الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من صفّين إلى كربلاء: جدلية الدهاء الأموي ومأساة الانقلاب على الخلافة.

كامل الدلفي

2025 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


يُلمْلم بالدّها شُعبة وسَهْمي
أُميّة يُفرهد بحقي وسهْمي
يَدريني جِلد وأصبر وسهْمي
يتحاشى الناس ترتد بين إيديه"
مقدمة
تُفتتح هذه المقاربة الشعرية السياسية باستدعاء كثيف لمأساة صفّين، تلك المعركة التي دارت رحاها سنة 37 للهجرة بين الإمام علي بن أبي طالب، الخليفة الشرعي للمسلمين، ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام المتمرد على الخلافة. استخدم جيش معاوية الحيلة والدهاء لرفع المصاحف على أسنّة الرماح، في محاولة لإيقاف اندفاع جيش الإمام علي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الانتصار، فكانت تلك الخدعة من أخطر المنعطفات في التاريخ الإسلامي المبكر.
"بالدها" هنا تشير إلى "الدهاء السياسي" الذي جسّده المغيرة بن شعبة، أحد أبرز رجالات التحايل في البلاط الأموي، فيما يشير "سهمي" إلى عمرو بن العاص السهمي، العقل المدبّر لمؤامرة التحكيم. أما "أميّة" فهي إشارة إلى معاوية نفسه، الذي استثمر في دهاء هؤلاء ليعيد تشكيل السلطة السياسية على نحو يتنافى مع مبادئ الإسلام النبوي والراشدي.
شكّلت معركة صفّين ثم مأساة كربلاء محطتين محوريتين في مسار الانقلاب على مبادئ الحكم الإسلامي التي أرساها النبي محمد (ص) وسار عليها الخلفاء الراشدون. لم تكن هذه الأحداث مجرد صراعات سياسية أو مواجهات عسكرية، بل مثلت في جوهرها صراعًا حادًا بين مشروع الدولة العادلة وبين منطق الملك القائم على الدهاء والوراثة والاستبداد.
دهاء التحالف الأموي في صفّين:
اندلعت معركة صفّين سنة 37 هـ بين جيش الخلافة بقيادة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ووالي الشام الخارج على الطاعة، معاوية بن أبي سفيان. وقد استعان معاوية، إلى جانبه السياسي والعسكري، بمنظومة دهاء مركبة، كان من أبرز أركانها: المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص السهمي.
لجأ هذا التحالف، بعد أن بدأت الهزيمة تلوح، إلى حيلة رفع المصاحف، في خطوة براغماتية تهدف إلى خلط الأوراق والاحتماء بقناع ديني ظاهري، وهي ما عُرفت في التاريخ بكلمة حق أُريد بها باطل. وكان لهذه الخدعة أثرٌ بالغ، إذ تراجع جيش الإمام علي عن الحسم العسكري، ورضخ لمطلب التحكيم، الذي سيُثبت لاحقًا أنه مجرد آلية لشرعنة الهزيمة وتحويل الخاسر إلى شريك في القرار.
نتائج التحكيم وتداعيات الانشقاق السياسي:
أفضى التحكيم إلى نتائج كارثية على وحدة الأمة والخلافة الإسلامية، منها:
1. خسائر بشرية فادحة: أكثر من 25 ألف شهيد من جيش الإمام مقابل 45 ألفًا من جيش معاوية، في حرب عبثية.
2. انفصال الشام عن المركز السياسي للخلافة، وظهور أول كيان سياسي متمرد ذي طابع سلطوي.
3. التمهيد لاغتيال الإمام علي (ع)، من خلال تشتيت قاعدته الشعبية وتصعيد حالة الرفض بين من تبنوا خطاب الخوارج.
4. اغتيال الإمام الحسن (ع) بالسم، عبر مؤامرة مشتركة شاركت فيها زوجته جعدة بنت الأشعث، بإيعاز من معاوية. بعد أن داس معاوية مبادئ الصلح المعقود بينه وبين الإمام الحسن الذي يقر انتقال الخلافة الي الحسن بعد موت معاوية.
