الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوفان الأقصى 710 - من صبرا وشاتيلا إلى غزة: ذكرى الضحايا المنسيّين؟!

زياد الزبيدي

2025 / 9 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


إعداد وتحليل د. زياد الزبيدي

16 سبتمبر 2025

في 16-17سبتمبر/أيلول 1982، وقعت واحدة من أفظع المجازر في التاريخ المعاصر، حين إجتاحت الميليشيات اليمينية اللبنانية مدعومة من جيش الإحتلال الإسرائيلي مخيمَي صبرا وشاتيلا في بيروت، لترتكب مجزرة ذهب ضحيتها ما يزيد عن 4000 فلسطيني ولبناني أعزل. لم يكن العالم العربي وحده شاهداً على الفاجعة، بل وثّقتها أقلام وصور صحفيين غربيين، أبرزهم روبرت فيسك، الذي كتب بمرارة: «لو أن الفلسطينيين قتلوا 2000 إسرائيلي، لامتلأت الصفحات الأولى للصحف الغربية، لكن بعد 15 عاماً لم يذكر أحد في بريطانيا أو أميركا ذكرى المجزرة».

وفي شهادات الأطباء والممرضين والصحفيين الذين دخلوا المخيمات بعد المجزرة، برزت صور من أقصى درجات الوحشية: نساء أغتُصبن حتى الموت، أطفال ذُبحوا أو أُطلقت عليهم النار عن قرب، عائلات أُعدمت جماعياً، وجثث مشوّهة بالكهرباء والتعذيب. كانت المذبحة مخططاً منظماً إستمر 36 ساعة متواصلة تحت أعين الجيش الإسرائيلي الذي حاصر المخيمات ومنع أي محاولة للهروب. ورغم كل الأدلة، لم يُحاكم أحد من المسؤولين، واكتفى تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية باعتبار أرييل شارون "مسؤولاً شخصياً عن عدم منع المجزرة"، قبل أن يعود لاحقاً إلى الحياة السياسية ليصبح رئيساً لوزراء إسرائيل.

لم تتوقف "مذابح شارون" عند صبرا وشاتيلا عام 1982، بل تكررت بصيغ أخرى في فلسطين نفسها. ففي نيسان/أبريل 2002 إجتاحت قوات الإحتلال مخيم جنين في الضفة الغربية، وإرتكبت مجزرة دامية راح ضحيتها المئات بين قتيل وجريح، وسط تدمير واسع للمنازل والبنية التحتية.

ورغم هول الكارثة، فإن لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة إصطدمت بجدار الرفض الإسرائيلي، ومنعت من دخول المخيم، ما جعل تقريرها لاحقاً باهتاً وناقصاً. وقد وصفت منظمات حقوقية ما حدث بأنه جريمة حرب متكاملة الأركان، لكن المجتمع الدولي إكتفى ببيانات القلق والإدانة الشكلية، تاركاً الضحايا بلا عدالة.

هذه الحلقة السوداء كانت إستمراراً لمسلسل قديم: كلما توغلت إسرائيل في الدم الفلسطيني، وفرت لها واشنطن الحماية السياسية، ومنحتها العواصم الغربية غطاء الصمت، ليظل المشهد من بيروت إلى جنين ثم إلى غزة واحداً: القاتل ذاته، والضحايا ذاتهم، والذاكرة التي تُمحى عمداً من الإعلام الغربي.
وكي يكتمل المشهد لا بد أن نعرج على مجزرة أخرى بتوقيع شارون: قبية.


قبية: البداية الدموية

ليلة 14–15 تشرين الأول/أكتوبر 1953، قاد أرييل شارون، حين كان ضابطًا في الوحدة 101، عملية عسكرية ضد قرية قبية القريبة من رام الله. فجّرت القوات عشرات المنازل على رؤوس سكانها، وقتلت 70 مدنيًا معظمهم من النساء والأطفال. حاولت إسرائيل تبرير المجزرة بزعم "ملاحقة متسللين"، لكن الصور والحقائق كشفت هول الجريمة. حتى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور اضطر لإدانة العملية، وإن كان الرد الأميركي لم يتجاوز حدود الخطاب.

ولعلّ المفارقة الصارخة أن الإعلام الغربي الذي تجاهل سجل المجازر أو تعامل معها كحدث عابر، يكرّر كل عام "الطبل والزمر" بمناسبة 11 سبتمبر 2001، حيث تُفتح الملفات وتُعاد الأفلام الوثائقية ويُستدعى خطاب "الحرب على الإرهاب". أمّا ضحايا صبرا وشاتيلا، فلا مكان لهم في ذاكرة الغرب، وغير الغرب، الرسمية، وكأن دماءهم أقل قيمة أو لا تستحق التذكّر.

