الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان

رياض قاسم حسن العلي

2025 / 5 / 21
قضايا ثقافية


لا يُكتب التاريخ مرة واحدة، ولا على نحو نهائي. فالرواية التاريخية ليست سوى وجهة نظر من يملك سلطة الكتابة، أو بالأحرى سلطة فرض روايته بوصفها "الرسميّة". من هنا، ظلّ التاريخ الرسمي طوال قرون يعكس سردية الغالب، ويطمس، في المقابل، سرديات المغلوب، لا لغيابها، بل لأنها لا تتوافق مع منطق الهيمنة الذي يُملي ما يُكتب وما يُنسى.

الطرف الأضعف، إذن، لا يختفي من المشهد، بل يتوارى خلف ستار الصمت القسري، وتبقى روايته متداولة في الهامش، في الحكايات الشفاهية، في القصائد المهملة، في الذاكرة الجمعية التي تقاوم النسيان بوسائلها البدائية، إلى أن تأتي لحظة إعادة التوازن: إمّا بتغيّر في موازين القوى، أو بتآكل الرواية الرسمية نفسها.

لقد بدأت المدارس التاريخية الحديثة—لا سيما ما بعد البنيوية، والمدارس ما بعد الاستعمارية—تنتبه إلى ضرورة استعادة صوت المهمّش، والبحث في الطُرُز الخافتة للسرد التاريخي، عبر نبش الوثائق المنسية، والقصص التي تمّ إسكاتها قسرًا. هذه المدارس لا تعترف بـ"نقاء" الوثيقة الرسمية، بل تقرأها بوصفها نتاجًا لسلطة تحاول إنتاج الماضي كما ترغب أن يُفهم.

ولعل المثال الأوضح على ذلك هو التاريخ العربي قبل الإسلام، إذ إن معظم المصادر التي كُتب بها هذا التاريخ جاءت بعد ظهور الإسلام، وبأدواته الفكرية والدينية. العرب، في الغالب، لم يدوّنوا تاريخهم قبل الإسلام، لا لغياب الماضي، بل لغياب أدوات تدوينه وهيمنة النظرة اللاهوتية على كل محاولة لتأريخ ما قبل الوحي. ومن هنا، اعتمد المؤرخون المسلمون الأوائل—كالطبري وابن كثير—في استهلالاتهم على نصوص دينية سابقة، لا سيما التوراة، وعلى مرويات إسرائيليات رواها أحبار دخلوا الإسلام أو تعاملوا مع المسلمين. وهكذا تشكّل الوعي التاريخي الأول بوصفه امتدادًا لتصور لاهوتي مشترك، لا لتقصٍّ نقدي مستقلّ.

لكن المعضلة الأعمق ليست في أدوات التدوين فحسب، بل في آلية الانتقاء والإقصاء؛ فالرواية الشفاهية كانت المصدر الأهم، لكنها لم تكن محايدة، بل خضعت، كما الوثائق، لمنطق السلطة. فالمؤرخ لم يكن جامعا لروايات الناس أجمعين، بل ناقلًا لما يخدم الرؤية الغالبة، ولهذا اختفى "الآخر" من كتب التاريخ إلا بوصفه خصمًا أو زنديقًا أو متمردًا، كما حدث مع سكان الأطراف، والحركات المعارضة، والتيارات الخارجة عن المركز.

وفي مقابل هذا، سعت بعض التيارات الحديثة، خصوصًا في المدرسة الأنغلوساكسونية الاستشراقية، إلى إعادة النظر في الحدث الإسلامي نفسه، ليس بهدف التشكيك فقط، بل بغرض تفكيك البنية السردية التي بُني عليها. هؤلاء حاولوا تتبّع أصول الرواية الإسلامية عبر المقارنة بين الشفاهيات والمصادر الخارجية، والوثائق الأركيولوجية، والمخطوطات المنسية. وقد أظهر هذا المنهج أن الحدث الإسلامي، كما نعرفه، لا يمكن فهمه إلا بوصفه سردية تطورت مع الزمن، وشُكّلت من خلال خطاب السلطة الدينية والسياسية على السواء.

غير أن المفارقة تبقى في أن ما يُسمّى "الحدث التاريخي" لا يوجد خارج السرد. فالتاريخ ليس ما حدث، بل ما نرويه عمّا حدث. والسرد، كما نعلم من منظّريه، ليس محايدًا أبدًا، بل مُحمّلٌ بالانحياز، بالرغبة في السيطرة، بالميل إلى محو الآخر.

وعليه، فإن مهمة المؤرخ في زمننا لم تعد فقط تقصّي الماضي، بل مساءلة الرواية السائدة، وتفكيك بنيتها، والبحث في ما تمّ إقصاؤه عمدًا، واستعادة ما سُرق من أفواه الذين لم يُسمح لهم بالحديث. فالتاريخ الحق ليس هو ما كُتب، بل ما لم يُكتب بعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشية إحياء الذكرى العاشرة ل13 من نوفمبر، التهديد الإرهابي لم


.. بعد شراء مقاتلات إف35، بلجيكا تكتشف أن سماءها ضيقة للمناورات




.. ما تداعيات سقوط بوكروفسك على الحرب في أوكرانيا؟


.. إصابة مصورة في وكالة رويترز وعدد من الفلسطينيين في هجوم شنه




.. توقيف 3 أشخاص على خلفية تحقيق جديد مع الناجي الوحيد من كومون