الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصطفى الحلاج .. احتراق في قاعة الانتظار

زاهد عزت حرش
(Zahed Ezzt Harash)

2003 / 7 / 30
الادب والفن



 
  زارني الحزن فوق العادي .. واورثني مزيداً من الالم ومزيداً من عمق المأساة الذاتية والوطنية .. فكم من ابناء هذا الشعب المهجر يموت على عتبات الغربة والضياع ؟؟ ذلك مساء الاربعاء 16.12.02 اذ وصلني من على صفحات البريد الالكتروني, مباشرة من الاستاذ اسماعيل شموط .. نبأ وفاة شيخ الفنانين الفلسطينيين .. النحات مصطفى الحلاج . وذلك من خلال مقالة كتبها شموط لذكرى رحيل هذا الفنان الشيخ, حملت عنوان " الفنان التشكيلي الفلسطيني مـصـطـفـى الـحّــلاج  يلتحـق بركـب الـراحـلـيـن ".. بدأت تواً بالكتابة عنه بهذه الفقرة .. وجثم فوق مشاعري صمت وذهول .. منعني من الاستمرار في الكتابة عن هذا الرحيل المأساوي الى الان .. وقد بحثت ما استطعت عن مواد وتراثيات تدلني على تاريخ هذا الراحل المهيء للسفر دوماً .. الى ان وجدت انه من الواجب عليّ ان اكتب لذكراه ما استطيع .
 
  لم يمت هذا الذي اسمه مصطفى الحلاج , والذي اطلقت عليه فلسطين اسم , شيخ التشكيليين الفلسطينيين .. لم يمت لكنه احترق .!! احترق كشمعة خُلقت من اجل ان تقاتل الظلام , احترق , لانه " من الشرارة يندلع اللهيب " .. احترق كالمأساة , ليتمم مأساة الحلاج الصوفية, ذاك الذي دهن وجهه وصدره ويديه بما نزف من دمه على الصليب, ليكتمل طقس رحيله المشبع بالعشق والصوفية .!! احترق الحلاج كقطع جداريته التي انجزها حرقاً وحفراً على الواح " المازونيت " الرخيص, ليرتفع بذلك قدراً وقدرة, وليسمو بذاته وبقضيته وبعطاءه الى صفوف الخالدين .

 احترق الحلاج في " قاعة الانتظار " .. فدمشق, التي احتضن زاوية من ازقتها الفقيرة .. بقبو شغل لزمن ما مكان سميّ " مرسم ناجي العلي " ذلك بعد اغتياله, كي لا تندثر وراء ستائر النسيان كل خيوط جريمة الاغتيال .. نام فيه الحلاج ما بين عمل وتواصل, كالشاهد الذي يواجه الطغاة في عدمية الاستمرار والبقاء !! كان فيه , كونه "قاعة انتظار" يستقل منها قطار العودة المسافر باتجاه واحد نحو فلسطين .. الا ان سكة جداريته استوقفته لحظة نشوتها لتأخذه معها في قطار العودة, المسافر باتجاه واحد الى النهاية .!!

 ما التقيته , وما رأيته بصورة منقولة حية مرة في حياتي .. لم التقيه سوى من خلال تلك الرموز المتحركة صمتاً , فوق المساحات السوداء المطبوعة على صفحات قليلة من كتب الفن التشكيلي الفلسطيني .. هذا الضالع بالتأمل والتوغل في متاهات التكوين .. هذا الزاحف نحو ما تبقى منها لينسج فوقها حالات من صراع البقاء , ما بين الليل والنهار , ما بين خطوط الضوء والمساحات السوداء , حتى ان رحيله لم يأتي هادئاً , ناصعاً في صمته المسكون بالتناقض .. بل حمل ملحمة اخرى على راحتي الصراع المنطلق بحثاً عن الحقيقة .

 ولد الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج سنة 1938 , في قرية سلمة من اعمال يافا .. ابتلاه الزمان كما ابتلى ابناء فلسطين بالاقتلاع والتهجير .. فسكنت اسرته ارض مصر. مرت على مصطفى الحلاج صور مشابهة لصور العذاب , التي مر بها الفقراء على ارصفة مخيمات الارض اليباس .. وعانى كابناء هذا الشعب الصامد من ذل المهانة وشظافة العيش . الا انه مع حلول اواخر خمسينيات القرن الماضي, التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ودرس فن النحت عمداً .."انا درست النحت عن رغبة لانني كنت ذاهباً من اجل دراسة النحت والعمارة، فالعمارة هي ام الفنون كل الفنون. درست النحت لأنني من خلاله استطيع ان ارى الشيء من 360 درجة." من حوار اجراه معه مفيد نجم . من ثم التحق كموفداً من قبل الدراسات العليا للاشتراك بمرسم الأقصر جنوب مصر.

