الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوفان الأقصى 723 - آفي شلايم: المؤرخ الذي تخلّى عن الصهيونية ووقف إلى جانب فلسطين

زياد الزبيدي

2025 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي

29 سبتمبر 2025

من بريق الصهيونية إلى نقدها الجذري

حين يظهر المؤرخ الإسرائيلي – البريطاني آفي شلايم* في مقابلاته الأخيرة، يبدو بملامحه الهادئة أشبه بجدّ بريطاني متسامح، لكن كلماته تترك وقعاً صادماً على الوجدان الإسرائيلي. ففي فيديو أثار جدلاً واسعاً بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، صرّح قائلاً: "حماس هي التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي يجسد المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي... الهجوم في 7 أكتوبر وجّه رسالة قوية: الفلسطينيون لن يُهمَّشوا، والمقاومة لم تمت.

بهذا الموقف، تجاوز شلايم ليس فقط الإجماع الإسرائيلي السائد، بل حتى أكثر زملائه الراديكاليين في الجامعات الغربية.

شعبية في الشارع العربي – عداء في الشارع الإسرائيلي

في حديثه إلى هآرتس، أوضح المؤرخ المقيم في أوكسفورد أن الحرب الأخيرة جعلت منه شخصية شبه مشهورة: "منذ بداية الحرب، صرتُ نوعاً من المشاهير. الناس يتعرفون عليّ في الشارع ويصافحونني. شباب عرب ومسلمون يشكرونني لأني أتحدث بإسمهم، وأعيد لهم الأمل والثقة بأن هناك يهوداً يقفون إلى جانب الحق الفلسطيني."

لكن هذه المكانة لم تخلُ من ثمن. فهو يتلقى – كما يقول – رسائل عدائية وتهديدات بالقتل، لكنه يضيف: "مقابل كل رسالة كراهية، تصلني عشر رسائل دعم."

بين تفسير السلوك وتبريره

يحرص شلايم على التمييز بين "شرح" ما قامت به حماس وبين "تبريره". فهو يوضح: "قتل المدنيين خطأ، نقطة. لكن السياق أساسي. الفلسطينيون يعيشون تحت إحتلال طويل وبشع. لهم الحق في المقاومة، بما في ذلك المسلحة."

ويضيف أن هجوم حماس إستهدف بدايةً مواقع عسكرية: "المقاتلون تلقوا تعليمات واضحة بضرب أهداف عسكرية: قواعد، جنود، شرطة. هذا ليس جريمة حرب. لكن الأمور خرجت عن السيطرة لاحقاً."

ومع ذلك، يعترف بأن العملية في مجملها كانت "هجوماً إرهابياً لأنه أصاب مدنيين"، لكنه يؤكد أنها "لم تقع في فراغ، بل كانت نتيجة عقود من الإحتلال."

من بغداد إلى القدس: جذور عربية وهوية مفقودة

المفارقة الكبرى في مسيرة شلايم أنه وُلد عام 1945 في بغداد، وسط عائلة يهودية ثرية وراسخة الجذور. يتذكر طفولته قائلاً: "كنّا عراقيين أولاً، ثم يهوداً. في بيتنا لم نتحدث سوى العربية. طعامنا وعاداتنا عربية. عشنا تعايشاً يومياً مع المسلمين والمسيحيين."

ويشدد أن عائلته لم تكن صهيونية: "الصهيونية حركة أوروبية، لم تهتم باليهود العرب إلا بعد المحرقة. لم يكن لنا أي إهتمام بإسرائيل."

لكن مسار التاريخ دفع العائلة إلى الهجرة عام 1950، بعد قوانين التضييق على اليهود في العراق. ويشير شلايم إلى أن تفجيرات غامضة إستهدفت مواقع يهودية في بغداد بين 1950–1951 عجّلت بالرحيل. ويزعم أنه وجد أدلة على "ضلوع إسرائيلي في تلك التفجيرات" بهدف دفع اليهود للهجرة.

صدمة "الهبوط" في إسرائيل

يصف شلايم إنتقاله إلى إسرائيل بعبارة لاذعة: "بالنسبة إلينا، لم تكن الهجرة (علياه) صعوداً، بل هبوطاً ( يريدا ). فقدنا ثروتنا ومكانتنا، وأُلقينا على هامش مجتمع تهيمن عليه النخبة الأشكنازية."

