الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تتساقط أرواحنا مع تساقط بيوتنا
مصطفى النبيه
2025 / 8 / 27الادب والفن
كل شيء في غزة يصرخ بالقلق والخوف. نحاول طمأنة أنفسنا بأن القادم سيكون أجمل، لكن وجع البطن يذكّرنا دومًا بالواقع حين نشاهد العائلات تهرب نحو الجنوب، تجرّ أحلامها الممزقة خلفها، وتترك وراءها أطلال بيوتها التي كانت تضحك معها وتتنفس معها. نُوهم أنفسنا بوجود وقت، حتى تقترب الروبوتات من بيوتنا وتدمرها بلا رحمة، وكأنها تريد أن تمحو أثر الحياة نفسها.
ما زالت الحرب تأكل بيوتنا بوحشية، وكأن الحجارة نفسها لعنة تطارد الاحتلال. نحب بيوتنا كما نحب الحياة؛ نبكي عندما يتصدع حجر أو يصبه خدش من تعرية الزمان. كبر البيت كما كبر صغارنا، شاهدناه يخطو خطواته الأولى، يرفع رأسه، يبتسم لنا ويهمس: "أنا أحبكم". واليوم، تتساقط أرواحنا مع بيوتنا كأوراق الشجر.
كيف سيشعر من يشاهد بيتًا يُقصف ويمحى من الوجود بما نشعر به نحن؟ هل يستطيع أن يفهم معنى الحنين والخوف والوجع الذي يلتهمنا؟ لن يستطيع أي مخلوق مهما كان أن يشعر بحزن إنسان فقد بيته وأصبح عاريًا في الشارع. عشرات الأصدقاء فقدوا بيوتهم، ولم يستطع أحد منهم كبح دموعه ونحيبه. إنها الروح، يا الله، تنتزع منا بأكثر من طريقة، نموت يوميًا وبدون مقدمات
اليوم، حاولت أن أغير طريقي، أسير في شارع الجلاء لأوثق ما يحدث. الشوارع مكتظة بالخيام، والوجوه شاحبة ومحايدة، كأن الموت والحياة أصبحا شيئًا عاديًا، وكأن الناس ينتظرون المجهول بصمت على أرصفة المدينة، دون صراخ، دون دموع، وكأن العالم توقف عن الإحساس.
في الطريق وصلني خبر صادم: بيت صديقي المخرج أيمن السويسي دُمّر بالكامل، وتساوى بالأرض. غصت روحي بالمرارة، فحملت هاتفي واتصلت به، كأن روتين الاتصال اليومي قادر على تهدئة قلبه، أو على الأقل أن يحمل بعض المواساة في هذه العتمة الموحشة.
أيمن ما زال يغرق في وجعه بعد أن أصيب ابنه ساهر بالشلل إثر رصاصة طائشة أصابت رأسه. ساهر، المبتسم الذي تزوج قبل الحرب بأشهر، كان يحلم بالأمان والأطفال والحياة الجميلة العائلية الهادئة. نزح أيمن وعائلته في نوفمبر 2023، وكان هدفه الوحيد حماية أبنائه من غول لا يرحم، يغتال المخلوقات والجماد بلا هوادة.
عشنا معه النزوح والخيام والجوع والأمراض، عشنا المرارة والإذلال ونحن نطارد رغيف خبز هارب، فقط لنستمر على قيد الحياة. حاول أيمن التكيف، وأقام حياة جديدة في الزوايدة، اشترى لابنه أدوات التزيين، وبحث عن كرسي، وبدأ ساهر يمارس عمله وسط خيمة صغيرة. لكن القدر لم يرحمهم؛ دب صراع بين عائلتين متناحرتين، وأصيب ساهر في ديسمبر 2024، برصاصة طائشة وهو يمارس عمله، ليبدأ رحلة طويلة من العلاج والألم والأمل المتذبذب.
عادوا إلى غزة، لكن الإمكانيات كانت محدودة بعد أن دُمّر كل شيء من حولهم. لم يستطع أيمن متابعة العلاج في الخارج، ورغم كل ذلك حاول، مستكملاً العلاج محليًا، يزرع الأمل بين الألم واليأس. قبل أسبوع من مغادرة منطقة الصبرة وتدميرها، قال لي: جلسنا عند أحد الأقارب على أمل العودة إلى بيتنا، لكن قصف الحي فجّر آمالنا، وجعلنا مشردين بلا مأوى، نحمل الحزن على ظهورنا ونبحث عن شظايا الأمان وسط الركام والظلام.
اليوم، يحمل أيمن ابنه المريض بين ذراعيه، ويتنقل من مكان إلى آخر، وأخيرًا قرر التوجه نحو الجنوب، ليبحث عن مأوى آمن، ويحاول أن يتنفس وسط عتمة الحياة التي ضاقت بكل ما فيها. ومع ذلك، يبقى قلبه متمسكًا بالأمل، بأمل غدٍ أقل دمًا، وأقل وجعًا، وأقل فقدًا لما أحببنا.
تفيض هذه المأساة بالمعاناة، لكنها أيضًا تذكرنا أننا لسنا مجرد أرقام أو صور. لكل إنسان القدرة على المساعدة، وكل لحظة تضامن يمكن أن تمنح المستضعفين فرصة للاستمرار. عسى أن يكون هناك بريق أمل، وأن تُمنح يد العون لمن لا ذنب لهم إلا أنهم عاشوا على أرض لم تعرف الرحمة.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المخرج على سعيد واجهنا تحديات كبيرة فى فيلم ضد السينما
.. المخرج تامر العشري: سعيد بمشاركة عدد كبير من الأفلام المصرية
.. ركين سعد: بحب حضور المهرجانات لأنها بتعلّمني وبتديني فرصة أش
.. المخرج علي سعيد: واجهنا تحديات كبيرة في فيلم -ضد السينما-
.. أبطال فيلمي -ترميم- و-ضد السينما- يحتفلون بعرضهما على ريد كا