الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توطين الصناعات الدوائية وصناعات المستلزمات الطبية في العراق: خطوة نحو السيادة الصحية وتقليل النزيف المالي

عامر عبد رسن

2025 / 8 / 30
الادارة و الاقتصاد


يعاني العراق منذ عقود من فجوة خطيرة في قطاع الصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية، حيث يعتمد بنسبة كبيرة على الاستيراد لتغطية حاجات السوق المحلي والمستشفيات الحكومية.
هذا الواقع لم يترك أثره على الصحة العامة فحسب، بل أدى أيضًا إلى نزيف مالي مستمر يتمثل في استنزاف مليارات الدولارات من العملة الصعبة سنويًا لتأمين الأدوية والأجهزة والمستلزمات الطبية.

ومع الإعلان الأخير عن تدشين خمسة مشاريع طبية متقدمة في بغداد بالشراكة بين وزارة الصناعة والمعادن والقطاع الخاص، عاد النقاش بقوة حول أهمية توطين الصناعات الطبية والدوائية، ليس فقط كخيار صناعي، بل كخيار استراتيجي يمس الأمن الصحي والاقتصادي للبلاد.

الواقع الحالي: استيراد يلتهم العملة الصعبة
• تشير التقديرات إلى أن العراق ينفق سنويًا ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار على استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية لقطاع الصحة الحكومي والقطاع الخاص.
• هذه المبالغ تشكل عبئًا مزدوجًا:
1. نزيف مالي يضغط على احتياطيات البنك المركزي من العملة الصعبة.
2. تبعية خارجية تجعل القطاع الصحي عرضة للأزمات العالمية، سواء في سلاسل الإمداد أو في تقلبات الأسعار.

وعلى الرغم من وجود شركة وطنية مثل شركة سامراء للصناعات ألدوائية، إلا أن إنتاجها يغطي حاليًا نسبة لا تزيد عن 10 – 15% من حاجة السوق، مما يترك الباب مفتوحًا للاستيراد العشوائي الذي غالبًا ما يفتقر إلى الرقابة الصارمة على الجودة.

الأبعاد الاقتصادية لتوطين الصناعة :
1. تقليل الاستيراد وحماية العملة الصعبة
إنتاج الأدوية محليًا والمستلزمات الطبية الأساسية – مثل المحاقن الطبية، القساطر، الخيوط والمستلزمات الجراحية،والمغذيات الوريدية وغيرها كثير – سيؤدي إلى خفض فاتورة الاستيراد بما لا يقل عن 1 – 1.5 مليار دولار سنويًا خلال أول خمس سنوات.
2. خلق فرص عمل نوعية
القطاع الصناعي الدوائي يتميز بكثافة التشغيل النوعي، إذ يحتاج إلى كفاءات من الصيادلة، الكيميائيين، المهندسين، وخبراء الجودة.
أي توسع في هذا القطاع يعني آلاف الوظائف المباشرة وعشرات الآلاف من الوظائف غير المباشرة في سلاسل التوريد.
3. دعم البحث والتطوير الطبي
لتوطين الصناعة يفتح الباب أمام إنشاء مراكز بحثية متخصصة بالشراكة مع الجامعات، ما يسهم في تطوير أدوية محلية وبدائل حيوية، خصوصًا للأمراض المزمنة المنتشرة في العراق كأمراض القلب والسكري.
4. تقليل التفاوت الجغرافي في الخدمات الصحية

إقامة مصانع للمستلزمات الطبية في المحافظات الأقل تنمية سيسهم في خلق توازن اقتصادي ويزيد من فرص الوصول إلى المستلزمات بأسعار مناسبة.

التجارب الدولية الملهمة :
• مصر: استطاعت عبر “مدينة الدواء” التي افتتحت عام 2021 تقليل وارداتها بنسبة كبيرة، كما بدأت تصدّر بعض المنتجات إلى أفريقيا.
• إيران: رغم العقوبات، تنتج أكثر من 95% من حاجاتها الدوائية محليًا، ما جعلها أقل عرضة للأزمات العالمية.
• الهند: تعد “صيدلية العالم” اليوم، وتغطي أكثر من 20% من سوق الأدوية الجنيسة عالميًا، بعد أن استثمرت في البحث العلمي والشراكات.
• تركيا: نجحت في خفض واردات المستلزمات الطبية بنسبة 40% خلال عقد واحد عبر سياسات تشجيعية ودعم حكومي.