5. الانقلاب على الشورى الإسلامية: إذ حول معاوية نظام الحكم إلى ملك عضوض، وجعل السلطة وراثية في ذريته.
6. فرض بيعة يزيد، وهو شاب طائش لا يتمتع بمقومات شرعية أو أخلاقية، ما دفع الإمام الحسين إلى رفض البيعة، قائلاً ببلاغة ثورية: "من مثلي لا يبايع مثله."
الإعلام الأموي وتشويه ثورة الحسين
لم يكتف النظام الأموي بالهيمنة السياسية والعسكرية، بل أسّس لمنظومة إعلامية دعائية، سعت إلى تشويه الدوافع الحقيقية لثورة الحسين (ع). فقد صوّرت خروجه إلى العراق على أنه تمرد سياسي أو رغبة في الحكم، متجاهلة عمق المشروع الإصلاحي الذي حمله.
ويُروّج بعض المؤرخين التابعين للسلطة – حتى اليوم – عبارات مثل: "سيدنا يزيد قتل سيدنا الحسين"! في تماهٍ فجّ مع منطق التبرير السياسي للمذبحة. لكن الواقع أن الحسين (ع) واجه مشروعًا متماديًا في تصفية الإسلام من روحه الرسالية، وانقلابًا سافرًا على منظومة العدل والمساواة والشورى.
مقدمات الانهيار من مقتل عمر إلى قتل عثمان
لا يمكن فهم كربلاء دون تفكيك المقدمات البنيوية للانهيار السياسي الإسلامي، ومن أبرزها:
مقتل الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة، في ظروف غامضة، على يد أبي لؤلؤة، رغم وجوده تحت كفالة المغيرة بن شعبة، المعروف بصلاته الوثيقة ببني أمية.
موقف ولاة بني أمية من حصار عثمان بن عفّان، إذ تقاعسوا عن جدته وهو ابن عمهم ، لغايات سياسية، ثم تذرعوا بدمه لإشعال حرب الجمل وصفّين، وتحقيق مكاسب سياسية ضد الإمام علي.
لقد كانت كل تلك الأحداث مقدمات مبرمجة لإجهاض الخلافة الراشدة، وتسليم زمام الأمور إلى "الطلقاء"، أي أولئك الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة دون اقتناع، ثم عادوا ليمسكوا مفاصل الدولة.
كربلاء: لحظة استشهاد وولادة
في ظل هذا الانقلاب العميق، جاءت كربلاء لتكون لحظة الحقيقة. رفض الحسين (ع) مبايعة يزيد، فكانت النتيجة أن قُتل هو وأهل بيته وأصحابه، في مأساة دامية لا تمثل فقط جريمة سياسية، بل جريمة حضارية ضد القيم الإسلامية والإنسانية.
لقد شكلت كربلاء ثلمة في ضمير الأمة، وتحوّلت إلى حدث رمزي يتجدد كل عام، يجدد الوعي بالمظلومية، ويرسم ملامح المقاومة، ويؤسس لفهم نقدي لمسار التاريخ الإسلامي السياسي.
خاتمة
من صفّين إلى كربلاء، يُمكن تتبّع خريطة الانحراف السياسي عن نهج النبوة والخلافة الراشدة. لم تكن المشكلة في شخص معاوية أو يزيد فحسب، بل في تحوّل الدولة من رسالة إلى سلطة، ومن خلافة إلى ملك، ومن الشورى إلى الوراثة.
وإذا كان الإمام علي (ع) قد واجه الخداع السياسي بجلد المؤمن، فإن الحسين (ع) واجهه بدم الشهيد، لتبقى رسالته حيّة: إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يؤكد رغبة حماس في هدنة بغزة ويعلن إرسال أسلحة دفاعية ل


.. لبنان: المبعوث الأمريكي يعرب عن رضاه بخصوص رد بيروت على مطلب




.. الولايات المتحدة تلغي تصنيف -هيئة تحرير الشام- منظمة إرهابية


.. مُسيرة إسرائيلية تقصف مركبة في بلدة دير كيفا اللبنانية




.. الرئيس الإيراني يدعو واشنطن لتجنب أجندة نتنياهو