الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
من الفلاح إلى المتقاعد: استدعاء الفئات الشعبية قبل الاقتراع وغيابهم بعده
عامر عبد رسن
2025 / 8 / 14الادارة و الاقتصاد
رغم أن اللقاءات الدورية بين مرشحي أنتخابات مجلس النواب القادمة ورجال الأعمال أصبحت تقليدًا مألوفًا، إلا أن ما يثير الانتباه هو أن اللقاءات التي تُعقد مؤخرًا من هؤلاء المرشحين مع بعض الفئات الاجتماعية المنتجة، كالفلاحين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتقاعدين والمعلمين، وتبدو مشروطة بزمن الانتخابات، وتُعقد في إطار استرضائي أكثر منه تنموي. فغياب حوارات مؤسسية دائمة مع هذه الشرائح يكشف عن خلل تمثيلي بنيوي في صناعة القرار الاقتصادي، ويحوّل الاهتمام بهم إلى أداة انتخابية ظرفية بدل أن يكون جزءًا من سياسة اقتصادية عادلة ومستقرة.
لقد أسهم الإصرار الممنهج لتحالف رجال السياسة والأعمال على ترسيخ صورة الدولة كـ"رجل أعمال فاشل" – وفقًا لتوصيف رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي – في إفراغ الدولة من دورها التنموي وتحويلها إلى وسيط ريع عقاري، يمنح الامتيازات للأقوياء ويقصي المهمّشين.
فبدلاً من أن تكون الدولة حَكَمًا في السوق ومحرّكًا للعدالة الاجتماعية، تحوّلت إلى موزّع انتقائي للفرص، تُصادر أدواتها الإنتاجية وتُفرّغ سياساتها من مضمونها التنموي.
إن هذا التواطؤ البنيوي لا يجهض فقط قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد، بل يُكرّس اقتصاد التمييز والتفاوت، حيث تُمنح الأراضي والامتيازات لمستثمرين نافذين، وتُترك الضواحي، والمناطق الزراعية، ومشاريع الإسكان الشعبي فريسة للإهمال والتدهور.
خطر هذا المسار لا يكمن في عجز الدولة عن التنافس مع القطاع الخاص، بل في انسحابها الكامل من أدوارها السيادية في التخطيط، والعدالة، وتوزيع الثروة، مما يهدد بتعميق الفجوة الطبقية وحرمان شرائح واسعة من فرص النهوض.
وتُظهر تجربة السنوات الماضية أن هذا المسار لم يكن عشوائيًا، بل هو نتاج رؤية ضيقة ترى في الدولة مجرد موزّع للامتيازات وليس محرّكًا للنهضة. فعلى سبيل المثال، وفي تقرير صدر عن البنك الدولي عام 2023 حول الإنفاق العام في العراق، تم توثيق اختلال حاد في توزيع المشاريع التنموية، حيث استأثرت مناطق محددة بنسبة 73% من مجمل الإنفاق الاستثماري، بينما لم تحصل مناطق الأطراف والمناطق الريفية على أكثر من 8% من تلك التخصيصات، وهو ما عمّق من التفاوت التنموي وشعور الإقصاء الاجتماعي.
ولا تقف خطورة هذا التوجّه عند البعد الاقتصادي فقط، بل تتعداه إلى الجانب السياسي والاجتماعي؛ إذ إن حرمان قطاعات واسعة من السكان من حقوقها في التنمية والسكن والعمل والتعليم والرعاية، يدفع نحو مزيد من الاغتراب الاجتماعي، ويُضعف من شرعية النظام السياسي.
وفي ظل هذه المعادلة المختلّة، تُستخدم السياسات الاقتصادية – خصوصًا في مرحلة ما قبل الانتخابات – كأدوات دعائية تُوزّع من خلالها المكاسب على أساس الولاء، لا على أساس الاستحقاق أو الحاجة. وتشير تقارير مراقبة الأداء الحكومي في الربع الثاني من عام 2025 إلى تزايد إطلاق برامج دعم مبهمة تحت عناوين "تحفيز الفلاحين" و"تمكين الشباب" و"دعم المشاريع الصغيرة" دون إطار مؤسسي واضح أو معايير شفافة، ما يعزّز الشكوك في استخدامها لأغراض انتخابية أكثر منها تنموية.