ويستذكر معاناة والده الذي "لم يتقن العبرية ولم يجد عملاً حتى إنكسر تماماً"، فيما إضطرت والدته للعمل كموظفة هاتف للمرة الأولى في حياتها. أما هو نفسه فقد عاش عقدة "دونية مزمنة" تجاه اليهود الأوروبيين، حيث كان يُقال له إنه نجح في الإمتحانات فقط "لأنهم يخفّضون المعايير لليهود الشرقيين."

من "الوطنية" العسكرية إلى الإنشقاق الفكري

رغم شعوره بالإغتراب، خدم شلايم في الجيش الإسرائيلي. يروي عن مراسم القسم في الجيش: "رفرفت الأعلام وعُزف النشيد الوطني. شعرت بالقومية في عروقي. كنا نؤمن أننا جيش ديمقراطي صغير محاط بملايين العرب المتعطشين لتدميرنا."

لكن تلك القناعة سرعان ما تهاوت بعد حرب 1967. إذ بدأ يقتنع بأن إسرائيل تحولت إلى قوة إستعمارية. ويقول: "كنت أقول إنني لم أتغير، بل وطني هو الذي تغيّر. لكن الحقيقة أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان مشروعاً إستيطانياً إستعماريًا."

لحظة التحول: أرشيفات الدولة العبرية

النقطة الحاسمة في مسيرته الفكرية جاءت عام 1982، حين أمضى عاماً كاملاً في الأرشيفات الإسرائيلية: "ما قرأته هناك لم يتطابق مع ما تعلمته في المدارس: أن اليهود دائماً ضحايا، وأن إسرائيل لم تكن إلا ضحية. الوثائق كشفت صورة مختلفة تماماً."

منذ ذلك الحين، تدرّج من "ناقد معتدل" إلى مؤرخ يُصنَّف ضمن أبرز مفككي السردية الصهيونية.

من الذاكرة العراقية إلى نقد الإستعمار البريطاني

يجد شلايم مفارقة في حياته الزوجية: فهو متزوج من حفيدة ديفيد لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى، والذي إرتبط اسمه بـ"إعلان بلفور". لكنه يوضح أن زوجته "مؤيدة شغوفة للحقوق الفلسطينية" وترى في إرث جدّها "مثالاً على نزعة إستعمارية قديمة."

ويعلق شلايم نفسه: "إعلان بلفور وثيقة استعمارية كلاسيكية. تجاهل حقوق 90% من السكان، أي الفلسطينيين، وكان خطأً إستراتيجياً فادحاً لبريطانيا."

خاتمة: مؤرخ ضد التيار

رحلة آفي شلايم من بغداد إلى أوكسفورد، ومن "جندي صهيوني" إلى "مؤرخ مناهض للصهيونية"، تجسد ما يسميه هو "إنهيار الوهم". فقد خلص إلى قناعة نهائية: "قيام دولة إسرائيل إرتبط بظلم هائل للفلسطينيين... لقد كانت النكبة تطهيراً عرقياً، وما تلاها من إحتلال جعل إسرائيل دولة فصل عنصري."

بهذا الموقف، يقف شلايم اليوم في موقع قلّما يتجرأ أكاديمي إسرائيلي على الوقوف فيه: مع الفلسطينيين، وضد المشروع الصهيوني الذي كان يوماً يراه وطنه.

*****

ملحق حول مذكرات آفي شلايم بإختصار

ثلاثة عوالم: حين يكتب آفي شلايم مذكرات عربي–يهودي

لم يكن آفي شلايم مجرد مؤرخ بارز في "مدرسة المؤرخين الجدد" التي أعادت قراءة تاريخ الصهيونية بعيون نقدية، بل هو أيضاً صاحب تجربة شخصية إستثنائية تجلّت في كتابه الأخير «ثلاثة عوالم: مذكرات عربي – يهودي» (2023). في هذا العمل، إبتعد شلايم عن لغة الأرشيف والوثائق الرسمية ليقدّم شهادة حيّة عن طفولته في بغداد، ومرحلة الإنتقال القاسية إلى إسرائيل، ثم مسيرته في بريطانيا حيث تبلورت هويته الفكرية.

