الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العداء الروسي- البريطاني : ترف الوهم
ليث الجادر
2025 / 6 / 10مواضيع وابحاث سياسية

في خضمّ النزاعات الجيوسياسية الراهنة، يعاود العداء البريطاني–الروسي حضوره الخطابي بقوة، على نحوٍ قد يبدو للبعض امتدادًا منطقيًا لتوترات الحرب الباردة، لكنه في الحقيقة ترفٌ فكري ووهمٌ متبادل يفتقر إلى مقومات العداء الواقعي. فالإمبراطوريتان قد أفلت شمسُهما، ولا حدود تجمعهما، ولا مصالح حيوية متقاطعة اليوم سوى في ذاكرة الصراعات الرمزية.
خلال السنوات الماضية، أعادت بريطانيا توجيه خطابها الخارجي تجاه روسيا بنبرة عدائية تصعيدية لا تتسق مع موقعها الفعلي في المعادلة الدولية، ولا مع طبيعة التهديد الروسي لأوروبا الغربية الذي يستهدف بدرجة أولى دول المحيط الجغرافي كأوكرانيا وبولندا ودول البلطيق. ومع ذلك، نلاحظ أن بريطانيا – بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي – تبدو حريصة على إعادة إنتاج دورها العالمي عبر معارك رمزية، لعلّ روسيا خصمها الأنسب فيها.
فالعداء البريطاني–الروسي لا يُبنى اليوم على صراع مصالح حقيقي كما هو الحال في العلاقة مع الصين أو حتى مع أوروبا، بل على حمولات ثقافية وتاريخية موروثة من الحرب الباردة، وعلى خطاب إعلامي مشحون بصور نمطية عن روسيا البوتينية بوصفها تهديدًا حضاريًا لقيم الغرب.
تاريخيًا، لم تكن العلاقات الروسية–البريطانية مركزية في الصراعات الكبرى إلا بوصفها انعكاسًا لتحالفات أوسع، كما في الحربين العالميتين. وحتى خلال الحرب الباردة، لعبت بريطانيا دور التابع الاستراتيجي للولايات المتحدة أكثر من كونها خصمًا مستقلاً للاتحاد السوفيتي. وبالتالي، فإن تمثيل روسيا كعدوٍ مباشر لبريطانيا اليوم لا يعكس واقعًا مصلحيًا بقدر ما يُجسّد إرادة نفسية–سياسية لإعادة إنتاج دور بريطاني عالمي مفقود.
ويمكن فهم هذه العدائية المستدامة في ضوء المنظور الثقافي–الإيديولوجي كذلك؛ إذ تعود جذور التباعد بين البلدين إلى تمثّلات متبادلة عن الآخر بصفته تهديدًا حضاريًا. ففي المقابل الروسي، طالما وُصفت بريطانيا بأنها رمز المكر السياسي الغربي، والعدو الكامن في كل تحرك معادٍ لروسيا. بينما يُروّج في الخطاب البريطاني أن روسيا ليست فقط خصمًا سياسيًا بل خطرًا ثقافيًا لا يتماشى مع قيم الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان.
إن توصيف العداء الروسي–البريطاني بالترف الفكري لا يعني إنكار وجود احتكاكات سياسية أو خلافات أمنية، لكنه يشير إلى أن هذه الخلافات تُضخَّم بشكل يفوق وزنها الفعلي في موازين الجغرافيا السياسية. فتكرار التصريحات البريطانية المتشنجة تجاه روسيا – من دون وجود بُعد مصلحي ضاغط – يعكس حالة من التوهّم الاستراتيجي، تسعى من خلاله لندن إلى استعادة رمزية دورها الدولي عبر شيطنة خصم تاريخي مألوف.
بين الواقع والرمز: الحالة الفرنسية–الروسية كمقارنة عقلانية
وعلى خلاف العداء البريطاني–الروسي، فإن العداء الفرنسي–الروسي يعكس صراعًا موضوعيًا تُغذيه تناقضات ملموسة في السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية، لا سيما في إفريقيا. ففي السنوات الأخيرة، شهدت الساحة الإفريقية تصاعدًا لافتًا في الحضور الروسي، سواء من خلال الدعم السياسي والعسكري لبعض الأنظمة، أو عبر شركات أمنية كـ"فاغنر"، في مقابل تراجع النفوذ الفرنسي التقليدي، الذي كان يستند إلى إرث استعماري وشبكات فرنكوفونية متجذرة.
فرنسا ترى في التمدد الروسي تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاقتصادية والأمنية، خاصة في دول الساحل مثل مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى. بينما توظف روسيا هذا الصراع لإعادة تثبيت موقعها كقوة عالمية فاعلة خارج نطاقها الإقليمي، والاستفادة من الموارد الطبيعية الإفريقية، كاليورانيوم والذهب والنفط. هنا لا نتحدث عن ترف فكري أو وهم متبادل، بل عن تضارب فعلي في دوائر النفوذ، وصراع استثماري–جيوسياسي حقيقي، تُمارسه القوتان داخل ميدان مشترك.
هذا التباين بين الحالة الفرنسية–الروسية والبريطانية–الروسية يُبرز الفارق الجوهري بين العداء القائم على الواقع والمصالح، والعداء القائم على الرموز والتصورات الذهنية. فالعلاقة الفرنسية–الروسية تظل محكومة بعقلانية سياسية نسبية، رغم التوتر الحاد الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا؛ إذ أن فرنسا، وإن أبدت حماسة ملحوظة في دعم كييف عسكريًا ودبلوماسيًا، إلا أنها أبقت على مستويات من التبادل التجاري مع موسكو، وتجنّبت خطاب القطيعة الكاملة. في المقابل، تتسم العلاقة البريطانية–الروسية بتوهم عدائي ولاعقلاني، يُغذى بخطابات رمزية تاريخية وتصورات ثقافية متراكمة، حتى بلغ الأمر حد التصريحات العبثية، كما حدث في 8 يونيو 2025 حين صرّحت مستشارة الحكومة البريطانية بأن روسيا "في حالة حرب" مع بريطانيا، في تعبير لا يعكس واقعًا ميدانيًا أو قانونيًا بل حالة ذهنية مشحونة بالتصعيد المجاني.
خاتمة:
إن فهم العداء الروسي–البريطاني بوصفه ترفًا فكريًا ووهمًا متبادلًا يحرّر الخطاب السياسي من أوهام الحرب الباردة، ويدعو إلى إعادة تقييم الأولويات الاستراتيجية وفق معايير واقعية، تميّز بين ما هو صراع رمزي وما هو خلاف مصلحي حقيقي. وبينما يبدو العداء الفرنسي–الروسي تعبيرًا عن مصالح متضاربة ومشاريع توسع متنافرة، فإن العداء البريطاني–الروسي يعيد إنتاج ذاته بلا أسس واقعية، وكأنه يستنشق ماضيًا لم يعد صالحًا للتنفس
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. سقوط صاروخ في تل أبيب وإعلام إيراني يعلن استهداف قاعدة نيفات

.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يعلن رصد هجومي صاروخي على إسرائيل وصف

.. شاهد | اشتعال حافلة إسرائيلية جراء سقوط صاروخ إيراني في تل أ

.. مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية يفشل في تبني قرار يد

.. سقوط إصابات مباشرة إثر صاروخ إيراني يستهدف مبنى بمدينة هرتسي
