الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الصدمة والنزيف: قراءة عراقية في رؤيتين لطوفان الأقصى

عامر عبد رسن

2025 / 10 / 14
السياسة والعلاقات الدولية


بينما تنشغل المنطقة بتأملات ما بعد طوفان الأقصى، يجد العراق نفسه في موقعٍ حرجٍ بين خطابين: الأول إيرانيٌّ رسميٌّ بدأ يُراجع ذاته بعد أن دخلت نيران الحرب حدودَه الداخلية، والثاني ينطق بلسان محورٍ ما زال يرى في الدمّ رافعةً للنهضة. نحن، العراقيين،
نقف على تخوم التجربتين؛ فقد عشنا نتائج الحروب دون أن نكون طرفًا مباشرًا فيها، وندفع ثمن اختلال التوازن الإقليمي في كلّ مرة. من هنا، لا بدّ أن تُقرأ المقارنة بين افتتاحية جمهوري إسلامي ومقال عادل عبد المهدي لا كمجرّد تحليل لخطابين،
بل كمحاولة لفهم أين يقف العراق الآن بين صراحة الاعتراف الإيراني وحماسة التفاؤل المحوري.
ربما قبل يومٍ واحد من اليوم، اطلعنا على نصّين يبدوان للوهلة الأولى متقابلين، لكنهما في العمق يُكملان لوحة الحقيقة من زاويتين متباينتين في اللغة والموقع والرؤية.
الأول افتتاحيةٌ نادرة الجُرأة نشرتها صحيفة جمهوري إسلامي الإيرانية بعنوان: هل كان لهذه العاصفة فائز؟، جاءت محمّلة بقدرٍ غير مسبوق من الصراحة السياسية والمراجعة الفكرية، إذ تجرأت على وزن الوقائع بأوزانها الحقيقية لا بأحلامها،
متخلّيةً عن الخطاب الطوباوي الذي اعتادت عليه الصحافة الثورية، ومقرّةً بأنّ الحرب الممتدة من غزة إلى طهران ولبنان واليمن تركت وراءها ركاماً من الأسئلة أكثر مما خلّفت من الانتصارات.
كانت نبرة المقال أقرب إلى صوت العقل حين يستفيق من حمى الشعارات، فتعترف طهران، عبر منبرها الأقدم، بأنّ طوفان الأقصى لم يكن مجرّد ملحمة بطولية، بل زلزالاً مدمراً خسر فيه الجميع شيئاً من الحلم، وشيئاً من القدرة، وشيئاً من الثقة.
أما النص الثاني، فكان مقالةً فكرية موسّعة بقلم السيد عادل عبد المهدي بعنوان طوفان الأقصى: صدمة كهربائية أعادت نبض القضية الفلسطينية، نُشرت في ملحق جريدة العدالة ببغداد، حيث قدّم قراءة مفعمة بالتفاؤل الرصين والإيمان بجدلية المقاومة والتاريخ.
رأى فيها أنّ ما حدث لم يكن كارثة، بل صدمة إحياء، أعادت للقضية الفلسطينية نبضها بعد موتٍ سريري طويل، وكشفت زيف معادلات الردع والتطبيع، وأجبرت العالم على إعادة تعريف الصراع من كونه «نزاعاً إنسانياً» إلى كونه احتلالاً استعمارياً لا يُواجه إلا بإرادة التحرر.
فبين صراحةٍ واقعيةٍ إيرانية تزن الخسائر بمكيالها البارد، ورؤيةٍ عراقية متفائلة تعتبر الدم ثمناً ضرورياً لإعادة الوعي، تتكشف أمامنا مفارقة الشرق الأوسط الجديد: هل نحن أمام نزيف الوعي أم صحوة التاريخ؟
لقد قرأت جمهوري إسلامي الحرب بعين الجريح الذي يراجع نفسه بعد معركة خاسرة، فيما قرأها عبد المهدي بعين الطبيب الذي يرى في الصدمة بداية التعافي، كلا النصّين لا ينكران هول المأساة، لكنهما يختلفان في تفسير معناها؛
فالأول يقف عند الدم بوصفه الخاتمة، والثاني يراه بدايةً لإعادة الميلاد.
إيران، التي دفعت ثمناً باهظاً في الحرب الإسرائيلية–الأميركية عليها، وودّعت رموزاً من قادتها وعلمائها، لم تعد ترى في طوفان الأقصى نصرًا مؤجلاً، بل خطأً استراتيجياً أطلق سلسلة حرائق لا تزال تلتهم ما تبقّى من رصيد المحور.
أما بغداد، التي حافظت على مسافةٍ متوازنة من المحاور، فتقرأ الحدث بعقلٍ عربيٍّ هادئ يرى في اشتعال النيران فرصة لإعادة التوازن في الإقليم. تبدأ المقارنة من السؤال ذاته الذي طرحته الصحيفة الإيرانية: هل كان لهذه العاصفة فائز؟
وهو سؤال نادر في الصحافة الإيرانية الرسمية لأنه يواجه الرواية السائدة من داخلها.
إذ تقول الافتتاحية إنّ عملية طوفان الأقصى كانت خطأً منذ البداية، لأنها وإن أظهرت بطولة المقاتلين، إلا أنها جرّت المنطقة إلى دمار شامل وخسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتية، وأدت إلى انهيار كينات بأكملها في غزة ولبنان واليمن،