من بغداد إلى القدس: ذاكرة المنفى

يستعيد شلايم ذكريات طفولته في العاصمة العراقية مطلع الخمسينيات، حيث كان اليهود جزءاً من النسيج الإجتماعي، يشاركون المسلمين والمسيحيين الحياة اليومية والعادات والمواسم. لكن هذا العالم سرعان ما تهاوى مع صعود المشروع الصهيوني وتوتر العلاقات الإقليمية، ليدفع آلاف اليهود العراقيين ثمناً باهظاً من التهجير القسري. هنا يضع شلايم إصبعه على الجرح: «لم نكن نغادر وطننا بإختيارنا، بل جرى إقتلاعنا من جذورنا».

الصدمة الإسرائيلية

وصوله مع عائلته إلى إسرائيل لم يكن بداية جديدة بقدر ما كان بداية خيبة أمل. فقد إكتشف أن «اليهود الشرقيين» يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في دولة بناها الأشكناز على صورتهم. في هذا المشهد، لم يجد الطفل القادم من بغداد مكانه الطبيعي، وهو ما ترك أثراً عميقاً في وعيه اللاحق. بالنسبة له، لم تكن إسرائيل ملاذاً آمناً كما رُوّج، بل مجتمعاً منقسمًا على نفسه، تسوده نزعات تمييزية وعنصرية صامتة.

الهوية بين السياسة والذاكرة

في «ثلاثة عوالم» لا يكتفي شلايم بسرد الحكاية، بل يستخدم تجربته كعدسة لفهم التاريخ الأوسع. فالهويّة التي عاشها – عربية ويهودية في آن – كانت نقيضاً للرواية الصهيونية التي إختزلت اليهودية في صيغة إسرائيلية خالصة. المذكرات هنا تتحوّل إلى فعل مقاومة ثقافية: إعادة الإعتبار لذاكرة اليهود العرب، ورفض تحويلهم إلى مجرد توابع لمشروع إستيطاني أوروبي الجذور.

من المذكرات إلى الموقف السياسي

هذا البعد الشخصي يفسّر مواقف شلايم الراهنة. فالمؤرخ الذي هاجم "الأساطير المؤسسة لإسرائيل" في كتبه السابقة، يجد في مذكراته برهاناً ذاتياً على زيف تلك الأساطير. ومن هذا المنطلق، لم يكن غريباً أن يتجاوز النقد الأكاديمي ليعلن تعاطفه مع القضية الفلسطينية، بل ويفتح باب النقاش حول مشروعية المقاومة – بما فيها حماس – في مواجهة الاحتلال.

بهذا الفصل، يصبح كتاب «ثلاثة عوالم» إمتدادًا طبيعياً لمسيرة شلايم النقدية، لكنه أيضاً عودة إلى الجذور، حيث تتحوّل السيرة الذاتية إلى مرآة تكشف ما حاولت الصهيونية طمسه: أن ثمة يهوداً كانوا جزءاً من العالم العربي، وأن إقتلاعهم لم يكن قدراً، بل سياسة مفروضة.

*****
هوامش
المقابلة نشرت في النسخة الإنجليزية من صحيفة هآرتس (25 سبتمبر 2025) بقلم عوفر أدريت، حول المؤرخ الإسرائيلي – العراقي الأصل آفي شلايم، بعنوان: "المؤرّخ الإسرائيلي آفي شلايم تخلّى عن الصهيونية منذ زمن طويل.. واليوم يقف مع حماس"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غناء رغم الألم.. فرحة خريجي المدارس في غزة وسط الأنقاض


.. خطة إسرائيلية لاستئناف القتال في غزة ونزع سلاح حماس بالقوة |




.. ماذا بعد التحقيق الأممي في انتهاكات الفاشر؟


.. ??عقود من الأزمات تصوغ ملامح الصراع بين الولايات المتحدة وفن




.. إدارة ترمب تضغط على إسرائيل لتحقيق تقدم نحو حلول قابلة للتطب