الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصوفي المطمئن عبدالهادي بلخياط

كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

(Karam Nama)

2025 / 1 / 2
الادب والفن


عندما وقفت للمرة الأولى أمام الموسيقار الليبي حسن عريبي، كنت مشبعا بلحنه لقصيدة “المنفرجة” لابن النحوي التوزري التونسي، وكنت أتساءل مع نفسي عن أي نوع من الإجحاف ألا يصل ذلك اللحن إلى العراق!
وعندما قدمني صديقي عمر السنوسي له بطريقة “هذا كرم من بلاد المقامات العراقية” قال الموسيقار عريبي “مقاماتكم هي مقاماتنا نفسها” فقلت له لكن الفنان محمد القبانجي أضاف لها في مقامي “اللامي والمخالف” ما يجعلها ماركة عراقية مسجلة باسمه، قال: رحم الله صديقي أبوالقاسم “كان يقصد القبانجي” فهو أعاد تقسيم تسلسل المقامين بطريقة مختلفة ولم يبتكرهما لأنهما كانا موجودين بالأساس.
لم يكن من الكياسة أن أرد على قامة موسيقية فارعة كحسن عريبي وهو رئيس المجمع العربي للموسيقى آنذاك، ولم يكن من الحصافة أيضا أن يكون اللقاء الأول به وسيلة لإدخاله في “شراك لعبتي الصحافية”!
ومن سوء حظي الصحافي أنني حاورت العشرات من كبار فناني وأدباء ليبيا في كتابي المخطوط “حوارات على ضفاف المتوسط” ولم يكن الموسيقار حسن عريبي الذي لم يشعر بالخوف على الموسيقى العربية من التسطيح، بينهم.
بعد عشرين عاما سألت في المغرب عن الفنان عبدالهادي بلخياط، وأنا أستعيد سحر أدائه لقصيدة “المنفرجة” أو كما تسمى “اشتدي أزمة تنفرجي” علني أجد شيئا مما عاشه من شغف إنشادي وهو يؤدي تلك القصيدة.
قال لي أحد الأصدقاء المغاربة “يصعب أن تلتقي بلخياط فهو زهد بالدنيا ووجد اطمئنانه في تصوفه ورفع الأذان في مسجد قريب من منزله.”
لماذا أعود لإنشاد “المنفرجة” وعبدالهادي بلخياط؟ لأن هذا الفنان المغربي وهو يقترب من عامه التسعين عاش الغناء الروحي في أوجه، بل إنه ارتقى إلى مرحلة متقدمة من الانتشاء وبآماد بعيدة، حتى اكتشف القيمة المثلى في العزلة عن العالم.
ربما يحب الجمهور المغاربي والعربي على حد سواء بلخياط في أغنيته الشهيرة “يا بنت الناس” التي كتبها علي الحداني ولحنها عبدالقادر وهبي بطريقة جعل منها لازمة للحب الخالي من الأنانية والغرور، أو أدائه الفخم لقصيدة علي فهمي خشيم “غني لي الليلة” التي لحنها الموسيقار الليبي علي ماهر بطريقة ارتقت بقيمة النص البسيط وجعلت المعاني مختلفة كليا في الجمل الموسيقية.
لكن بلخياط يكاد يكون فاصلة غنائية باهرة تعبر عن حقيقة الغناء المغربي، واستعادته اليوم في حياته المتصوفة تعيد التذكير بالقيمة التي شكلها الغناء المخلص لبيئته. ذلك ما يجعل من الاحتفاء بقصيدة “المنفرجة” بلحن عريبي وأداء بلخياط مناسبة لا تنتهي.
عندما سحرت قصيدة “المنفرجة” عريبي منذ طفولته بعد أن كان يسمعها بصوت جده الذي لا يتوقف عن قراءتها بعد كل صلاة فجر، كان كمن يعيش معها على مدار سنوات، وعندما سمعها الملك الحسن الثاني بصوت ملحنها الليبي بعد أن عرفها كقصيدة مثل كل شعوب المغرب العربي وهي تتلى في الزوايا الصوفية والإنشاد الديني، كان يرى أن هذه القصيدة وكأنها لحنت لصوت عبدالهادي بلخياط فاقترحها عليه.
وهكذا عاش بلخياط مع لحن حسن عريبي لتلك القصيدة كي يضع لمساته الأدائية عليها فهي ملك لكل من يرى الأمل في طريقة عيشه.
نجد ذلك في المقدمة الموسيقية التي أضافها بلخياط إلى لحن عريبي وكأنها توحي بغير الإنشاد الديني عندما اختار مقام النهاوند، حتى يدخل بالإنشاد الغنائي بإيقاع الأيوب، ثم تبدأ انتقالات الغناء على مقام الكرد، ويجعل المستمع يعيش مع صولو الناي في مقاطع أخرى تنتهي برفع الأذان بسحر مقام الحجاز سيد الإنشاد.
ومع أن لحن عريبي لم يجازف بانتقالات ميلودية، بل خضع لسلطة القصيدة الأخاذ، إلا أن أداء بلخياط الذي بات اليوم يجد رزق يومه من الاطمئنان تحت سجادة صلاته، أضفى عليه رهبة شعورية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - براعة كاتب عراقي عن فنان مغربي
بلحرش إبراهيم ( 2025 / 1 / 4 - 20:19 )
شكرا للأستاذ الكاتب كرم نعمة وهو عراقي كما عرفت من سيرته عندما كتب بشكل ملفت وعميق عن الغناء في ليبيا والمغرب، وهو في هذا المقال المتميز يكشف أن ما كان يطلق عليها بالقطيعة الموسيقية والفنية في العقود السابقة بين المغرب والمشرق العربي غير صحيحيه، عندما صحح لنا هذا المقال أن المشرق العربي يستمع بشغف لغناء المغرب العربي وننتظر كاتب من المغرب أو ليبيا أن يكتب عن فنان من العراق كما فعل كرم نعمة وكتب عن فنانين رائعين من ليبيا والمغرب


