الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوفان الأقصى 704 - إسرائيل المنقسمة: من فشل «بوتقة الإنصهار» إلى صعود «الطابور الخامس»

زياد الزبيدي

2025 / 9 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي

10 سبتمبر 2025

مقدمة: الحلم الذي لم يتحقق
حين أعلن دافيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل عام 1948، كان يتحدث بثقة عن «بوتقة إنصهار» ستجمع الشتات اليهودي في هوية وطنية جديدة، قادرة على تجاوز الفوارق العرقية والمذهبية واللغوية، وصهر الجميع في قالب الإنسان «الإسرائيلي الجديد». لكن بعد أكثر من سبعين عامًا، يبدو أن هذا المشروع لم ينجح.

الكاتب الروسي ميخائيل أوشيروف يصف هذا الفشل بوضوح في مقاله «إسرائيل المنقسمة – لم ينجح مشروع خلق شعب إسرائيلي موحد» (وكالة REX للأنباء، 18 أكتوبر 2020) أي قبل خمس سنوات: «لم ينجح مشروع خلق شعب إسرائيلي واحد. فجميع من جاؤوا إلى إسرائيل يصنفون أنفسهم ضمن جماعات وقطاعات مختلفة – أشكناز، "بولنديون"، "مغاربة"، "يمنيون"... ولكل منهم مجتمعه وحمولته الخاصة».
أما العالم الإقتصادي والمفكر الروسي فالنتين كاتاسونوف، في مقاله «الطابور الخامس في إسرائيل» (مؤسسة الثقافة الاستراتيجية)، فيذهب أبعد من مجرد الحديث عن الإنقسام الإجتماعي، ليكشف عن إنقسام أعمق «لاهوتي–سياسي»، يتمثل في موقف جزء كبير من اليهود الأرثوذكس والحريديم الرافض أساسًا لشرعية الدولة الصهيونية.
«الطابور الخامس في إسرائيل ليس العرب ولا الفلسطينيين في الداخل، بل هو مكوّن يهودي خالص: الأرثوذكس والحريديم الذين لا يعترفون بشرعية الدولة من أساسها» (كاتاسونوف).
هذه الدراسة تحاول الربط بين المستويين: الإنقسام الإجتماعي الذي فصّله أوشيروف، والإنقسام السياسي–الديني الذي كشفه كاتاسونوف، لنصل إلى صورة متكاملة لإسرائيل اليوم: دولة ممزقة داخليًا أكثر مما هي مهددة خارجيًا.

أولاً: فسيفساء الطوائف – قراءة في إنقسام المجتمع الإسرائيلي

1. الفشل في خلق مواطن «إسرائيلي جديد»
منذ البداية، لم يكن القادمون إلى فلسطين من اليهود كتلة واحدة. الأشكناز القادمون من أوروبا الشرقية وألمانيا، الشرقيون (السفارديم والمزراحيم) من شمال إفريقيا واليمن والعراق، الروس بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، الإثيوبيون، الدروز، الشركس... كل هؤلاء إحتفظوا بخصوصياتهم الثقافية واللغوية والإجتماعية.
يقول أوشيروف: «الأفارقة من أصل إثيوبي لديهم مجتمع خاص بهم، متماسك وقادر على الضغط لمصالحه... بينما لم يحصل الروس ولن يحصلوا أبدًا على إمتيازات مماثلة، لأنهم يفتقدون إلى الذهنية الشرقية وقدرة بناء "عشيرة"».
2. الإمتيازات والتمييز
واحدة من أبرز مظاهر الإنقسام تتمثل في التمييز بين الطوائف. الإثيوبيون – رغم أنهم ليسوا يهودًا بالمعنى التوراتي الدقيق – حازوا على إمتيازات سكنية وفرص في التوظيف، بينما ظلّ الروس «مواطنين من الدرجة الثانية».
أوشيروف يضيف: «الروس لا يملكون مجتمعًا خاصًا بهم ولا مظلة سياسية تحميهم. الأحزاب التي إدّعت تمثيلهم – مثل حزب ناتان شيرانسكي (إبا) ثم حزب أفيغدور ليبرمان (إسرائيل بيتنا) – إنتهت دائمًا بخيانة مصالح الروس تحت شعار أولوية "الإسرائيلي" على "الروسي"».
3. الحريديم والأرثوذكس: دولة داخل الدولة
حتى داخل اليهود المتدينين هناك إنقسامات مذهلة: طوائف متعددة يقودها حاخامات متنافسون، لكل منهم حزب سياسي يستثمر موقعه لإنتزاع ميزانيات ضخمة من الدولة مقابل البقاء في الإئتلافات الحكومية.
أوشيروف يكتب: «الأحزاب الدينية تعرف كيف تحمي مصالح ناخبيها: المزيد من الأموال، المزيد من الإعفاءات، بينما ناخبوها لا يعملون ويعيشون نمط حياة طفيلي».
4. الإنقسام بين دينيين وعلمانيين
المواجهة الأبرز في إسرائيل اليوم ليست بين اليهود والعرب، بل بين اليهود أنفسهم: الأرثوذكس والحريديم من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى. قانون «القومية» الذي سنّه الكنيست عام 2018 عزز هذه الفوارق، إذ إعتبر الدولة «وطنًا قوميًا للشعب اليهودي وحده»، ما جعل غير اليهود مواطنين من الدرجة الثانية.
يقول أوشيروف: «هذا القانون النازي الطابع أبعد العرب والدروز وحتى كثيرًا من الروس غير اليهود عن الولاء للدولة».

