الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التأويل في قبضة المعنى: نحو فهم حتمي للاتصال بوصفه فعلاً إنسانيًا متجددًا
حمدي سيد محمد محمود
2025 / 6 / 10الصحافة والاعلام

د.حمدي سيد محمد محمود
تُعد النظرية الحتمية التأويلية في الاتصال إحدى المداخل المعرفية الحديثة التي تنتمي إلى الحقل التأويلي في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وقد برزت في سياق نقد النزعة الوضعية التي هيمنت طويلًا على دراسات الاتصال. تفترض هذه النظرية أن الفعل الاتصالي لا يمكن فهمه إلا في ضوء التأويل الثقافي والمعرفي الذي يمنحه الأفراد لما يُقال أو يُرسل من رموز، بمعنى أن عملية الاتصال ليست مجرد نقل خطي للمعلومات من مرسل إلى متلقٍ كما تفترض النماذج الكلاسيكية، بل هي سياق تأويلي تتقاطع فيه الرموز مع الأنساق الثقافية والمعرفية التي يحملها الأفراد داخل مجتمعاتهم.
تستند هذه النظرية إلى جذور فلسفية عميقة مستمدة من الفلسفة التأويلية (الهيرمينوطيقا)، خاصة عند هانس جورج غادامير، وبدرجة أقل من مارتن هايدغر وبول ريكور. وهي تقوم على أن الفهم البشري لا يتحقق إلا من خلال التفسير، وأن اللغة ليست مجرد وعاء محايد بل تُنتج المعنى من خلال التفاعل مع التجربة والخلفية التاريخية والثقافية للمتلقي. في هذا الإطار، يصبح الاتصال عملية ديناميكية، غير محايدة، تتسم بالتعدد والتأويل، وتختلف دلالاتها بتعدد المتلقين وسياقاتهم.
ترى النظرية الحتمية التأويلية أن الواقع الاتصالي ليس موضوعًا خارجيًا يُنقل كما هو، بل هو بناء اجتماعي يتشكل من خلال اللغة والتفاعل والتأويل. وهنا تبرز القطيعة المعرفية التي تُقيمها هذه النظرية مع الطروحات الوضعية التي تفترض أن المعنى مستقر وثابت، ويمكن قياسه وملاحظته تجريبيًا. فوفق المنظور التأويلي، المعنى ليس سابقًا للاتصال بل يتشكل عبره، وهو مرتهن بالمرجعيات الثقافية والاجتماعية التي تحكم طريقة تأويل الرسائل.
في ضوء ذلك، لا يُنظر إلى المتلقي بوصفه مستقبلًا سلبيًا للمعلومة، بل فاعلًا في إنتاج المعنى، يشارك في "خلق" الرسالة الاتصالية كما يشاء ويفهم. فمثلًا، الرسالة الإعلامية ذاتها قد تُستقبل بطرائق متعددة بناءً على عوامل مثل: الانتماء الطبقي، المعتقدات الدينية، التوجهات السياسية، التجارب الشخصية، والرموز الثقافية. وهذا ما يجعل الاتصال، وفق هذه النظرية، عملية تأويلية ذات طابع سياقي غير قابل للحتمية الميكانيكية.
يُعد التأويل جوهر العملية الاتصالية في منظور النظرية الحتمية التأويلية. فالمعنى لا يُفهم كما هو، بل يُعاد إنتاجه من خلال تفاعل ذات المتلقي مع النص أو الرسالة، وهو ما يعني أن الاتصال لا ينقل "المعنى" وإنما يُثير عملية إنتاجه. يتطلب هذا الفهم أخذ البعد التاريخي والثقافي للمتلقي بعين الاعتبار، لأن كل فهم للرسالة هو فهم مشروط بإرث ثقافي وتاريخي سابق، ما يُعرف في الفلسفة التأويلية بـ"أفق الفهم". وهكذا يصبح الفهم الاتصالي عملية اندماج بين أفق المرسل وأفق المتلقي، حيث لا توجد حقيقة واحدة وإنما تعددية في المعاني الممكنة.
امتدت النظرية الحتمية التأويلية إلى العديد من التطبيقات في بحوث الإعلام والاتصال، لا سيما في دراسات التلقي وتحليل الجمهور. فقد ساهمت هذه النظرية في تطوير مناهج نوعية تهتم بتفسير كيفية فهم الجماهير للرسائل الإعلامية وفق سياقاتهم الثقافية والاجتماعية. كما شكلت أساسًا مهمًا في تحليل الخطاب الإعلامي والسياسي والديني، إذ لا يُكتفى بتفكيك البنية اللغوية للنص، بل يُنظر إلى الفهم الناتج عنها كنتاج تفاعل معقد بين النص والمتلقي وسياق التلقي.
كذلك أثرت النظرية الحتمية التأويلية في الحقول المتقاطعة مثل الاتصال عبر الثقافات، حيث أبرزت مدى اختلاف تأويل الرسائل باختلاف المرجعيات الثقافية، ما يُعقّد عملية الفهم ويجعل من التواصل بين الثقافات تحديًا قائمًا على الاعتراف بتعدد الدلالات. أيضًا، في بحوث الإعلام البديل، وفّرت هذه النظرية أرضية لفهم كيف تعيد الجماعات المهمشة تأويل الرسائل السائدة بطريقة تقاومية تُفضي إلى إنتاج معانٍ بديلة.
رغم إسهام النظرية الحتمية التأويلية في تفكيك النزعة الحتمية التقنية والعقلانية للاتصال، إلا أنها واجهت عددًا من الانتقادات. فالبعض يرى أنها تُفرط في النسبية التأويلية، إلى الحد الذي تُفقد فيه الرسالة معناها الأصلي، وتصبح كل التأويلات صحيحة بنفس الدرجة، مما يُفضي إلى غياب أي معيار للحكم على صدقية الفهم أو دقته. كذلك، فإن التركيز المفرط على السياق قد يُغفل البنية التقنية للرسائل، والتي تلعب دورًا أساسيًا في توجيه التأويل، مثل طريقة الإخراج، الإيقاع، الصورة، والإيقاع اللغوي.
كما يشير نقاد آخرون إلى أن النظرية قد تُضعف من إمكانيات التعميم البحثي، بما أنها تعتمد على أدوات نوعية تعتمد على تفسير معاني متغيرة، مما يحدّ من إمكانية بناء نماذج عامة في علم الاتصال. ومع ذلك، فإن هذه المآخذ لا تلغي القيمة المعرفية للنظرية، بل تدفع نحو مزيد من التوازن بين التفسير الذاتي والمحددات البنائية واللغوية التي تؤطر عملية الاتصال.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ترامب يدعو لإخلاء طهران فورا وإسرائيل تقصف التلفزيون الرسمي

.. هذا الموقع تحت الأرض هو جوهر البرنامج النووي الإيراني.. إليك

.. الجيش الإسرائيلي يعلن اغتال رئيس هيئة أركان الحرب في إيران ع

.. الرئيس الأميركي يغادر قمة السبع فجأة.. والشرق الأوسط في صلب

.. حرائق في تل أبيب ناجمة عن القصف الصاروخي الإيراني