هذه التجارب تشير بوضوح إلى أن الإرادة السياسية، والحوافز الاستثمارية، والربط مع البحث العلمي تشكل مثلث النجاح في بناء صناعة دوائية قوية.

التحديات أمام العراق :
1. الفساد وضعف الرقابة: أحد أكبر المخاطر يتمثل في تكرار تجربة مشاريع صناعية توقفت بسبب المحاصصة أو الإدارة الفاشلة.
2. غياب الحوافز الاستثمارية: المستثمر المحلي يواجه بيئة غير مشجعة نتيجة الروتين والضرائب غير المستقرة.
3. ضعف البنية التحتية: الكهرباء، المياه، والخدمات اللوجستية لا تزال عائقًا أمام الصناعة بشكل عام.
4. الإغراق الدوائي: السوق العراقية تعج بأدوية مستوردة بأسعار مدعومة أو رديئة، ما يضعف قدرة المنتج المحلي على المنافسة.
5. ضعف الثقة المجتمعية: المواطن العراقي يميل لشراء الدواء المستورد، وهو ما يحتاج إلى حملة تثقيفية تعزز الثقة بالمنتج المحلي.

الفرص المتاحة اليوم :
إعلان وزارة الصناعة عن مشاريع إنتاج الخيوط الجراحية، الغازات الطبية، المستلزمات البلاستيكية والنسيجية، والمواد المعقمة، يمثل خطوة أولى لتقليل الاستيراد، لكن الأهم هو أن تتحول هذه المبادرات إلى خطة وطنية متكاملة تشمل:
• إنشاء مجمعات دوائية وطنية بشراكة بين القطاعين العام والخاص.
• تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر عبر منح إعفاءات ضريبية وضمانات قانونية.
• إلزام وزارة الصحة بشراء نسبة معينة من احتياجاتها من الإنتاج المحلي.
• ربط المصانع بمراكز بحثية وجامعات لضمان التطوير المستمر.

التوصيات العملية
1. وضع استراتيجية وطنية للدواء تمتد لعشر سنوات، تحدد أهداف الاكتفاء الذاتي ونسب الخفض التدريجي للواردات.
2. إطلاق صندوق استثماري سيادي مخصص لدعم الصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية، بتمويل من عائدات النفط.
3. تشجيع الشراكات مع شركات عالمية لنقل التكنولوجيا وتدريب الكوادر العراقية.
4. تطوير منظومة الاعتماد والجودة عبر جهاز وطني مستقل يضمن سلامة المنتج ويعزز ثقة المواطن به.
5. إدخال الصناعات الدوائية ضمن خطط الأمن القومي، بوصفها ركيزة للأمن الصحي والسيادة الوطنية.

ختاماً : إن توطين الصناعات الدوائية وصناعات المستلزمات الطبية في العراق لم يعد ترفًا اقتصاديًا، بل هو خيار استراتيجي يمس حياة المواطن اليومية ويحافظ على موارد الدولة المالية. العراق اليوم أمام فرصة تاريخية لتقليل استنزاف 3 – 4 مليارات دولار سنويًا من العملة الصعبة، وتحويلها إلى استثمار في الداخل يخلق فرص عمل، ويعزز البحث العلمي، ويعيد الثقة بالقطاع الصناعي الوطني.
والتجارب الدولية تؤكد أن النجاح ممكن، شرط أن تقترن المشاريع بالإرادة السياسية الصادقة، والإدارة الرشيدة، والرقابة الفاعلة.
وإذا ما تم ذلك، فإن العراق سيخطو خطوة كبرى نحو الأمن الصحي والسيادة الاقتصادية، وهو ما يستحقه شعبه بعد عقود من الاعتماد والانتظار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتماع الرئيس السيسي مع رئيس الوزراء ووزير البترول حول خطة ق


.. الرئيس السيسي يشدد على ضرورة توفير المزيد من الحوافز والتيسي




.. مؤشرات سياسية| -مثلث أميركا اللاتينية-.. الخزان الخفي لاقتصا


.. هجوم طائرات مسيرة يعطل صادرات النفط من ميناء نوفوروسيسك الرو




.. تعليق العقوبات الأمريكية على سوريا في إطار قانون قيصر.. كيف