الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين... خذلانٌ لا ينتهي ومفاتيحٌ لا تصدأ!

محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)

2025 / 5 / 15
القضية الفلسطينية


في ذكرى النكبة، لا نعدّ السنوات التي مرّت منذ أن اقتُلع شعبٌ من أرضه فقط، بل نحسب عدد الخيبات، وعدد الطعنات التي جاءت من أقرب الأيدي. لم تكن نكبة فلسطين لحظة سطوٍ صهيوني فحسب، بل كانت لحظة صمتٍ عربي، وتآمرٍ دولي، وخيانةٍ مكتملة الأركان.

فُرضت الضرائب الباهظة على الفلاح الفلسطيني في ظل الحكم العثماني، ومع الفقر والجهل بالأنظمة العقارية الجديدة، خسر كثيرون أراضيهم، فانتقلت إلى مُلّاك كبار، بعضهم من عائلات عربية في سوريا ولبنان، ممن باعوا لاحقاً للوكالة اليهودية. وبينما أحجمت بعض العائلات الفلسطينية الميسورة عن الشراء، إما خجلاً أو ترفعاً، مهّدت بعض "الأيادي القريبة" الطريق لأولى فصول المأساة.

وحين بدأ الفلسطينيون مبكراً برفض المشروع الصهيوني، كما في عريضة عام 1891، بدأت ترتسم ملامح التواطؤ الدولي. وبعد سنوات، دخل الشريف حسين بن علي في مراسلات مع البريطانيين، طمعاً في مملكة عربية بعد الثورة على العثمانيين، ليُترك في النهاية وحيداً، ويموت منفياً في قبرص، مخذولاً، كما خُذلت قضايا العرب الكبرى.

توالت السنوات، وانفجرت الثورات الفلسطينية: ثورة البراق1929، وثورة الكف الأخضر1929، وثورة القسّام1935... حتى جاء أطول إضراب في تاريخ البشرية، استمر ستة أشهر كاملة، في وجه الاستيطان والهجرة والمؤامرة. وحين عجزت بريطانيا عن كسره بالقوة، لجأت إلى "وساطة" ملوك العرب:الملك عبد العزيز، والملك غازي، والملك عبد الله. دعوا الفلسطينيين إلى إنهاء الإضراب، قائلين إنهم سيضمنون الحقوق لاحقاً. فاستجاب الشعب الفلسطيني ... وأُخمدت الثورة.

كأنّ فلسطين باتت ساحة تُجرّب فيها كل أشكال التنازل والخداع، بينما كانت الجماهير العربية تصرخ في الشوارع، والأنظمة تعقد الصفقات في الغرف المغلقة. كل مؤتمر قمة، كل بيان شجب، كل "وساطة"، لم تكن في أغلبها سوى وجه ناعم لمؤامرة خفية.

واليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً، لم يتوقف النزيف. تغيّرت الوجوه، لكن النهج ذاته: تطبيع، تجاهل، حصار، تواطؤ... بينما يدفن الفلسطيني أبناءه تحت الركام، ويكتب أسماءهم على الجدران، ويصرخ بأملٍ يُخنق كل مرة.

نكبة فلسطين ليست ذكرى، إنها جرحٌ مفتوح ينزف يومياً، ليس فقط من الاحتلال، بل من خذلان الأقربين. ورغم ذلك، نحن لا ننهزم. نحن أبناء الأرض، نحملها في حقائبنا، وفي دعائنا، وفي ذاكرة أطفالنا. نكتب أسماء قرانا على جدران المنفى، وننتظر العودة كأنها وعدٌ من السماء.

