الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد التطبيع: سيادة مُفرّغة، ووعيٌ قيد التدوير

خالد خليل

2025 / 7 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


(1) وهم التاريخ الجديد: من شرعية البقاء إلى شرعية الشراء

لم يعد “التطبيع” مجرد اتفاقية تُوقّع على الورق، ولا مجرد صورة لزعماء يتصافحون تحت قبة البيت الأبيض. إنه مشروع استراتيجي مكتمل الأركان لإعادة هندسة الوعي العربي، وإعادة ضبط البوصلة الحضارية للأمة من الداخل. فبعد أن كان الصراع مع إسرائيل قضية كرامة، وهوية، وتاريخ، بات يُقدَّم اليوم كمشكلة إجرائية بين طرفين متساويين بحاجة إلى “حلول تقنية” وسوق مفتوح.

ما نشهده ليس “تطبيع علاقات”، بل “تطبيع الرواية”؛ الرواية التي تسحب الاعتراف من الضحية، وتمنحه للجلاد، وتُحوّل المُحتل إلى شريك في التنمية، والمُقاوِم إلى عبء على الاستقرار.

إنّ الدول التي تروّج لهذا النوع من التطبيع – مع انقياد بعض الشعوب المرهَقة اقتصاديًا – تُمارس انتحارًا بطيئًا لمعنى السيادة، إذ تصبح السيادة شكلًا بلا مضمون، وراية بلا عمق. فحين تُفرّغ الدولة مفهوم السيادة من وظيفته الأخلاقية والتاريخية، يصبح الوطن مجرّد مساحة قابلة للتداول.



(2) قطر: صعود إمارة ثقافية أم انزلاق إلى دبلوماسية توازن هش؟

تَتقدَّم قطر في هذا المشهد بصفتها حالة فريدة ومركّبة: دولة صغيرة ذات طموح كبير، تلعب في مساحة تفوق وزنها الجيوسياسي بمراحل. فهي تحتضن من جهة “الجزيرة”، إحدى أقوى أدوات التأثير الإعلامي في العالم العربي، وتدعم تيارات المقاومة والثقافة العربية الأصيلة، لكنها من جهة أخرى، تستضيف أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، وتحتفظ بعلاقات مفتوحة مع إسرائيل تحت مظلة “الاتصال غير الرسمي”.

هنا تتجلّى مفارقة عميقة: كيف يمكن لدولة أن تُروّج للوعي العربي الرافض للهيمنة من خلال أدواتها الإعلامية، ثم تُبقي على شبكة علاقات تحكمها معادلات القوة ذاتها التي تنتج تلك الهيمنة؟

ليست المشكلة في التوازن نفسه، بل في طبيعته الهشة والمحدودة بالوقت والسياق. فحين يتضخم الدور القطري دون أن يترافق مع مشروع ثقافي سيادي واضح، يصبح خطر التحول من صانع أحداث إلى وسيط مصالح قائمًا في كل لحظة. السؤال الجوهري الذي يواجه قطر اليوم: هل هي دولة توازن، أم دولة يتُوازَن بها؟ وهل تستطيع الحفاظ على شخصيتها السيادية دون أن تتحوّل إلى وظيفة إقليمية؟


(3) ما الذي يعنيه التطبيع فعلاً؟ جغرافيا الأخلاق لا تُقاس بالبوصلة

يريدنا الخطاب التطبيعي أن نختزل الوجود في الجغرافيا والسيادة في الخرائط. لكنه ينسى – أو يتناسى – أن فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل مِرآة للانكسار العربي الجمعي، وبوصلة للوعي السياسي والأخلاقي.

التطبيع لا يُختبر في نصوص المعاهدات، بل في تصدّع الضمير العام، وفي ميوعة الخطاب، وفي القبول البطيء للمسخ الوجداني باسم “السلام”. والأخطر أنه يعيد تشكيل “العدو” نفسه؛ فبدل أن يكون الاحتلال عدواً واضحًا، يتحوّل إلى “شريك استراتيجي”، بينما يصبح الرافض للمسخ هو “المتطرف”، أو “الرجعي”، أو “الراسب في امتحان الواقعية”.

الواقعية التي تُفصَّل على مقاس الكيان الغاصب ليست واقعية، بل موت بطيء للمبدأ. وليس صحيحًا أن الصراع مع إسرائيل يعيق التنمية؛ بل الصحيح أن الاستسلام هو الذي يعطل النهوض، لأنه يفرغ التنمية من كرامتها، ويحوّل المجتمعات إلى أدوات استهلاك بلا مشروع.


