُمسكًا بدفتر صغير يملأه بالحروف. كان يكتب لها، تلك التي لم يعرف ملامحها بعد، ولم يسمع صوتها ولا حتى لمس ظلّها. ومع ذلك، كانت تسكن قلبه كأنها واقعٌ مُتحقق، جزءٌ من حياته غير المكتملة.
كتب:
"لا أعرف أين أنتِ الآن. ربما تبتسمين وأنتِ تتحدثين مع صديقتك المفضّلة، أو ربما تحدقين في كتاب ما بشغف، أو حتى تنامين مطمئنة بعد يوم طويل. كل ما أعرفه هو أنني أُحبكِ... أُحبكِ دون أن ألقاكِ، وأشتاقكِ رغم الغياب."
رفع عينيه إلى السماء وابتسم. كان يؤمن أنها موجودة في مكان ما، وأن القدر يُخبئ لحظة اللقاء. لطالما أحبّ فكرة أن بعض الأرواح قد تُولد وهي مُقدّرة أن تلتقي، مهما باعدت بينها الأزمنة أو المسافات. في ذهنه، كانت حبيبته فتاة تحمل شيئًا من هدوء الليل وشيئًا من نور القمر. لم يهتم بجمالها الخارجي بقدر ما كان ينتظر من يُشبه روحه، من يُشبه أحلامه.
وفي كل مرة ينتهي من رسالة يكتبها لها، كان يطويها بحذر ويضعها في صندوقه الخشبي القديم. صندوق يحتوي على رسائل لم تُقرأ، وحروف ستُهدى إليها يومًا ما. ربما ستضحك حين تقرأها، أو ربما ستُدهش من رجل أحبّها قبل أن يعرفها، لكنه واثق أن لحظة اللقاء ستكون شبيهة بالمعجزة.
كان يهمس دائمًا:
"إن كنتِ تشعرين مثلي يا غريبة، فإننا سنلتقي. ربما غدًا... أو بعد ألف غد، لكنني سأجدكِ."
وفي تلك الليلة، نام على مقعده الخشبي وهو يبتسم، يُردّد اسمها الذي لم يُحدّده بعد، مؤمنًا بأن الحب أحيانًا يسبق اللقاء.
مرت الأيام والشهور، وصارت الحياة تمضي كعادتها بين رتابة العمل وصخب المدينة. لكن شيئًا ما بداخله لم يتغير، ظل يحمل تلك الرسائل في قلبه وداخل صندوقه الخشبي. كل رسالة كان يكتبها كان يشعل فيها بصيصًا من الأمل، أملًا بلقاء لا يعرف متى وكيف سيأتي.
وفي صباح يوم خريفي، كان يتجول في معرض للكتب يقام في وسط المدينة. لم يكن المكان صاخبًا، لكنه امتلأ برائحة الورق القديمة والكتب المتراصة، كأنها عوالم تتحدث همسًا. توقف عند أحد الأرفف ليُقلب كتابًا صغيرًا، وفجأة سمع صوتًا ناعمًا من خلفه يسأل البائع:
– "هل هذا الكتاب متوفر بنسخة جديدة؟"
لم يهتم في البداية، لكنه التفت بعفوية، فرأى عينيها لأول مرة. عيون تشبه تلك الليالي التي كان يحلم بها، وابتسامة هادئة بدت مألوفة كأنها خرجت من بين رسائله. شعر للحظة أن الزمن توقف، وأن كل الكلمات التي كتبها لها كانت تتحقق الآن.
كانت هي. لم يكن يعرف اسمها بعد، لكنه عرف أنها هي. تلك التي انتظرها طويلًا. تلعثم قليلًا لكنه ابتسم وقال:
– "عذرًا... هذا الكتاب؟ أعتقد أنه آخر نسخة هنا، لكن... يمكنكِ أخذه."
ضحكت بهدوء وقالت:
– "شكرًا، لكنني لستُ من يحبّ التنازل بسهولة."
ابتسم هو الآخر، وترددت داخله آلاف الأفكار، لكنها في تلك اللحظة بدت بسيطة. عرض عليها أن يشربا كوبًا من القهوة في المقهى المجاور، وتحت دهشته، وافقت.
