الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسانية ليست دينًا، بل رتبة يصل إليها بعض البشر”

مشتاق الربيعي
Mushtaq alrubaie

2025 / 7 / 26
قضايا ثقافية


قال سقراط ذات يوم: “الإنسانية ليست دينًا، بل رتبة يصل إليها بعض البشر”، وكم كان صادقًا في قوله. لأننا حين نتمعن في واقع البشر، سنجد أن الإنسانية ليست صفة فطرية يولد بها الإنسان تلقائيًا، بل هي نتيجة وعي متراكم، ونضج داخلي، وتجارب تصقل الروح وتسمو بها.

الدين، كمنظومة، قد يُورَّث بالميلاد أو البيئة، لكنه لا يضمن بالضرورة بلوغ الإنسان مرتبة الرحمة، أو الإحساس العميق بالآخر. أما الإنسانية، فهي خيار. قرار متكرر يُؤخذ في كل موقف، في كل لحظة نُمنح فيها فرصة أن نكون أرحم، أصدق، ألطف.

أن يكون الإنسان إنسانيًا يعني أن يرى الألم في عيون الآخرين وكأنه ألمه. أن يتحرك قلبه قبل يده. أن يشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه كل كائن حي، لا يفرّق بين غني وفقير، قريب وغريب، بشر أو حيوان. الإنسانية هي فعل الحبّ الذي لا يُقاس، ولا يُنتظر عليه مقابل.

درجات في سلّم الإنسانية

أول درجات الإنسانية حين يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. هذه قاعدة ذهبية بسيطة لكنها عميقة، تختصر في معناها كل الشرائع والكتب. فمن استطاع أن يكف أذاه، ويقدم الخير بقدر ما يتمنى أن يُقدَّم له، فقد خطا خطوة أولى في عالم الإنسانية.

أما إن تجاوز الإنسان هذه الدرجة، فبدأ يشعر بالأرواح البريئة من حوله – سواء كانت أطفالاً، شيوخًا، حيوانات، أو حتى أشجارًا تُقطع بغير رحمة – فإنه يبلغ درجة أرقى. هذه المرحلة لا يبلغها إلا من كانت له عينان لا ترى العالم فقط، بل تراه من زاوية “الضعفاء”. من يقف إلى جانب أولئك الذين لا صوت لهم، ويكون صوتهم.

كم من البشر يعيشون بيننا، يحملون صفات الإنسان شكلاً، لكنهم خاوون من الإنسانية مضمونًا؟
وكم من آخرين، لا يتحدثون كثيرًا، لكنك تشعر بإنسانيتهم في كل تصرف، في كل ابتسامة، في كل لمسة دعم؟

الإنسانية الحقيقية لا تُعلَّق على الجدران كشهادات، ولا تُزيَّن بها السِيَر الذاتية، بل تظهر في التفاصيل الصغيرة: في احترام عامل النظافة، في حماية قطة من الطريق، في الكلمة الطيبة التي تُقال لمن لا ينتظرها، في الصبر على أخطاء الآخرين، وفي القدرة على المغفرة رغم الألم.

الدين والإنسانية… هل يتعارضان؟

قد يسأل البعض: وهل الدين يتناقض مع الإنسانية؟
الإجابة ببساطة: لا. الدين الحق في جوهره يدعو للإنسانية، بل يُفترض أن يكون طريقًا موصلًا إليها. ولكن حين يتحول الدين إلى طقوس خاوية من الروح، يُمارَس كعادة لا كموقف، ويُستخدم كأداة للحكم على الآخرين لا لخدمتهم، فإنه قد يبتعد عن هدفه الأسمى.

لقد رأينا عبر التاريخ، وفي حاضرنا، أناسًا يرتكبون أقسى الجرائم باسم الدين، وأناسًا لا يتبعون دينًا، لكنهم يمشون على الأرض بقلوب من نور.

وهنا تتجلى الحكمة: الدين قد يعلّمك الطريق، لكن الإنسانية هي أن تمشيه دون أن تؤذي أحدًا في طريقك.

الإنسانية كمسؤولية جماعية

لا يمكن أن تُختزل الإنسانية في تصرف فردي فقط، بل هي مسؤولية جماعية. في الأسرة، تبدأ عندما نعلّم أبناءنا كيف يكونون لطفاء لا أقوياء فقط. في المدارس، عندما نربّي جيلاً يرى في الاختلاف جمالًا لا تهديدًا. في الشوارع، عندما نمنح الطريق لغيرنا ونحترم النظام. في الإعلام، عندما نعرض الحقيقة دون تحريض أو تضليل. وفي السياسات، عندما تُبنى القرارات على الكرامة لا المصلحة فقط.

المجتمع الذي تغيب عنه القيم الإنسانية، حتى لو كان غنيًا، هو مجتمع هش، لأن قوته الظاهرة تخفي هشاشة داخلية من الأنانية واللامبالاة.

الإنسانية، في معناها الأعمق، ليست أمرًا يُفرض من الخارج، بل إحساس ينبع من الداخل. هي اختيار نمارسه، لا هوية نحملها. و”الرتبة” التي أشار إليها سقراط لا تُمنح بالوراثة، بل تُكتسب بالمواقف.

فاسعَ أن تكون إنسانًا، لا فقط بشكلك، بل بأفعالك.
ازرع الرحمة حيث تمر، وكن نورًا خفيفًا في حياة الآخرين،
فلعل أثرك، مهما كان بسيطًا، يُعيد إنسانيةً فُقدت، أو يُوقظ ضميرًا نام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا يريد العراقيون من الحكومة القادمة؟


.. عاجل| مصادر في الكونغرس: التوصل لاتفاق في مجلس الشيوخ لتمويل




.. 1.3 مليون أمني و26 ألف نازح ينتخبون بالعراق


.. الفلبين تجلي ا?كثر من 100 ا?لف شخص بسبب الإعصار




.. العاشرة | خلاف مع بوتين؟.. اختفاء لافروف الغامض يثير التكهنا