وصولاً إلى اشتباكٍ عسكري مباشر مع إيران. وفي لغة تكاد تقترب من النقد الذاتي، تعترف الصحيفة بأنّ المقاومة الفلسطينية فقدت معظم قياداتها الميدانيين والسياسيين، فضلا عن الخسارة الكبيرة ّ إذ سقط السيد حسن نصر الله شهيداً،
وأنّ الحكومة اللبنانية الجديدة أصبحت أقرب إلى واشنطن وتل أبيب من أيّ وقتٍ مضى، وأنّ الحرب على إيران، رغم فشلها في تحقيق أهدافها، كلّفتها ألفاً ومئة شهيد وتدمير مواقع نووية استراتيجية.
إنها قراءة تُنزل الحروب من علياء الخطاب الثوري إلى أرض الحساب الواقعي، وتقول بصراحة: لا فائز في هذه العاصفة، لأنّ الكلّ احترق بنارها، وإنّ الانتصار الحقيقي هو أن نتعلّم من الخطأ لا أن نكرّره باسم البطولة.
في المقابل، يذهب عادل عبد المهدي إلى الضفّة الأخرى من المعنى، فالحرب في نظره ليست خسارة بالضرورة، بل تاريخٌ يتقدّم بالدم. يذكّرنا بأنّ كلّ حركات التحرّر في العالم دفعت أثماناً باهظة قبل أن تنتصر، وأنّ الدم في لحظة التاريخ ليس خسارة بل استثمار في الذاكرة.
من الناحية الفكرية، يعبّر النصّان عن فلسفتين متباينتين في فهم التاريخ: جريدة جمهوري إسلامي تنطلق من مبدأ الحدّ من الخسائر، أي الواقعية السياسية التي تحاول حفظ ما تبقّى من القدرة، بينما عبد المهدي ينطلق من الضرورة التاريخية التي ترى في كلّ دمارٍ بوابةً لخلقٍ جديد.
الأولى تتحدث بعقل الدولة التي تخشى نزيفها الداخلي، والثاني بعقل الفكرة التي ترى في الانكسار وقودًا للبعث الوطني. فالإيراني يزن الحرب بالنتائج الميدانية والسياسية، بينما عبد المهدي يزنها بتحوّل الوعي العالمي تجاه فلسطين: من فقد شرعية الخطاب، ومن كسبها.
تُظهر المقارنة أنّ إيران الرسمية بدأت تدرك كلفة الانغماس المفرط في ساحات المواجهة، وأنّ خطابها الإعلامي بات يميل إلى المراجعة أكثر من التعبئة، بينما الخطاب العربي الذي يمثله عبد المهدي يحاول استعادة روح القضية الفلسطينية من أسر المحاور ويمنحها استقلالها الرمزي والسياسي. غير أنَّ من المهمّ التمييز بين رؤية عبد المهدي كمفكرٍ من داخل المحور وبين موقع العراق كدولةٍ تبحث عن التوازن. فالمقال، مهما بدا عربيًّا في لغته، يعكس وجهة نظر محور المقاومة لا الموقف العراقي الرسمي الذي يسعى إلى تجنّب التورط في صراعات القوى.
في نهاية المطاف، تُدرك إيران – وهي خالقة المحاور التي امتدت عبر الإقليم – أنّ هذه المحاور التي كانت أدوات نفوذها تحوّلت اليوم إلى أثقالٍ ترهقها، فالنيران التي كانت تُشعلها عند الآخرين أصبحت تتقد داخل بيتها، لتكتشف أنّ فائض القوة لا يعوّض نزيف الداخل، في المقابل،
ما طرحه عادل عبد المهدي يظلّ صوتًا من داخل المحور يسعى لتثبيت المعنى الرمزي للمقاومة، لكنه لا يعبّر عن موقف الدولة العراقية التي تميل إلى الحياد الواعي والبراغماتية الحذرة.
لقد آن للعراق أن يُعيد تعريف موقعه في زمن التحوّل الإقليمي، وأن يُغادر لغة المحاور إلى منطق الدولة. فبين واقعية إيران المرهقة، ورومانسية المحور التي يتحدث بها عبد المهدي، يمتلك العراق فرصةً نادرة ليكون مركز الاتزان الجديد في الشرق الأوسط، إذا اختار أن يبني سياسته على الوعي لا على الانفعال، وعلى المصالح الوطنية لا على الشعارات العابرة. عندها فقط، يمكن أن تتحوّل الصدمة إلى وعي، والنزيف إلى شفاء، والسيادة إلى مشروع سلام عربي يبدأ من بغداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غناء رغم الألم.. فرحة خريجي المدارس في غزة وسط الأنقاض


.. خطة إسرائيلية لاستئناف القتال في غزة ونزع سلاح حماس بالقوة |




.. ماذا بعد التحقيق الأممي في انتهاكات الفاشر؟


.. ??عقود من الأزمات تصوغ ملامح الصراع بين الولايات المتحدة وفن




.. إدارة ترمب تضغط على إسرائيل لتحقيق تقدم نحو حلول قابلة للتطب