الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرةُ العراقيِّ الفَرد في تاريخِ اليومِ والغدّ

عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث

(Imad A.salim)

2025 / 10 / 12
سيرة ذاتية


في كلّ بلدانِ العالَمِ، للغَدِ طَعمٌ مُختلف، نكهةٌ أعذَب، مَذاقٌ أطيب، تفاصيلٌ صغيرةٌ لعَيشٍ أفضل.. إلاّ هُنا في العراق.
خِلافاً لكلّ شعوبِ وأُممِ الأرض فإنّ الغَدَ في العراق لن يكونَ لهُ مذاقٌ مُختَلِفٌ عن المذاقِ المُرِّ لهذا اليومِ "الماصِخِ" الذي نحنُ فيه.
الغدُ في العراقِ خالٍ من الدهشة.. ليس لهُ وقعٌ أو إيقاعٌ مُختَلِف.
الغَدُ في العراقِ هو مصدرٌ دائمُ للخوف، لأنّهُ يُراكمُ مخاوفَ الأيّامِ السابِقَةِ، بدلاً من تبديدها.
الغَدُ هنا (بالنسبةِ لمعظمِ العراقيّين) يبدو مُظلِما على الدوام.. لا ضوء فيه، ولا أُفقَ له.
غَدٌ طافِحٌ بالشكوكِ العميقة.
لماذا؟
لأنّكَ عندما تذهب إلى طبيب الأسنان، لتحظى بابتسامةٍ أفضل تستقبلُ بها يومَ غد، فإنّهُ سيُخبرُكَ (وقبلَ أن تجلس على كُرسيّ الفحص) بأن جميع اسنانكَ قد تبدأ بالتساقط.. اعتباراً من الغَدّ.
وعندما تذهبُ إلى "طبيب القلبيّةِ والباطنيّة"، لتحظى بقلبِ أكبرَ، وأكثرَ "بَياضاً"، لتعيش به بين الناسِ (وكأنّ قلوب الناس كانت دائماً ناصعةَ البياض).. فإنّهُ سيخبركَ (وقبلَ أن يضَعَ السمّاعةَ فوق صدرِكَ "المُقرمَش") بأنّ هناكَ احتمالٌ كبير بأنّكَ قد تُصابُ بالجلطةِ الأخيرةِ (التي قد تكونُ "دماغيّةً" أيضاً).. اعتباراً من الغَدّ.
تذهبُ إلى طبيب العيون، لترى العالمَ أجمل، والناسَ كما هُم، وليس كما تعتقدُ أنت.. فيخبركَ (بعدَ غَمزةٍ خاطفةٍ لعينيكَ المُتعَبَتين) بأنّكَ قد تُصابُ بالعمى.. اعتباراً من الغَدّ.
تذهبُ إلى طبيبَ الأنفِ والأُذنِ والحُنجُرة، فيُخبِرُكَ بعبوس بأنّ "جِدْرَ الدولمة"، و صحنِ "البامية" ، و"ماعون اليابسة" ستفقِدُ مذاقها العراقيّ بالنسبة لك، ولن يكونَ لـ"فيروز" أو لـ "سعدي الحِليّ" وجودٌ صباحيٌّ (أو مسائيّ) في حياتكَ البائسةِ بعد الآن.. وأنّكَ لن تولوِلَ بـعد الآن بـ "أبوذيّاتكَ" الكالِحةَ (في "طَرمَةِ" البيت) لتزعجَ بصوتكَ "المُنكَر" المِزاجَ الرائِقَ والذائقةَ "السيمفونيّة" للعائلةَ والجيران.. وأنّ عليكَ استبدالَ "جيوبكَ الأنفيّةَ" بخياشيمِ "السَمَكِ الجِرِّي" لكي تتنفّسَ الهواءَ "المكروهَ" بعُمق.. وأنّ كُلّ هذا سيحدثُ لك، اعتباراً من الغَدّ.
تذهبُ إلى طبيب الأمراض النفسية والعصبية، فيقولُ لكَ بثِقة مُطلَقةٍ وهو يبتَسِم ببرود، بأنّ كُلّ شيءٍ فيكَ قد أصابَهُ التَلَف، وأنَّ عليكَ على الفور أن "تَعهَدَ عَهدَك، وتَلُمَّ شملَك، وتكتبَ وصيّتك"، لأنك قد تبدأ محاولاتكَ الحثيثةَ لقتلِ نفسكَ.. اعتباراً من الغَدّ.
تذهبُ إلى من أصبحوا مُصادفةً "أولياءَ الأمرِ" في هذا البلد.. فيخبرونكَ بأنّ "أبوابَ الجحيم" قد تُفتَحُ عليكَ إذا تجرّأتَ يوماً، وقُلتَ لهُم "أُفّاً"، أو "نَهَرتَهُم".. أو إذا لم تقم بانتخابِهِم في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، وأنّ هذه "الأبوابُ" سيتُمُّ فتحها لهذا الغرض.. اعتباراً من الغَد.
تأتي إلى "هنا"، إلى حقل "التيسبوك" الفسيح، وتحاولُ أن تكتبَ شيئاً، أيّ شيءٍ، ليُخفّفَ عنك محنتَك، أو لتُرَفِّهَ عن نفسك، وتتملّصَ من "العقوباتِ" البشريّةِ عليك.. فيكتبُ لك بعض أحفادِكَ من "الأصدقاء" الشباب:
لقد عشتَ يا "جِدّو" حياتكَ بالطول والعَرض، وبلغتَ من العُمر"عِتِيّا".. أما نحنُ فلم نحيا ولو ليومٍ واحدٍ حياةً ذاتَ معنى.. وكانت حياتنا أكثرُ صعوبةً وتعقيداً من حياتكم.. وأنّنا قد "عشنا طويلاً" دون جدوى، وأنّنا قد حارَبنا على جميع الجبهات، بل أنّنا "مُتنا"، وشبَعنا موتاً، ولم "نستَشهِد" مثلكم.. وعلى الرغم من كوننا من مواليد 2007 فما فوق، فإنَّ لا أملَ لنا بشيءٍ أفضلَ قد يحدثُ لنا يومَ غَدّ، بل نحنُ أصلاً.. ليسَ لنا غَد!
يبدو أنّ أفضل شيءٍ يمكنُ لكَ أن تفعلهُ بحياتكَ الكئيبةَ هذه، في هذا العراق الكئيب، هو أن تضَعَ كلّ هذا الهراء "الوجوديّ" حول الأمسِ واليومِ والغَدّ تحتَ مؤخّرتكَ العتيقة.. وتذهبُ إلى "جُحرِكَ" الخاص.. وتواصِلُ "سُباتَكَ" الدائمِ هناك.. كأنّكَ "دُبٌّ" مُصابٌ باللوكيميا، نتيجةً لنفوقِ سَمَك "السَلَمون" في نهرِ دجلة، وسمَك "التونة" في نهر الفرات.
ستنامُ طويلاً.. وتنامُ، وتنام.. إلى أن يقومَ هذا الوقتُ الشخصيُّ و "العراقيُّ" البائِسُ باستهلاكِ نفسه..
ولا يكونُ لهُ غَدّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف ستغير الروبوتات مستقبل الزراعة


.. أنفاق حماس .. كيف سيدمر كاتس مدينة أرضية كاملة؟ | #التاسعة




.. بالخريطة التفاعلية.. هذه أبرز تطورات الحرب الروسية على أوكرا


.. أوروبا تقترب من حظر الغاز الروسي.. هل ينجح الغرب في تجفيف من




.. مستوطنون يهاجمون مزارعين فلسطينيين في بلدة بيتا جنوبي نابلس