ثانياً: «الطابور الخامس» – أزمة الشرعية من الداخل

إذا كان أوشيروف ركّز على الفسيفساء الإجتماعية، فإن كاتاسونوف أضاء على الشرخ الأخطر: أزمة الشرعية الدينية–السياسية.
1. من هم «الطابور الخامس»؟
يقول كاتاسونوف: «المفارقة أن الخطر الأكبر على إسرائيل لا يأتي من الخارج، بل من الداخل. مئات آلاف اليهود الأرثوذكس والحريديم يرفضون الإعتراف بشرعية الدولة، ويرون أن قيامها قبل مجيء المسيح مخالفة لتعاليم التوراة».
هؤلاء يشكلون قوة إنتخابية كبيرة، ولديهم أحزاب قوية مثل «شاس» و«يهدوت هتوراه»، يبتزون الحكومات مقابل البقاء في السلطة، لكنهم في العمق لا يعترفون بالدولة نفسها.
2. الإقتصاد الموازي والعبء على الدولة
الحريديم يعيشون في أحياء مغلقة، يدرسون في مدارس دينية منفصلة، ونسبة عملهم متدنية جدًا. يعتمدون على المخصصات الحكومية ويشكّلون عبئًا إقتصاديًا.
كاتاسونوف يضيف: «النظام الإقتصادي الذي بناه الحريديم قائم على الطفيليّة المطلقة: لا يعملون، لا يخدمون في الجيش، يعيشون من مساعدات الدولة، ومع ذلك يطالبون بالمزيد».
3. رفض الخدمة العسكرية
أخطر ما في موقف الأرثوذكس والحريديم هو رفضهم الخدمة في الجيش، بإعتباره «جيشًا غير شرعي». بالنسبة لدولة تقوم على عسكرة المجتمع، فإن هذا الرفض يضرب في قلب «العقد الإجتماعي».
كاتاسونوف يكتب: «في الوقت الذي يُجبَر فيه الشباب العلماني على الخدمة الطويلة في الجيش وخوض الحروب، يرفض الحريديم ذلك رفضًا مطلقًا، ما يثير نقمة هائلة ويزيد الإنقسام».
4. أزمة هوية وشرعية
هكذا تتكشف المفارقة الكبرى: الدولة التي قامت باسم «الشعب اليهودي» لا تجد إعترافًا بشرعيتها من شريحة واسعة من هذا الشعب نفسه.

ثالثاً: التداعيات الإقليمية والدولية

1. صورة إسرائيل في الخارج
يشير أوشيروف إلى أن الإنقسام لا يقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل يمتد إلى الجاليات اليهودية في العالم. في الولايات المتحدة مثلاً، ينقسم اليهود بين داعم لسياسات إسرائيل ومعارض لها يريد الإندماج الكامل في المجتمع الأمريكي.
«المجتمع اليهودي الأمريكي منقسم نصفين: جزء يدعم إسرائيل بلا شروط، وجزء يريد حياة أمريكية طبيعية بعيدًا عن مغامرات الدولة العبرية» (أوشيروف).
2. السياسة الخارجية العدوانية
الإحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية، وسياسة الإستيطان، والحروب المتكررة، كلها تزيد عزلة إسرائيل وتؤثر حتى على مكانة اليهود في بلدان الشتات.
3. قابلية الإنفجار الداخلي
الإنقسام الإجتماعي مع الإنقسام الديني–السياسي يهددان الدولة من الداخل أكثر مما تفعل الحروب مع غزة أو التهديد الإيراني. كاتاسونوف يلخص ذلك: «الخطر الأكبر على إسرائيل ليس حماس ولا إيران، بل هشاشتها الداخلية: مجتمع فسيفسائي، دولة بلا شرعية في نظر جزء كبير من سكانها».

الخاتمة: دولة بلا عقد إجتماعي

من خلال الجمع بين تحليلات ميخائيل أوشيروف وفالنتين كاتاسونوف، يظهر بوضوح أن إسرائيل فشلت في أن تكون «بوتقة إنصهار». بدلاً من ذلك، تحولت إلى فسيفساء من الطوائف والجماعات، تتناحر على الإمتيازات ولا يجمعها سوى الخوف من الآخر.
فالمجتمع منقسم: أشكناز ضد شرقيين، علمانيون ضد حريديم، روس ضد إثيوبيين، عرب ضد يهود. والسياسة منقسمة: أحزاب دينية تبتز الدولة، مقابل أحزاب علمانية عاجزة عن فرض رؤيتها. وحتى على المستوى الديني، هناك «طابور خامس» من اليهود المتشددين الذين لا يعترفون بشرعية الدولة من الأساس.
بهذا المعنى، يمكن القول إن المشروع الصهيوني يواجه أزمته الوجودية الأعمق: لم يعد التهديد الأكبر يأتي من الخارج، بل من الداخل. وربما لهذا السبب يظل سؤال المستقبل مفتوحًا: هل تستطيع إسرائيل أن تتماسك رغم هذه الإنقسامات، أم أن «بوتقة الإنصهار» التي لم تعمل منذ البداية ستتحول في النهاية إلى رماد؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مجلس الأمن يرفع العقوبات عن أحمد الشرع قبل استقباله في البيت


.. هل المراهنات والمال يهددان نزاهة دوري الـ -إن بي أي-؟




.. إسرائيل تلوح بضرب بيروت بدعم أميركي في هذه الحالة | #التاسعة


.. رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة بالسودان: حوادث الخطف والاع




.. ترقب لتسليم جثمان أسير إسرائيلي في قطاع غزة مساء اليوم