الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الممارسات التقليدية إلى الثورة المالية: إصلاح القطاع المصرفي العراقي وتحويل الاكتناز إلى استثمار منتج

عامر عبد رسن

2025 / 8 / 16
الادارة و الاقتصاد


يمثل القطاع المصرفي العراقي واحدًا من أكثر الملفات الاقتصادية حساسية وتعقيدًا، إذ يتقاطع مع الاستقرار المالي للدولة، وثقة المواطن بالنظام الاقتصادي، وعلاقات العراق بالأسواق الدولية. وبرغم امتلاك العراق أصولًا مصرفية ضخمة –
خصوصًا في المصارف الحكومية مثل الرافدين والرشيد – إلا أن هذه الأصول بقيت عقودًا طويلة أسيرة أنماط إدارية تقليدية، وعُرضة لدوائر مصالح نافذة عطّلت إمكاناتها في أن تتحول إلى مؤسسات مالية ناجحة تساهم بفعالية في تمويل التنمية.
مشهد متناقض: قوة شكلية وعجز وظيفي : منذ عام 2003، اتسم المشهد المصرفي بخلل بنيوي واضح:
• مصارف حكومية كبيرة تتمتع برؤوس أموال وأصول ضخمة لكنها عاجزة عن استثمارها بكفاءة.
• مصارف أهلية صغيرة ومتوسطة محدودة القدرة وتعاني ضعف الحوكمة، ما جعلها أقرب إلى واجهات مالية لبعض المتنفذين.
• فجوة ثقة متزايدة بين الجمهور والمصارف نتيجة ضعف الشفافية والامتثال للمعايير الدولية.
هذا التناقض جعل القطاع المصرفي بعيدًا عن لعب دوره الطبيعي كوسيط مالي يسحب المدخرات ويوجهها نحو الاستثمار المنتج، بل تحول في حالات كثيرة إلى عبء على الدولة بدلاً من أن يكون رافعة لها.
حجم الاكتناز.. ثروة نائمة خارج النظام المالي : من أخطر ما يعكس ضعف الثقة بالمصارف هو حجم المال المكتنز خارج النظام المصرفي. تشير التقديرات إلى أن العراقيين يحتفظون في بيوتهم بخزائنهم الخاصة بأكثر من 82 تريليون دينار عراقي نقدًا،
إضافة إلى ما يقارب 40 مليار دولار أمريكي، فضلًا عن مدخرات ضخمة بالذهب والمجوهرات تقدّر بما يقارب هذا الرقم أو يفوقه.
هذا الواقع يعني أن العراق يمتلك كتلة مالية هائلة معطلة خارج الدورة الاقتصادية الرسمية. ولو جرى استقطاب جزء من هذه الأموال إلى النظام المصرفي عبر سياسات مبتكرة، لأمكن تمويل مئات المشاريع الاستثمارية
وتوفير سيولة هائلة لدعم التنمية بعيدًا عن الاعتماد المفرط على النفط.
الإصلاح كهدف حكومي للمرحلة المقبلة : إن تحويل الاكتناز إلى استثمار منتج يتطلب إصلاحًا جذريًا في بنية المصارف الحكومية أولًا، كونها تمثل القناة الأكبر والأقدر على استيعاب المدخرات.
وهنا يبرز التحدي المركزي أمام صانع القرار: كيف نحول المصارف الحكومية من كيانات مثقلة بالترهل والفساد إلى نماذج مالية ناجحة يمكن طرحها لاحقًا للاكتتاب العام؟
إن نجاح هذه الخطوة سيحقق هدفين متكاملين:
1. بناء الثقة الشعبية من خلال إشراك المواطنين في ملكية المصارف وإقناعهم بأن مدخراتهم تتحول إلى استثمارات آمنة ومنتجة.
2. امتصاص السيولة المكتنزة وتحويلها إلى قوة دفع للاقتصاد الوطني، بدل بقائها مجمدة أو معرضة للمضاربة في السوق غير المنظم.
ملامح مقترح إصلاحي : يمكن رسم ملامح مقترح إصلاحي متكامل على النحو الآتي:
