الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
المثقف اليتيم
مصطفى النبيه
2025 / 8 / 22الادب والفن
ذاكرة غزة الثقافية بين الركام والنجاة
في غزة، حيث يختلط الركام برائحة الموت، تظلّ الذاكرة الثقافية وحدها شاهدة على زمنٍ آخر؛ زمنٍ كان فيه المقهى ملتقى للشعراء، واللوحة نافذة للأمل، والكلمة فعل مقاومة. ومع تصاعد الخذلان واليُتم الثقافي، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى نماذج تُثبت أن الثقافة ليست ترفًا، بل جسرٌ للبقاء.
غزة اليوم تكبر في وجعها ، تلملم ما تبقّى من جسدها المثخن بالحرب، لكنها تظل تبحث في ذاكرتها عن صورٍ تمنحها الدفء والمعنى. حيّ الرمال، الذي تحوّل إلى ركام، لم يكن حيًا سكنيًا عابرًا، بل فضاءً ثقافيًا نابضًا بالحياة. هناك شهدنا في التسعينيات وبداية الألفية لقاءات وأمسيات وفعاليات تركت أثرًا عميقًا في الوعي الجمعي.
وعلى مقربة من أنقاضه، تستعيد الذاكرة مقهى الكروان؛ ذلك المقهى الشعبي الذي كان أحد أبرز أماكن اللقاء الثقافي في غزة. بين جدرانه تعالت ضحكات الشعراء والفنانين، أقيمت معارض تشكيلية، وترددت نقاشات طويلة حول الرواية الفلسطينية، قبل أوسلو وما بعدها. كانت تلك اللحظات تشكّل فسيفساء حيّة من الإبداع والجدل الثقافي امتدت من عام 1995 حتى 2025، كخيط يربط الماضي المبهج والحاضر المرعب . لكن كل هذا البهاء تلاشى تحت أنقاض الحرب، وباتت المدينة أشبه بجسدٍ مثخن، بينما تقاوم الذاكرة وحدها، شاهدة على زمنٍ كانت فيه الكلمة واللوحة والضحكة أقوى من الركام.
ومع تغيّر الزمن وتحوّل النفوس، وجد المثقف نفسه في عزلة قاسية، كأنه يتيم بلا سند. كثيرون ممّن تصدّروا المشهد الثقافي تبيّن أنهم مجرد فقاعات، غابوا حين اشتدّت أوزار الحرب، وبخلوا حتى بكلمة تضامن أو اتصال. ولعل رسالة الروائي عبد الله تايه – الأمين العام المساعد لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين – لزملائه، تلخص هذا الشعور المرير:
"على المثقف أن يشعر بزملائه وألا يتنكر لهم ويخذلهم، فالإنسان موقف. أما آن لنا أن نتساءل أين دعمكم لزملائكم وأصدقائكم المادي والمعنوي؟ هناك سؤال خجول يبرز في الواجهة: هل كتاب غزة الذين قصفت بيوتهم ومكتباتهم وأولادهم وتشردوا إلى نزوحات عديدة من مكان إلى مكان مرات ومرات، ويعيشون في هذا الجو الخانق في خيام مع أطفالهم وليس لهم – في ظل هذا الغلاء الفاحش – من دخل يشترون به أقل القليل ليسد جوع عائلاتهم، أما آن لنا أن نتساءل أين دعمكم لزملائكم وأصدقائكم المادي والمعنوي؟ إنني أجزم بأن معظمكم لم يكلفوا أنفسهم مجرد رفع سماعة للاطمئنان، وأكثر من ذلك لم أسمع أن أحدًا منكم بادر إلى إرسال معونة مالية لكاتب في غزة. نأمل السلامة والحفظ للجميع."
هذه الكلمات ليست مجرد عتاب، بل صرخة تضع المثقف أمام مرآته: الثقافة موقف قبل أن تكون إنتاجًا.
ورغم هذا الفراغ، أثبتت بعض التجارب أن الثقافة يمكن أن تبقى حيّة إذا توفرت الإرادة. هكذا بدا الوزير والروائي الدكتور عاطف أبو سيف في لحظات قاسية كالفراشة التي تحلّق بين المثقفين والفعاليات، لا كوزيرٍ سجنه منصبه. لقد أعطى للمثقف شعورًا بوجود "أبٍ شرعي" في زمن يضاعف الإحساس باليُتم الثقافي.
لم يستعبده الكرسي، ولم يتحوّل إلى موظف في برج عاجي، بل ظلّ إنسانًا قريبًا من الجميع. أتذكر أنه بعد أيام قليلة من تعيينه وزيرًا، اتصل بي في السادسة صباحًا يسأل عن النصوص الأدبية والمشاريع المسرحية. كان ذلك مشهدًا استثنائيًا، يبرهن أن المنصب يمكن أن يكون وسيلة للبناء لا جدارًا للفصل.
في زمنه شهدت غزة حراكًا ثقافيًا ملموسًا: دعوات للمشاركة في معارض الكتاب، دعم للفنانين والكتّاب غير الموظفين عبر منح مالية تساعدهم على الاستمرار في الإبداع، ورعاية لمعارض الفن التشكيلي والأعمال المسرحية. حتى في بدايات الحرب، سعى إلى نشر كتب جديدة، وجمع المبدعين لتوثيق جرائم النزوح، ليحوّل الفعل الثقافي إلى جزء من معركة البقاء.
لقد أثبتت تلك المبادرات أن الثقافة، حين تُدار بروح المسؤولية، تتحوّل إلى فعل مقاومة ومجال للبقاء، لا إلى ترفٍ يُؤجَّل.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تحتاج غزة إلى استعادة هذا الدور. الثقافة ليست زينة للمدن ولا ترفًا يُقدَّم في أوقات الرخاء؛ إنها درع في وجه العدم. فالمثقف بلا سند يظل يتيمًا، والمدينة بلا فضاء ثقافي تتحوّل إلى جثة صامتة. وما بين الركام والذاكرة، تبقى الكلمة واللوحة والضحكة شهادة على أن غزة لم تُهزم، ولن تُهزم، ما دام في هذا العالم من يؤمن أن الثقافة فعل بناء جماعي ومسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنة أو لقبًا.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ابطال فيلم بنات الباشا يحتفلون بعرضه علي السجادة الحمراء في
.. المخرج على سعيد واجهنا تحديات كبيرة فى فيلم ضد السينما
.. المخرج تامر العشري: سعيد بمشاركة عدد كبير من الأفلام المصرية
.. ركين سعد: بحب حضور المهرجانات لأنها بتعلّمني وبتديني فرصة أش
.. المخرج علي سعيد: واجهنا تحديات كبيرة في فيلم -ضد السينما-