إن الاقتصاد العراقي، في ظل هذه الظروف، قد ينحدر الى أن يدار من منطلقات السياسات الاقتصادية العامة، أو يصبح خاضعًا لمنطق السوق السياسي، حيث تُمنح التراخيص، وتُوزع الأراضي، وتُقر القوانين، وفقًا لمصالح النخب السياسية–الاقتصادية.
والأخطر من ذلك، أن هذا التحالف الحاكم اذا تحقق وجوده فعلا قد لا يكتفي بإضعاف الدولة كمستثمر أو قائد للأستثمار، بل يُفرغ مؤسساتها من القدرة على التنظيم والرقابة. فعلى سبيل المثال، تُهمل مؤسسات الرقابة المالية، وتُكبّل أجهزة التفتيش، وتُغيّب البيانات الرسمية الدقيقة، لصالح ترك السوق في حالة من الفوضى المحمية سياسيًا.
ولعل أبرز تجلٍ لهذا المسار هو قطاع الإسكان، الذي تحوّلت فيه الدولة من منتج مباشر إلى سمسار أراضٍ، تمنح الامتيازات لشركات بناء خاصة، غالبًا ما تكون مرتبطة سياسياً، في حين تُهمّش مشاريع الإسكان الاقتصادي، ويُترك المواطن العادي فريسة لأسعار السوق المحتكرة.
إن خطورة هذا الواقع لا تكمن فقط في التفاوت الاقتصادي الذي يخلقه، بل في تثبيت بنية اقتصادية–سياسية لا تُنتج تنمية، بل تُنتج تبعية مستدامة للفئات الفقيرة والهشة.
ولمواجهة هذا التدهور، لا بد من إعادة تعريف دور الدولة الاقتصادي، واستعادة موقعها كفاعل تنموي، عبر سياسات تخطيطية تستند إلى العدالة والمساءلة والمشاركة المجتمعية.
كما ينبغي للطبقة السياسية أن تعي أن استثمارها المؤقت في الفئات الشعبية قبيل الانتخابات، مهما بدا مربحًا على المدى القصير، لا يعوّض عن غياب استراتيجية وطنية شاملة للتنمية.
فسياسات الزبائنية والريعية التي راكمت الحرمان واللامساواة، تُنذر اليوم ليس فقط بتآكل نظرية النظام الاقتصادية، بل باحتمال انفجار اجتماعي قادم.
وإذا استمرت النخب الحاكمة في تجاهل هذا التآكل، فقد تستفيق على أحد مشهدين لا ثالث لهما: إما عزوف جماهيري واسع عن العملية الانتخابية، يقاطع فيه المواطنون صناديق الاقتراع احتجاجًا على تكرار الإقصاء؛ أو اندلاع ما يمكن أن يُسمى بـ"ثورة الجياع"، تفرض نفسها بوصفها فعلًا جماهيريًا مضادًا لاضطراب توزيع الموارد، ولتجريد الدولة من وظيفتها التنموية.
فهل تستدرك الدولة هذا المسار الخطر، وتعيد تموضعها كقائد تنموي عادل؟
أم ستبقى رهينة منطق المكاتب الاقتصادية و"المقاولين السياسيين" حتى لحظة الانفجار؟
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الخزانة الأميركية تعلن تعليق عقوبات -قيصر-.. خطوة مهمة لبدء
.. الخزانة الأميركية: تعليق عقوبات قانون قيصر المفروضة على سوري
.. هل يمكن أن تكون الانتخابات العراقية مدخلًا لتغيير اقتصادي؟
.. ملفات سياسية واقتصادية على أجندة زيارة الشرع للبيت الأبيض
.. الخزانة الأميركية: تعليق عقوبات قيصر المفروضة على سوريا