الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مابعد الحقيقة في العصر الرقمي
عبد النور إدريس
كاتب
(Abdennour Driss)
2025 / 5 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما بعد الحقيقة في العصر الرقمي:
بين الإنكار المعرفي وتشكل الحقيقة عبر الخوارزميات.
د.عبد النور إدريس
تمهيد: شهد العالم خلال العصر الخوارزمي تحولاً جوهرياً في طبيعة إدراك الحقيقة، حيث لم تعد "الحقيقة الموضوعية" تتمتع بالمكانة المطلقة التي ميزتها في الخطاب العقلاني والحداثي.
ففي كتابه "ما بعد الحقيقة"، يستعرض لي ماكنتاير كيف أصبح الإنكار المنهجي للحقائق العلمية والسياسية والاجتماعية سمة لعصر جديد تُهيمن عليه الأهواء، وتُؤطره وسائل الإعلام الرقمية، ويُعاد تشكيله عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. هذا المقال يحاول قراءة هذا التحول من زاوية علمية تحليلية، تربط بين الأفكار المركزية للكتاب وبين البنية النفسية والمعرفية للإنسان في العصر الرقمي، وآليات تشكيل الحقيقة في ظل الذكاء الاصطناعي.
أولاً: مفهوم ما بعد الحقيقة وأسس الإنكار المعرفي:
يشير ماكنتاير إلى أن "ما بعد الحقيقة" لا تعني غياب الحقيقة، بل تحوّل موقعها ووظيفتها في الثقافة المعاصرة. لم تعد الحقيقة نتاجاً للنقاش الموضوعي المبني على الأدلة، بل أصبحت رهينة لما يعتقده الناس أو يشعرون به. من الناحية العلمية، يمكن فهم هذا التحول من خلال مفهومي "التحيز التأكيدي" و"الانغلاق المعرفي"، وهما عمليتان نفسيتان تُقيدان قدرة الأفراد على تقبل المعلومات التي لا تنسجم مع معتقداتهم السابقة.
ثانياً: الخوارزميات كمُنتج ومُعيد تشكيل للحقيقة:
تعتمد المنصات الرقمية الكبرى (مثل فيسبوك، يوتيوب، تيك توك) على خوارزميات صُممت لتعزيز التفاعل والاهتمام، مما يدفعها إلى إظهار محتويات تتماشى مع ميول المستخدمين وسلوكياتهم السابقة. من منظور معرفي، تعزز هذه الخوارزميات التحيز التأكيدي وتمنع التعرض للتعددية المعلوماتية، ما يجعل الحقيقة مسألة تكرار أكثر من كونها مسألة تحقق. وهكذا تتشكل فقاعات معرفية تُصمم فيها الحقيقة وفق منطق "ما يُشبهني ويوافقني".
مثال تطبيقي: خوارزميات تيك توك وتشكيل الحقيقة:
يُعد تكتوك نموذجاً متقدماً لهذا التأثير، إذ يعمل عبر خوارزمية تعتمد بشكل أساسي على التعلم الآلي والتفاعل الفوري مع المحتوى (الوقت المُستغرق في المشاهدة، الإعجابات، المشاركات، إعادة المشاهدة). تقوم هذه الخوارزمية بإنشاء ملف شخصي معرفي-نفسي لكل مستخدم، يعكس اهتمامات دقيقة مثل الميول السياسية، القضايا الاجتماعية، وحتى الحالة النفسية.
على سبيل المثال، المستخدم الذي يُظهر اهتماماً بمحتوى نظريات المؤامرة سيتلقى تدريجياً مزيداً من المحتوى الذي يؤكد هذه النظريات، مما يعزز قناعته بها ويحدّ من تعرضه لمصادر مضادة. في حالات أخرى، أدى ذلك إلى تطرف بعض المستخدمين أو انتشار معلومات مضللة عن اللقاحات أو المناخ أو الأحداث الجارية.
تؤدي هذه البنية إلى "انغلاق معرفي" تلقائي، حيث تصبح الحقيقة محكومة بالخوارزمية وليس بالواقع. وعوض أن يُمثل تيك توك منصة للتعدد والتنوع، يتحول إلى مجال لإعادة إنتاج الذات المعرفية المغلقة.