جلسا يتحدثان كأنهما يعرفان بعضهما منذ سنوات، عن الكتب، عن الحياة، وعن أحلام صغيرة خبأها كل منهما في داخله. ومع كل كلمة قالتها، كان يشعر أنه وجد الجزء المفقود من روحه.
قبل أن ينصرفا، نظر إليها وقال بصوت دافئ:
– "هل تصدقين أنني كنت أكتب لكِ رسائل منذ سنوات؟"
ضحكت مجددًا وقالت مازحة:
– "وهل كنت تعرف أنني سأكون هنا؟"
أخرج من حقيبته ورقة قديمة كان يكتب فيها ذات ليلة، وأعطاها لها. قرأت الكلمات بصمت، ثم رفعت عينيها إليه وابتسمت.
في تلك اللحظة فقط، عرف أنه لم يكن مجرد حلم، بل وعد قديم حققه القدر.
مرت الأيام بعد لقائهما الأول كأنها حكاية خرجت من صفحات كتاب قديم.
التقيا مرارًا في نفس المقهى الذي بدأ كل شيء فيه، كانا يتحدثان عن أحلامهما، عن الحياة، وعن تلك الصدف الصغيرة التي جعلت لقاءهما ممكنًا.
شيئًا فشيئًا، صار حضورها جزءًا ثابتًا من يومه. ابتسامتها صارت تملأ فراغات صمته، وصوتها صار الموسيقى التي تُرافقه في كل خطوة. كان يخبرها عن الرسائل التي كتبها طوال السنوات الماضية، بينما كانت هي تقرأ كل واحدة منها وكأنها كنزٌ ثمين وجدته أخيرًا.
وفي مساء ربيعي دافئ، جلسا تحت شجرة قديمة على تلة تطل على المدينة. كانت السماء مُتوهجة بلون الشفق، والرياح تداعب الأوراق في همس. أخرج صندوقه الخشبي الذي حمل فيه رسائله القديمة، فتحه ببطء ونظر إليها قائلاً:
– "هذه كل رسائلي إليكِ. كتبتها قبل أن أعرفكِ، لكنني كنت واثقًا أنني سألتقيكِ يومًا ما."
ابتسمت وهي تتصفح الأوراق، ثم رفعت عينيها نحوه وقالت:
– "كنت تبحث عني دون أن تعرفني، وأنا كنت أبحث عن شيء يشبه هذه اللحظة، دون أن أدري أنك تكتب لي."
مدّ يده نحوها، أمسك بيدها برفق وقال بصوت اختلطت فيه مشاعر الحلم واليقين:
– "هل تقبلين أن تكتبي معي بقية القصة؟"
هزّت رأسها موافقة والدموع تلمع في عينيها، وهي تهمس:
– "أنت كتبت البداية... أما النهاية، فلنكتبها معًا."
وبينما كانت الشمس تغيب خلف الأفق، جلسا معًا، يملآن السماء أحاديث وابتسامات، يتركان للقدر أن يُكمل ما بدأه. لم تكن قصتهما قصة حب عادية، بل كانت حكاية عن الإيمان بالأحلام، وعن لقاء الأرواح التي كانت تبحث عن بعضها البعض.
ولسنواتٍ طويلة بعد ذلك، ظل الناس يرونهما معًا على ذات التلة، يتأملان السماء التي جمعتهما، يحكيان للصمت حكاية حب بدأت بالرسائل وانتهت بوعد أبدي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. شو الشرط يلي وضعه الممثل طوني أبو جودة ليرجع يقدّم برنامج مع

.. عماد الدين أديب: الحرب بين إسرائيل وإيران كانت عرضا سينمائيا

.. -عندن روح الله وأوادم-... #مي_متى تشيد بالفنانين: -أهم من ال

.. مراسل العربية: رغم وجود خرقين إيرانيين بحسب الرواية الإسرائي

.. انتظروا حلقة خاصة مع صناع ونجوم فيلم في عز الضهر في برنامج #
