الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حين بيعت جمهورية بثمن ساندويش فلافل
زياد الزبيدي
2025 / 10 / 4مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
4 أكتوبر 2025
في مساءٍ خريفي من أكتوبر 1990، كانت برلين ترتجف لا من البرد، بل من شيءٍ أعمق: من صوت التاريخ وهو يُطوى كصفحةٍ في كتابٍ عتيق.
إرتفع العلم الأسود–الأحمر–الذهبي فوق المباني الحكومية، بينما راقب الجنود السوفيات المشهد من خلف نوافذ ثكناتهم بصمتٍ ثقيل.
كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية تودّع نفسها.
«إختفت من على الخريطة كأنها سراب»، كتب المؤرخ الروسي فاليري بورت بعد خمسةٍ وثلاثين عاماً في مقال على مؤسسة الثقافة الاستراتيجية (2025).
إختفى كل شيء في يومٍ واحد: البرلمان، الحكومة، المحكمة العليا، النشيد، الدستور، حتى الأغنية التي كان الأطفال يرددونها في المدارس عن الصداقة الأبدية بين برلين وموسكو.
كانوا يغنون Freundschaft!»
والآن لم تبقَ من تلك الصداقة سوى أصداء تتلاشى بين الجدران المتداعية.
الوداع البارد
في موسكو، ساد صمت يشبه صمت المقابر. صحيفة «برافدا» تحدثت ببرودٍ عن «الإحتفالات بوحدة ألمانيا» وذكرت أن ميخائيل غورباتشوف بعث ببرقية تهنئة «آملاً في علاقات حسن جوار». لكن خلف الكلمات البروتوكولية، كان الإتحاد السوفياتي نفسه يتهاوى.
كتب فاليري بورت بمرارة:
«كأن الكرملين شاهد جنازة أحد أبنائه وإبتسم في وجه الغرب.»
لم يكن في الأمر إقتصاد ولا أزمة ولا إفلاس.
كانت الجمهورية الألمانية الشرقية، كما يذكّر الكاتب، سادس قوة صناعية في أوروبا، متقدمة في الإلكترونيات والهندسة والبصريات.
لكنها سقطت، لا لأنها ضعفت، بل لأن من كان يحميها تعب من المقاومة وبدأ يبحث عن تصفيق الغرب بدل إحترام الشرق.
قبلة يهوذا
في أكتوبر 1989، وقف إريش هونكر إلى جانب غورباتشوف في إحتفال الذكرى الأربعين لتأسيس الجمهورية. تعانقا أمام الكاميرات. لكن المؤرخين سيقولون لاحقاً إن تلك كانت «قبلة يهوذا».
فبعد أسبوعين فقط، أُطيح بهونكر، وبدأت أحجار الجدار تتساقط كأنها عظامٌ من زمنٍ ميت. لم يعد هناك من يصدّ العاصفة. في الغرب، كان هيلموت كول يبتسم. كان يعرف أن التاريخ في صفه، وأن الرجل في الكرملين مستعد ليبيع كل شيء من أجل وعدٍ بالتصفيق.
بعد سنوات، سيقول كول ضاحكاً: «لو طلب غورباتشوف مئة مليار مارك مقابل الشرق، لدفعناها. لقد حصلنا على جمهورية ألمانيا الديمقراطية بثمن شطيرة!
هكذا بيعت دولةٌ كاملة — شعبٌ، أرضٌ، مصانع، أحلام — بثمن وجبة غداء.
الوحدة التي لم تُوحّد
حين سقط الجدار، خرج الشرقيون يحتفلون، يرقصون، يحلمون. ظنوا أن الغرب سيفتح لهم ذراعيه، أن الرفاهية ستنهمر من السماء، أن التاريخ بدأ صفحة جديدة. لكنهم إستيقظوا بعد أشهرٍ على واقعٍ آخر. قال أحد سكان لايبزغ للصحفي ياروسلاف شيموف عام 1995:
«ظننا أن المحتلين هم الروس، لكننا إكتشفنا أن المحتلين الحقيقيين جاؤوا عام 1990 من الغرب، ويتحدثون لغتنا نفسها.» بدأت المصانع تُباع بأبخس الأثمان، وتحوّلت المدن الشرقية إلى مناجم مهجورة يبحث فيها المستثمرون الغربيون عن «الذهب الإشتراكي».
85 بالمئة من إقتصاد الشرق إنتقل إلى أيدي الغرب خلال سنوات قليلة. إرتفعت الأسعار، تفاقمت البطالة، وإختفت مجانية الطب والتعليم.
وفي اللغة الألمانية وُلدت كلمات جديدة تُعبّر عن الجرح:
Ossi
(الشرقي الذي خسر كل شيء)،
Wessi
(الغربي المنتصر)،
Ostalgie —
الحنين إلى ما كان، إلى النظام الذي ربما لم يكن مثالياً، لكنه كان إنسانياً أكثر من «الحرية المعلّبة» التي جاء بها السوق.
ظلّان على طريقٍ واحد
يختم فاليري بورت مقاله بمشهدٍ يقطر رمزيةً:
على طريقٍ روسي قديم، يلمح الكاتب سيارة «ترابانت» ألمانية شرقية تشق الطريق بتثاقلٍ، تتبعها سيارة «زابوروجيتس» سوفياتية قديمة.
يكتب:
«سارا معاً لبعض الوقت، كأنهما تتحادثان. لقد رحل البلدان اللذان صنعاهما، لكنهما بقيتا على الطريق... ومعهما الذاكرة، لكلٍ ذاكرته الخاصة.»
مشهد بسيط، لكنه يوجز كل شيء: جمهوريتان رحلتا، وأيديولوجية إنكسرت، لكن الصدأ الذي يغطي المعدن لا يمحو الأثر. تلك السيارات العجوز، كأشباحٍ من زمنٍ آخر، تذكّر بأن التاريخ لا يُدفن بالإتفاقيات، ولا بالإبتسامات أمام الكاميرات.
خاتمة: جمهورية في مرآة النسيان
لم تكن وحدة ألمانيا، كما يُحب الغرب أن يصفها، إنتصارًا للحرية، بل عملية شطب كاملة لهويةٍ بأكملها.
بيعت دولة إشتراكية كانت تملك صناعتها ومبادءها وثقافتها بثمنٍ رمزي، تحت أنظار قائدٍ سوفياتي فقد البوصلة.
واليوم — كما يكتب بورت — تقف ألمانيا الموحدة على الجهة الأخرى من المتراس، تزود أوكرانيا بالسلاح وتحرّض على روسيا.
دوائر التاريخ تكتمل، لكن الذاكرة تبقى، تهمس في آذان من عاشوا تلك الأيام:
«لقد كانت لنا جمهورية، وبيعت بثمن شطيرة.»
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كيف حال السودانيون في مصر الآن ؟
.. السودان : لماذا يتواصل الصراع في ظل لامبالاة دولية ؟
.. قمة العشرين 2025.. واشنطن خارج الطاولة
.. معاريف: واشنطن تمارس في الأيام الأخيرة ضغوطا للسماح بمرور آم
.. ما هي ساعة نهاية العالم؟