ثالثاً: الذكاء الاصطناعي وتحيزات الحقيقة المصنعة:
تُعد تقنيات الذكاء الاصطناعي أدوات قوية في جمع، تحليل، وإنتاج المعلومات. لكنها، كما يبرز التحليل الأكاديمي، لا تعمل في فراغ؛ فهي تتغذى على بيانات بشرية متحيزة ومجزأة. فالذكاء الاصطناعي ليس كياناً موضوعياً، بل هو مرآة للمجتمع، تُعيد إنتاج تحيزاته وتمثيلاته الاجتماعية، مما يؤدي إلى تشكيل حقائق جديدة موجهة لا تعكس الواقع بقدر ما تعكس توقعات المستخدمين، أو مصالح الشركات.
رابعاً: البعد النفسي لتشكل الحقيقة في العصر الرقمي:
يؤكد علم النفس المعرفي أن الإدراك الحسي والمعرفي للواقع يتأثر بالسياقات الاجتماعية والعاطفية. في العصر الرقمي، تعمل الخوارزميات على تنشيط النظام العاطفي في الدماغ من خلال الإثارة، الغضب، الخوف أو الحماس، وهي مشاعر تعزز التفاعل وتضعف في الوقت نفسه التفكير النقدي. وعليه، تصبح "الحقيقة" مرتبطة بمدى قدرتها على إثارة الانفعالات، وليس بمدى منطقيتها أو واقعيتها.
مثال نفسي من الواقع الرقمي: أظهرت دراسات حديثة أن مقاطع الفيديو التي تحتوي على مشاعر قوية (كالغضب أو الحزن أو الحماس الشديد) تنتشر بشكل أوسع وأسرع، وهو ما يدفع الخوارزميات إلى تفضيل هذا النوع من المحتوى. النتيجة هي تعزيز منظومة من الحقائق الانفعالية، حيث يصبح ما يُثير العاطفة أكثر "حقيقة" مما يُثير العقل.
خامساً: نحو مقاومة معرفية لما بعد الحقيقة:
يختتم ماكنتاير كتابه بنداء واضح: إن مقاومة ما بعد الحقيقة تتطلب تعزيز الثقافة العلمية، وتدريب الأفراد على التفكير النقدي، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات المعرفية. على الصعيد التقني، يقترح الباحثون تطوير خوارزميات أكثر شفافية وتشاركية، بالإضافة إلى تعليم الذكاء الاصطناعي على اكتشاف التحيزات لا تكريسها. ويمكن أن تُسهم مبادرات "محو الأمية الرقمية" في تعزيز وعي المستخدمين حول كيفية عمل الخوارزميات والتلاعب بالمحتوى، ما يُمكّن الأفراد من مقاومة هذا التشكيل الصناعي للحقيقة.
خاتمة: في ضوء التحليل المتداخل بين علم النفس المعرفي، ونظرية الإعلام، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، يمكن القول إن الحقيقة في العصر الرقمي ليست مجرد محتوى، بل هي بنية تتشكل على تقاطع الخوارزميات، العواطف، والتفاعلات الاجتماعية. وإذا كان عصر ما بعد الحقيقة قد غيّر طبيعة الإدراك البشري، فإن إعادة تأسيس علاقة جديدة مع الحقيقة تتطلب مجهوداً جماعياً يتجاوز التقنيات نحو وعي نقدي مستمر.
مراجع معتمدة:
McIntyre, Lee. Post-Truth. MIT Press, 2018.
Kahneman, Daniel. Thinking, Fast and Slow. Farrar, Straus and Giroux, 2011.
Tufekci, Zeynep. Twitter and Tear Gas. Yale University Press, 2017.
Pariser, Eli. The Filter Bubble. Penguin Books, 2011.
Vosoughi, Soroush, Roy, Deb, and Aral, Sinan. "The spread of true and false news online." Science, 2018.
Bishop, Matt. "TikTok’s Algorithm and the Rise of Emotional Truth." Digital Culture Studies, 2023.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. خليل الحية يستحضر هجوم 7 أكتوبر مجددا.. ما الرسائل في هذا ال
.. الهلال الأحمر الفلسطيني: إصابة صحفيين ومتضامنين أجانب في اعت
.. مسؤول أممي: حجم النفايات في غزة هائل
.. مراسل الجزيرة: فريق من الصليب الأحمر وعناصر من القسام يجرون
.. بايدن لترمب: أنت تعمل لدينا