(4) عن السيادة كمشروع لا كشعار: دروس من الكيان نفسه

إن إسرائيل، بكل عدوانيتها، هي دولة مؤسسات تستثمر في وعي شعبها وتُجنّده لصالح “مشروع وجودي”. ورغم طابعها العنصري، إلا أنها لم تتخلَّ يومًا عن سرديتها المؤسِسة، ولا عن “خريطة المستقبل” التي تسعى إليها.

بينما في الجانب العربي، استُبدلت سرديات السيادة والمقاومة بـ”سرديات النجاة”، وبدلًا من بناء الدولة على قاعدة الحقوق والمشاركة، بُنِيَت على الخوف من الآخر والارتهان للخارج.

ولذلك لا يمكن لمن يُطبّع مع الاحتلال أن يُقنع شعبه لاحقًا أنه يبني دولة ذات سيادة، أو أنه يحترم دماء الشهداء، أو أنه يملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا.

السيادة ليست شعارًا على جواز السفر، بل هي إيمان عميق بمعنى الدولة كمشروع مشترك للمصير، وليست كمسرح محكوم بجهاز أمن أو استثمارات خليجية عابرة.


(5) ما العمل؟ مقاومة بلا كراهية، وموقف بلا مزايدة

ليس المطلوب أن تحارب الدول العربية إسرائيل بالسلاح، ولا أن تندفع إلى انتحار جماعي كما يتخيّل البعض، بل أن تبني قاعدتها الداخلية بوعي سيادي، وتعيد تعريف “التحالفات” انطلاقًا من مشروعها هي، لا من شروط الآخرين.
• المطلوب مقاومة بنّاءة: مقاومة تؤمن بحق الإنسان في الكرامة، لا بالكراهية كوقود للتضامن.
• المطلوب هو رفض خضوع الدولة لمنطق القوة، دون أن نسقط في فخ الهتاف المجرد أو الفصائلية العمياء.
• المطلوب أن تتحول المقاطعة الثقافية والاقتصادية والأكاديمية من فعل احتجاجي إلى مشروع سيادي، كما فعلت جنوب إفريقيا سابقًا.


(6) من “النكبة” إلى “النكبة الناعمة”

نحن لا نعيش فقط نكبة فلسطين، بل نكبة الذاكرة والسيادة والتاريخ المشترك. والعدو الحقيقي ليس فقط مَن يحتل الأرض، بل من يُبرمج العقل، ويُبدّد الحلم، ويمنح “حق الحياة” مقابل قبول الهزيمة.

ولهذا، فإن كل دولة عربية تطبّع، لا تطعن فلسطين وحدها، بل تسحب روحها هي من مفهوم الأمة، وتحوّل نفسها إلى موظف وظيفي في منظومة أمن إقليمي تديرها إسرائيل ويباركها الغرب.


خاتمة: نحو سردية جديدة للكرامة

لقد آن الأوان لتجاوز ثنائية: “مقاومة أو تطبيع”، “صمود أو تسوّل”. آن الأوان لصياغة سردية جديدة للكرامة والسيادة والتنمية، تقوم على:
• بناء دولة مواطنة حقيقية لا طائفية.
• إعادة تعريف مفهوم “التحالف” كفعل سيادي لا تبعي.
• الاستثمار في العقل والإبداع والمعرفة، لا فقط في النفط والسلاح.

إنّ البديل عن التطبيع ليس الحرب، بل المعنى. والمعنى لا يُصنَع بالخوف ولا بالأوامر، بل بالإيمان العميق بأنّ الأمم التي تفقد بوصلتها الأخلاقية، حتى لو عمرت ناطحات سحاب، فإنها تنقرض من الداخل.

فليكن هذا المشروع نداءً مفتوحًا لقطر، ولسواها من دول المنطقة: إما أن نصوغ قدرنا بكرامة، أو أن يُصاغ لنا، بمقاييس لم نصنعها، وبأصوات لا تشبهنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جرافات إسرائيلية تهدم عشرات المباني السكنية في مخيم طولكرم..


.. ترمب يعلق على تأسيس إيلون ماسك حزب سياسي أمريكي جديد




.. مشاهد لآثار الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال على منزل عائلة الج


.. الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات من عملياته بغزة




.. 3 شهداء وعدة مصابين في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة تقل مدني