2 - انه حوار التمدن
عصام ابو عاصم ( 2025 / 1 / 4 - 22:39 )
لا تسمحوا للمرضى النفسانيين السلفيين الاخوانيين حاملي فيروسات تاريخهم الصحراوي المتخلف ان ينشروا قذاراتهم هنا فهذا ليس مكانهم بل مكان المتنورين والمثقفين والاكادميين والمبدعين والمفكرين
لا تسمحوا لهم ان يكونوا هؤلاء السبب في تسميم توجهات هذا الصفحة و ينشروا فيروساتهم


3 - عصام ابو عاصم ؟
على سالم ( 2025 / 1 / 5 - 04:10 )
اسكت ايها الصهيونى اللئيم


4 - جدل غير مفيد وكرم نعمة ناقد رائع
رؤوف الفيلالي ( 2025 / 1 / 6 - 13:25 )
أعتقد ان التعليقات الأخيرة على المقال كانت بمثابة جدل سياسي عقيم على مقال نقدي موسيقي لا يتحمل أكثر من التقديرات الفنية. كرم نعمة كما تابعت سيرته يكتب بشكل نقدي محترف ولديه كتاب عن الغناء العراقي وهو عندما يكتب بهذه الطريقة المحترفة عن الغناء الليبي والمغربي فهو يفتح نافذة كانت مغلقة في المشرق العربي، فأرجو من الأخوة المعلقين عدم تحميل الموضوع أبعادا سياسية لأن المقال نقدي فني عن قامتين موسيقيتين الراحل حسن عريبي في ليبيا والفنان المغربي الرائع عبد الهادي بلخياط


5 - عن تعليق 3
احمد علي الجندي ( 2025 / 1 / 23 - 01:12 )
هذا الشخص نفسه طلب قديما منع الكاتب
عبد الله مطلق القحطاني من الكتابة على الحوار المتمدن لانه انتقد مسألة يؤمن بها !
فعن اي حرية كلامية تتحدث
وانت نفسك ما لا يعجب رأيك تطلب بمنعه من الكتابة على الحوار المتمدن
!
وللعلم هو نفسه الذي
اطلق هذه الشتائم قديما
ودفعت الاستاذ افنان قاسم لهذه المقالة
https://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=735

اخر الافلام

.. شو الشرط يلي وضعه الممثل طوني أبو جودة ليرجع يقدّم برنامج مع


.. عماد الدين أديب: الحرب بين إسرائيل وإيران كانت عرضا سينمائيا




.. -عندن روح الله وأوادم-... #مي_متى تشيد بالفنانين: -أهم من ال


.. مراسل العربية: رغم وجود خرقين إيرانيين بحسب الرواية الإسرائي




.. انتظروا حلقة خاصة مع صناع ونجوم فيلم في عز الضهر في برنامج #