1. إعادة هيكلة المصارف الحكومية
o إخضاعها لتدقيق مالي وإداري شفاف.
o فصل الأنشطة التجارية عن الأنشطة التنموية لضمان التخصص والكفاءة.
o تطبيق أنظمة حوكمة صارمة تحد من نفوذ "مافيات" المصالح داخل إداراتها.
2. تحويل تدريجي إلى شركات مساهمة عامة
o البدء بمراحل تجريبية عبر إدخال القطاع الخاص والمواطنين كمساهمين بنسبة معينة.
o طرح جزء من أسهم المصارف الكبرى مثل الرافدين والرشيد للاكتتاب العام تحت إشراف حكومي صارم.
3. تشجيع الشمول المالي
o إدخال منتجات مصرفية مبتكرة تستهدف الأفراد ذوي الدخل المحدود والمتوسط.
o تعزيز الانتشار الجغرافي والفروع الإلكترونية لزيادة الوصول إلى الشرائح غير المتعاملة مع البنوك.
4. التحول الرقمي الكامل
o تحديث أنظمة الدفع والتحويل الإلكتروني.
o ربط المحافظ الرقمية والمنصات المصرفية الحديثة بخدمات مباشرة وسريعة للمواطنين.
5. ربط الإصلاح المصرفي بالإصلاح الاقتصادي الأشمل
o تفعيل سوق السندات وأدوات الدين الداخلي لتوفير بدائل استثمارية.
o استخدام جزء من الأموال المستقطبة لتمويل مشاريع البنية التحتية والصناعات التحويلية.
معادلة الثقة: الشرط الحاسم : من دون استعادة ثقة المواطن بالنظام المصرفي، ستظل كل الخطط حبرًا على ورق. الثقة تُبنى عبر:
• ضمان أمني وقانوني حقيقي للودائع.
• شفافية في نشر التقارير المالية الدورية.
• مكافحة جادة للفساد ومحاسبة علنية للإدارات المتورطة بالهدر أو سوء الإدارة.
نحو دور جديد للقطاع المصرفي : إذا ما تحققت هذه الإصلاحات، فإن القطاع المصرفي سيغدو محركًا أساسيًا في مسيرة التنمية الوطنية. بل إن تحويل الأموال المكتنزة إلى استثمار منظم قد يمثل نقطة التحول الكبرى في الاقتصاد العراقي،
إذ سيُعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة عبر أداة الثقة المالية، ويمنح العراق فرصة للانطلاق نحو اقتصاد أكثر توازنًا وتنوعًا.
الخاتمة: التحدي والفرصة : يقف العراق اليوم أمام مفترق طرق: فإما أن يبقى قطاعه المصرفي أسير أزماته الداخلية وهيمنة دوائر المصالح والفساد، أو أن يتحول إلى قاطرة للنهوض عبر إصلاح جريء يعيد هيكلة المصارف الحكومية،
ويفتح الباب أمام مشاركة المواطن في ملكيتها وتمويلها. إن سحب الأموال من الخزائن المنزلية وتحويلها إلى استثمار في المصارف الحكومية المطورة والمكتتبة، ليس مجرد خيار اقتصادي، بل خيار استراتيجي لبناء الثقة الوطنية
وتمويل التنمية بعيدًا عن الريع النفطي. وإذا ما أحسنت الحكومة إدارة هذا الملف، فقد يشهد العراق خلال العقد المقبل نهضة مصرفية حقيقية تضعه على طريق الاستقرار المالي والنمو المستدام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سعر الذهب اليوم السبت 8-11-2025 بالصاغة


.. تحقيق لـ-سي إن إن-: صور بالأقمار الصناعية تكشف عن -توسع كبير




.. الفرعون الجديد .. أبن الأقصر الذي أعاد إنتاج نحت الفراعنة


.. المفاوضات بين دمشق وقسد تواجه تحديات جديدة حول الموارد الاقت




.. موريتانيا تقنن التنقيب عن الذهب لتطويره ومنع الحوادث على الح