يعتبر الحلاج أول فلسطيني يدرس فن النحت والغرافيك . " كان الحلاج من أكثر فنانينا التشكيليين العرب ثقافة ، تمتع بقدرة جيدة بالحديث عن الفن وعن الفلسفة والتاريخ ، وكان صاحب بال طويل لا يمل الحديث مهما طال عن هموم الحركة الفنية الفلسطينية والعربية بشكل عام ، ويؤمن بأن الفنون كلها تيار ثقافي واحد ، كل منها يفعل ويتفاعل مع الفنون الأخرى . كان صديقا للأدباء والشعراء والفنانين ، وكانت جلساته ممتعة ومفيدة فكريا في الوقت ذاته ." من مقالة اسماعيل شموط.

 استنبط, هذا الضالع بالثورة والامل والمثابرة , وسيلة مبتكرة للتعبير عن همه الفسطيني والوجداني . فاخذ يشطب بالسكين والابرة وجه الواح الخشب الرخيص, ليحولها الى قطع نادرة ذات قيمة حضارية وانسانية غالية, حيث نسج عليها مسيرة مخزونه الفلسفي والمأساوي, في جدلية شعرية تشكيلية قائمة على الحوار ما بين الابيض والاسود المحترق , باحثاً فيها ومن خلالها عن مصداقية التاريخ والانسان والارض والزمان .. الى ان تقاطعت اجزاء العطاء والعمل بوتيرة النار المعدة لاحراق المساحات الخشبية, فاحرقت ذاته وكيانه وعطاءه ايضاً .

  هكذا نحن , لا نكتب الا عن مأساتنا , فقد بحثت مع حلول مأساته, عبر الكثير من المنافذ, لاستدل عليه ولو بما يشفي القلب والضمير .. فما وجدت سوى ما ارسله الاستاذ اسماعيل شموط في المقاله انفة الذكر .. والقليل القليل فقط هنا وهناك .! وتحدثت الى الزميلة سامية حلبي , وكانت في تشرين من ذاك العام قد التقته من خلال زيارة الى مرسمه, ومعها وفد من متحف ARTCAR لتشارك جداريته في معرض "صنع في فلسطين" .. لتقول لي, ان الخبر سطق عليها كالصاعقة , وان ما يقتلها حزناً هو ان يفارق هذا المبدع جداريته قبل ان يتممها .. واكثر من ذلك, هو ان تحترق اجزاء كبيرة من جداريته معه .. وتذهب الى حيث يمضي هو ايضاً .!!
 اما بعد .. وقد اعتدنا ان نكتب عن المأساة والرحيل , فقد استطعت ان اجمع ما يقارب عشر مقالات عن الحلاج وجداريته .. خلال الاشهر الماضية, شارك فيها اقرب الناس اليه .! وكلهم يذرفون دمعاً على واقع لم يكن في الحسبان ابداً .! لان تواصل واستمرار حلم العطاء الحي للجدارية "النهرية" التي وصل طولها الى 93 متراً .. كان كحلم العودة !! متأصلاً فيه الى ما بعد كونه حياً .. وهو الذي قال في سياق ذلك " سأستمر فيها طالما أنا حي، وقادر على العمل. احياناً تتعب يدي فأتوقف ثم اعود فأكمل العمل. هذه اللوحة ستتوقف فقط عند الموت." من حوار اجراه معه مفيد نجم .
 الا ان احد اقرب الناس اليه يروي كيف انهم قبل وقت قليل من رحيلة عملوا جماعة من اجل توثيق حلمه المستمر.. فكتب يقول " لقد انشغلنا جميعاً بموضوع تصوير تلك اللوحة العملاقة وتوثيقها. إنها، بالفعل، عمل جبار، ليس فقط من حيث الحجم بل ومن حيث المحتوى والشكل الفني.. موفق قات اعتمد تصويرها بالفيديو؛ عماد صبري قام بالتصوير الفوتوغرافي ليل نهار؛ وتعهدت أنا التوضيب الكومبيوتري؛ وشارك عدد كبير آخر من الأصدقاء في إدارة بعض أعماله اللانهائية. كنا نشعر به والنشاط يدبُّ فيه، ويلفُّه الحب والوطن وهاجس الإنسان." من مقالة بعنوان " مصطفى الحلاج فنان الاساطير" كتبها وليد قارصلي في مجلة معابر الالكترونية .
 استطيع ان اكتب المزيد عنه وعن جداريته وحلمه الثائر .. الا ان ما تم توثيقه منها, ما هو الا اعظم شاهد عليه وعلى واقع الماساة .. فقليل من الرؤية المنظورة لتكتمل الرؤيا .. والسلام !!

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من شارموفرز إلى نجم سينمائي.. أحمد بهاء وصل للعالمية بأول في


.. أنت جامد بس.. رسالة منى الشاذلي لـ عصام عمر بعد أدائه في فيل




.. عصام عمر وركين سعد من كواليس فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد


.. أون سيت - لقاء مع الفنان أحمد مجدي | الجمعة 27 سبتمبر 2024




.. أون سيت - فيلم -عاشق- لـ أحمد حاتم يتصدر شباك التذاكر