ورغم كل ما حيك ضدنا من مؤامرات، ورغم الطعنات التي أتتنا من الخلف قبل أن تأتينا من العدو، لم نسقط.
لم ننسَ، ولم نستسلم. فلسطين ليست قضية موسمية، ولا ورقة مساومة، بل هي حقٌّ لا يسقط بالتقادم، ووعدٌ لا يُمحى من ذاكرة الأجيال. سنعود، لا لأنهم يسمحون، بل لأننا أصحاب الحق، نحمل مفاتيح البيوت، وخرائط القرى، وقراراتٍ أممية لا تزال شاهدة، وعلى رأسها القرار 194. العودة ليست حُلماً، بل يقينٌ يسكن فينا كما تسكن أرواح الشهداء ترابها.

مهما طال الظلم، ومهما تكاثفت الخيانات، فإن شمس العودة ستشرق... لا محالة.

وحده الفلسطيني يحمل خيبته على كتفه ويمضي. يمشي بين أنقاض الوعود، يحصي أسماء الشهداء، ويمسح الغبار عن مفاتيح قديمة لا تزال تحتفظ بشكل الأبواب التي أُغلقت خلفه ذات نكبة. تُنسى القضايا، وتُبدَّل الخرائط، وتُشترى المواقف، ويبقى هو وحده في العراء، يواجه موتاً يتكرّر، ونفياً لا ينتهي.

ومع كل طفل يُنتشل من تحت الركام، ومع كل بيت يُهدم، ومع كل دمعة تُسفك، يتجدّد هذا العهد الحزين: لن ننسى، لن نبيع، لن نتنازل. حقّ العودة ليس شعاراً نردّده، بل وجعاً نحياه، ووصيّة نحملها في العيون، وفي الصدور، وفي صمت الأمهات وهنّ ينظرن إلى صور الأبناء المعلّقة على الجدران.

سيطول الطريق، نعم. وقد نظلّ ندفن أبناءنا بأيدينا، ونحمل جنائزنا وحدنا، لكننا لن نغادر الحلم، ولن نغلق باب الأمل. فالعودة ليست قراراً دولياً يُمنَح، بل قراراً ننتزعه نحن.

وسنعود... إن لم نكن نحن، فسيكون أبناؤنا. وإن لم يكونوا، فسيعود أحفادنا حتماً. لأن الأرض لا تنسى أصحابها، ولأننا، ببساطة... ما زلنا نحتفظ بالمفاتيح.

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
..........................

بعض المصادر:

1. السويدان، طارق. فلسطين: التاريخ المصور. الكويت: الإبداع الفكري، 2012.

2. الخالدي، وليد. قبل أن يضيع كل شيء. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984.

3. مصالحة، نور. خرافة أرض بلا شعب: تاريخ تفنيد الرواية الصهيونية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.

4. العارف، عارف. تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. بيروت: دار الجيل، 1970.

5. الكيالي، عبد الوهاب. تاريخ فلسطين الحديث. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978.

6. موسى، سليمان. أسرار ثورة العرب الكبرى. عمّان: دار الشروق، 1990.

7. طوبي، توفيق. ثورة 1936–1939 في فلسطين. حيفا: دار الأفق الجديد، 1975.

8. العارف، عارف. النكبة: النكبة الفلسطينية في الرواية الرسمية. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1956.

9. المؤسسة العربية للدراسات. صورة العرب في وثائق الانتداب البريطاني. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983.

10. صالح، محسن محمد. القضية الفلسطينية في مئة عام: من وعد بلفور إلى صفقة القرن. بيروت: مركز الزيتونة للدراسات، 2018.

11. شوفاني، إلياس. النكبة: الكارثة التي حلت بفلسطين عام 1948. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998.

12. مركز بديل. حق العودة في القانون الدولي. رام الله: مركز بديل لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2007.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا.. مظاهرة في ميلان تطالب بوقف الحرب على غزة وقطع العل


.. نقاط توزيع المساعدات تحصد مزيدا من أرواح المجوعين في قطاع غز




.. المبعوث الأميركي يغضب اللبنانيين: أمامكم خطر وجودي


.. اختفاء الأسماك النهرية.. أزمة الملوحة تهدد -شط العرب- في الب




.. الجيش الإسرائيلي يشن واحدة من أعنف الغارات الجوية منذ بدء ال