والأدهى من ذلك أن أحداً في الغرب لا يستذكر أيضاً 11 سبتمبر 1973، يوم الإنقلاب الدموي الذي دبّرته وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية (CIA) ضد الرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطياً سلفادور أليندي، والذي أودى بحياة آلاف التشيليين وفتح الباب أمام دكتاتورية الجنرال بينوشيه. لم تُقم في الغرب تذكارات سنوية لهؤلاء الضحايا، ولم تُعرض أفلام هوليوودية عن مأساتهم، وكأن دماءهم – مثل دماء الفلسطينيين – بلا وزن في ميزان الذاكرة العالمية.

هكذا تكشف إنتقائية الذاكرة الغربية عن نفسها بوضوح: فالمجازر التي يرتكبها الغرب أو حلفاؤه، تُمحى من السجلات، بينما الأحداث التي تصيب الغرب نفسه تُحوَّل إلى لحظة كونية تستدعي الحزن الأبدي وتبرير الحروب.

هذه الإزدواجية الفاضحة في التعاطي الإعلامي والسياسي مع الدم الفلسطيني لم تكن حدثاً عابراً، بل شكلت قاعدة راسخة في الخطاب الغربي. فقد تحوّلت المجزرة إلى ذكرى منسية في الغرب، في حين بقيت جرحاً مفتوحاً في الذاكرة الفلسطينية.

وبعد أربعة عقود، عاد المشهد ليتكرّر ولكن بشكل معكوس. ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذت حماس هجوماً أسفر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي ليتحوّل الحدث إلى ذريعة لشنّ حرب إبادة جماعية ضد أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين. خلال أشهر قليلة، قُتل عشرات الآلاف، بينهم آلاف الأطفال، ودُمّرت المستشفيات والمنازل والمخيمات. ومع ذلك، إنحاز الإعلام الغربي مجدداً للرواية الإسرائيلية، مقدّماً صورة الفلسطيني كـ "إرهابي"، في حين جرى التستّر على المأساة الإنسانية الأكبر في القرن الحادي والعشرين.
كل ذلك يحدث وسط صمت دولي متواطئ. الإعلام الغربي، الذي بالكاد توقف عند ذكرى صبرا وشاتيلا، صبّ كل طاقته في إبراز "ضحايا إسرائيل"، متجاهلاً فداحة المجازر اليومية في غزة.

هذا التباين يكشف بوضوح ما أشار إليه بعض الباحثين في دراساتهم حول الإعلام والسياسة الدولية: هناك معيار مزدوج تحكمه المصالح الإستراتيجية. في حين يُعامل الدم الإسرائيلي بإعتباره "مقدساً" وذو قيمة كونية، يُختزل الدم الفلسطيني والعربي إلى مجرد رقم عابر في نشرات الأخبار.

الخاتمة: سؤال الذاكرة والعدالة؟

لو إنقلبت الصورة في 1982، وتخيّلنا – إفتراضياً – أن الفصائل الفلسطينية بدعم من دول عربية ردّت على مجزرة صبرا وشاتيلا بتحويل تل أبيب إلى أنقاض، كيف كان سيكون رد فعل الإعلام الغربي وأميركا وأوروبا؟ لا شك أن المشهد سيكون مغايراً جذرياً: كانت العناوين العريضة ستُكتب بالبنط العريض في كل الصحف الغربية، وستُعقد جلسات طارئة في مجلس الأمن، وسيُصوَّر الفلسطينيون كـ "بربرية جديدة" تهدد الحضارة الإنسانية. أمّا صبرا وشاتيلا نفسها، فستُمحى من الذاكرة الجماعية الغربية بإعتبارها "تفصيلاً صغيراً" لا يستحق الذكر.

هذا التمرين الإفتراضي ليس خيالاً سياسياً، بل كشف عن بنية عميقة من الإنحياز الغربي الذي يتكرّر حتى يومنا هذا في حرب غزة. وبينما تُعاش ذكرى صبرا وشاتيلا كجرح مفتوح في الوعي العربي، يعاد إنتاجها بشكل أوسع في غزة، حيث تحوّلت المجزرة من حدث محدود زمنياً إلى حرب إبادة مستمرة.

إن ذكرى الضحايا الفلسطينيين ليست مجرد سردية تاريخية، بل مرآة تكشف زيف إدعاءات الغرب حول حقوق الإنسان والعدالة. ومن صبرا وشاتيلا إلى غزة، يبقى السؤال معلّقاً: متى يصبح الدم الفلسطيني جديراً بالإعتراف والعدالة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مجلس الأمن يرفع العقوبات عن أحمد الشرع قبل استقباله في البيت


.. هل المراهنات والمال يهددان نزاهة دوري الـ -إن بي أي-؟




.. إسرائيل تلوح بضرب بيروت بدعم أميركي في هذه الحالة | #التاسعة


.. رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة بالسودان: حوادث الخطف والاع




.. ترقب لتسليم جثمان أسير إسرائيلي في قطاع غزة مساء اليوم