الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الصمت الرقمي: تجليات القوة في زمن الإفراط التواصلي
عبد النور إدريس
كاتب
(Abdennour Driss)
2025 / 6 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم: عبد النور إدريس
الملخص: في عالم يتسم بالتدفق المفرط للمعلومات، والضجيج الرقمي المتواصل، تبرز مفارقة فلسفية واجتماعية مفادها أن القوة الحقيقية قد لا تكمن في الكلام أو الظهور، بل في الصمت. يستقصي هذا البحث دلالة "الصمت الرقمي" بوصفه فعلًا واعيًا ومقصودًا يُمارس خارج منطق الهيمنة الخوارزمية، مستعينًا بأطر فلسفية وسوسيولوجية ونفسية. يعتمد البحث على مفاهيم ميشيل فوكو، جان بودريار، وبيير بورديو لفهم أبعاد الصمت كقوة رمزية وأخلاقية. وينتهي البحث إلى أن الصمت الرقمي يمكن اعتباره تمظهرًا لمقاومة ناعمة ضد الاستهلاك القسري للذات الرقمية، وضد الهيمنة الرمزية التي تمارسها المنصات الرقمية.
الكلمات المفتاحية: الصمت الرقمي – القوة الرمزية – الإفراط التواصلي – بودريار – فوكو – بورديو – المناعة السيبرانية
---
Abstract
In a world dominated by excessive digital communication and an overflow of information, a philosophical and sociological paradox emerges: true power may lie not in speech´-or-presence, but in silence. This paper investigates the concept of digital silence as a conscious, intentional act of resistance to algorithmic domination and symbolic overexposure. Drawing on the theoretical frameworks of Michel Foucault, Jean Baudrillard, and Pierre Bourdieu, the study explores digital silence as a form of symbolic and ethical power. The analysis concludes that digital silence -function-s as a subtle form of counter-power, a strategy of cyber-resilience that allows individuals to reclaim agency in the face of algorithmic saturation and identity fragmentation.
---
Keywords
Digital Silence – Symbolic Power – Communicative Excess – Baudrillard – Foucault – Bourdieu – Cyber Resilience
---
مقدمة:
يشهد العالم الرقمي اليوم فيضًا لا ينقطع من التواصل، تشابكًا محمومًا للكلمات، الصور، والإشعارات. غير أن هذا الزخم الذي يبدو دليلًا على الحضور والنشاط، قد يخفي في جوهره فراغًا وجوديًا واستلابًا خفيًا. فمن المفارقات الصارخة أن يصبح الصمت، في عالم لا يكف عن الكلام، أداة مقاومة، ومرآة للوعي، وتجليًا للقوة. تنطلق هذه الورقة من فرضية أن "الصمت الرقمي" ليس غيابًا أو تقاعسًا، بل هو فعل فلسفي، أخلاقي، وسياسي يعيد تعريف الذات في مواجهة منطق الخوارزميات وهيمنة الصور.
أولًا: العتبة المفهومية للصمت الرقمي
نقصد بالصمت الرقمي الامتناع الواعي عن المشاركة في التفاعل الرقمي، سواء عبر النشر أو التعليق أو التفاعل، بما يمثل رفضًا للانخراط في منطق الفرجة والإفراط التواصلي. وهو صمت تكتيكي، لا ينبع من العجز، بل من الوعي.
عند بيير بورديو، القوة الرمزية تكمن في القدرة على تعريف شروط الحقل. وبالتالي، فإن الامتناع عن التفاعل الرقمي هو رفض لقواعد لعبة التواصل الاستعراضي.
يقول جان بودريار في كتابه "محاكاة ومحاكاة مفرطة":
> "في عالم مفرط الواقعية، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، يصبح الانسحاب أصدق تمثيل للواقع".
ثانيًا: الصمت الرقمي بين السوسيولوجيا والمقاومة الناعمة
يرى زيغمونت باومان أن الحداثة السائلة خلقت إنسانًا يعيش تحت ضغط التواصل الدائم. في هذا السياق، يكون الصمت الرقمي شكلًا من أشكال "السيادة النفسية" واستعادة الإيقاع الداخلي.
أما من منظور ميشيل فوكو، فالصمت هو أداة سياسية:
> "حيث تكون السلطة هي ما يُقال، فإن الصمت هو ما يُخفي الإمكانات الممنوعة".
وبذلك، يتحول الصمت الرقمي إلى استراتيجيا مقاومة، تمنع المنصة من الوصول إلى أكثر الموارد ندرة: الانتباه.
ثالثًا: التحليل النفسي للصمت الرقمي: استعادة الذات في زمن التشظي
تُظهر دراسات علم النفس الإعلامي أن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية يخلق ما يسمى بـ"القلق الوجودي الرقمي"، حيث يخشى الفرد من الغياب أو النسيان.
تؤكد Sherry Turkle في "Alone Together" أن التواصل الدائم يخلق عزلة داخلية، وأن الصمت الرقمي هو أحد مداخل استعادة الذات الممزقة بين شاشات متعددة.
إن اختيار الصمت في الفضاء الرقمي لا يدل على الانسحاب، بل على شكل من "التحكم العاطفي المعرفي" الذي يقي من الإغراق السيبراني.
رابعًا: فلسفة الصمت الرقمي: قوة خارج الخطاب
من منظور فلسفي، يمكن فهم الصمت بوصفه موقفًا أنطولوجيًا:
عند مارتن هايدغر، الصمت جزء من الإنصات للكينونة.
عند لودفيغ فتغنشتاين، "ما لا يمكن الحديث عنه ينبغي أن نصمت حياله"، وهو ما يضفي على الصمت طابعًا معرفيًا وأخلاقيًا.
في المجال الرقمي، يصبح الصمت نوعًا من إعادة التفكير في سؤال الوجود في حضرة خوارزميات تقترح وتقرر.
خاتمة:
في زمن أصبحت فيه الكلمات رخيصة، والضجيج قاعدة، والتعرض للذات متطلبًا، يكتسب الصمت الرقمي دلالة فلسفية عميقة. إنه لا يمثل غيابًا عن المعنى، بل مقاومة ضد المعاني الجاهزة. لا يعكس الضعف، بل يعيد تعريف القوة بوصفها وعيًا لا ينجرّ وراء الحشد، ولا يستهلك ذاته للفت النظر. إن الصمت الرقمي هو اليوم أحد أشكال "السلطة الرمزية الصامتة" التي لا تُراقب، ولكنها تراقب.
---
مراجع الدراسة:
1. فوكو، ميشيل. تاريخ الجنسانية، المجلد الأول: إرادة المعرفة. دار التنوير.
2. بودريار، جان. محاكاة ومحاكاة مفرطة. ترجمة سعيد بنكراد.
3. بورديو، بيير. أسئلة في السوسيولوجيا. ترجمة حسن أحجيج.
4. Turkle, Sherry. Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. Basic Books, 2011.
5. Bauman, Zygmunt. Liquid Modernity. Polity Press, 2000.
6. Heidegger, Martin. Being and Time. Harper & Row.
7. Wittgenstein, Ludwig. Tractatus Logico-Philosophicus. Routledge.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كيف ستغير الروبوتات مستقبل الزراعة
.. أنفاق حماس .. كيف سيدمر كاتس مدينة أرضية كاملة؟ | #التاسعة
.. بالخريطة التفاعلية.. هذه أبرز تطورات الحرب الروسية على أوكرا
.. أوروبا تقترب من حظر الغاز الروسي.. هل ينجح الغرب في تجفيف من
.. مستوطنون يهاجمون مزارعين فلسطينيين في بلدة بيتا جنوبي نابلس