الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقامة شذرات من السيرة الذاتية .

صباح حزمي الزهيري

2025 / 11 / 4
الادب والفن


مقامة شذرات من السيرة الذاتية .

ما أصعب مرارة الأفول وسكين الذاكرة , عندما يجلس الإنسان فوق قمة عمر يسعى نحو الزوال , يأخذ تعامله مع الذكريات حيّزاً أوسع , لقد بات من عاداتي اليومية السير ساعة أو أكثر , وهي آخر رياضة يسمح بها للشيوخ بعد أن يودعوا الشباب والكهولة , وبعدما تتالى أوامر الأطباء وتحذيراتهم من القلوب المكدودة , وأثناء المشي , تومض الذاكرة بنفحات مما مضى , لأطل بهذه أو تلك على السيرة ثم لأعود مرة أخرى إلى الكهف العتيق , أحداث بعضها قريب وبعضها يبعد عنا بأربعين عاماً كاملة , يطاوعني القلم حيناً , ويخذلني حيناً آخر , كأن هناك معركة بين العقل والقلب.

يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة , لا أدري كيف أتناسى دنوّ النهاية وهيمنة الوداع , وإنما أقدم تحيةً للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة , تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة , شديد وقاسٍ هو إحساس أن العُمر مر, وأننا فجأة كبرنا , زادت مسؤولياتنا وتغيّرت أولوياتنا , بقينا نحتفظ بحزننا داخلنا , نبكي ونعاني في صمت , نتظاهر بالقوة والسعادة في عز ضعفنا , ورغم ذلك لا زال داخلنا ذلك الطفل الذي يريد أن يعيش حياته.

وعن السبعينات الذهبية للقرن الماضي ومولد الوعي , كنا قد عشنا حياة ثقافية ثرّة غنية فيها , وكانت تلك الفترة تمثل عصراً ذهبياً في تاريخ العراق المعاصر, كنت قد تم قبولي عام 1969 في جامعة بغداد قسم العلوم السياسية , وهي صدفة غيّرت مجرى حياتي , ولم يغب عنّا فضل قرار مجانية التعليم على أبناء جيلنا كله , كانت الكلية تعج بالحياة , تعرفت على طلاب وطالبات من طبقات اجتماعية مختلفة وذوي اتجاهات فلسفية وسياسية متباينة , من المثالية إلى المادية فالوجودية , شيوعيون , بعثيون , قوميون , عبثيون , كانت الأحاديث والنقاشات تحتدم حين يدور الموضوع حول السياسة , وفي هذا الوسط بدأت بالتعرف على عالمٍ جديد كان غائباً عني , مرحلة غنية أثْرت وأثرت على حياتي فيما بعد.

انغمست في عالم الأدب , فكنت أذهب مع الأصدقاء لمشاهدة المعارض التشكيلية وحضور الندوات والقراءات الشعرية التي عرّفتني على شعراء لا علاقة لهم بالعصر الجاهلي أو العباسي , شعراء ينتمون إلى (( الشعر الحر)) مثل: بدر شاكر السياب , ومظفر النواب , وسعدي يوسف , وعبد الوهاب البياتي , عام 1969 التقيت مظفر النواب في حفلة عرس , وأعجبني ذلك الهدوء العجيب الذي يتسم به سعدي يوسف وهو يلقي قصيدته , كانت كلماته تصلني هادئة شفافة مثيرة للتساؤل , واكتظّت مكتبتي بكتب الفلسفة والشعر والروايات , ولعل أبرز ما لاحظته عن تجارب هؤلاء الأدباء أنهم يذهبون في كتاباتهم إلى آخر حدود الأسلاك الشائكة , غير أنهم يتجنبون الاصطدام بالألغام , لذلك عرف بعضهم السجون وآخرون اكتفوا بالنقل والفصل.

كانت الأعوام والعمل في السفارات والدوائر السياسية في الخارجية قد أنضجت أسلوبي , كما بلورت الحوارات والصداقات والقراءات نظرتي للأدب وطبيعته ووظيفته , كنت قادراً على اكتساب الجميع , من كل القيادات والمدارس بلا استثناء , وأُطلق آرائي دون تحفظ أو مجاملة , كانت المناقشة والآراء تثري العقل والوجدان , كما ان صالون الدكتور تحسين (تحية لروحه الملهمة ورأيه المقتحم) كل يوم جمعة , قد فتح لي نافذة على التاريخ والأدب الإسلامي والغربي معاً , كنت في حاجة لمن أبثه ذلك الفيض من الأحاسيس والأحداث التي حملتها بين جوانحي , ومع حرارة المناقشة واحتدام الجدل , كان الجميع ملتزمين بحدود لا يتعداها أحد , ومع تعمّق الوعي , أخذت تتبخّر النظرة التقديسية إلى حد المعصومية , فانتقلت من اليقينية التبشيرية إلى التساؤلية العقلانية النقدية, هذا التحول أتى نتيجة انخفاض منسوب الحمولة الآيديولوجية , والابتعاد عن منظومة الدعاية المضلّلة , التي كانت تُضخّ إلينا , ناهيك عن الجهل بالكثير من الحقائق والمعطيات الصادمة.

فتحت لي القراءة باباً يطل على عالم من الخيال بدا وكأنه عالمي المفضل , انه الإيمان بالتفاصيل وفلسفة العيش , لقد كان قدري أن تقودني القراءة إلى الكتابة دون وعي مني أو إرادة , حتى إذا ما نضجت العادة واشتد ساعدها , راحت تزهر حباً بلا نهاية للكتب والكتّاب , وآمنت بالفلسفة التي تقول إن من لا يعيش حياته لا يستحقها , وأضحيت لا أحب هؤلاء السُذّج الذين يتخرجون بمعدلات عالية وتخصصات علمية مهمة , لكنهم لا يسمعون الموسيقى , ولا يعرفون شاعراً واحداً , ولا يحاولون كتابة قصيدة أو رسم لوحة , ولا أفهم هؤلاء الناس الذين بلا طقوس شخصية , بلا عادات , بلا تفاصيل , لا يهتمون بألوان الأزرار, ولا خشب المقاعد , ويرضون بأي سائل ساخن أحمر فلا يتوقفون عند نوع الشاي.

الحياة في التفاصيل , في الأحاسيس , في الذائقة , في معنى أن تهز رأسك حزناً أو فرحاً أو طرباً لمقطع من أغنية قديمة , أو أن تنفعل برائحة الياسمين تهب من شارع عتيق يطل على بستان مزوي على نهر خريسان , ان جمال الطبيعة , وشيوع الخيرات , وسريان البهجة والطمأنينة , كلها عناوين لتلك الأيام التي لن تعود , فنستذكر أولئك الذين رحلوا وكان وجودهم سر جمالية الأمكنة , الذين عاشوا على حب الناس وتحلوا بالوفاء والطيبة والنوايا غير المغشوشة , والذين لا نرى نظيرهم في زمان التعاسة الذي نعيشه.

صباح الزهيري .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ 46 بعرض فيلم ال


.. من هو أحمد تيمور خليل الذي خطف قلب برنسيسة الوسط الفني؟!




.. -الحياة فيها لعبة ومافيش تعبان لدغني??-.. لعبة السلم والتعبا


.. الفنانة المصرية مي عز الدين تزفّ لجمهورها خبر زواجها من أحمد




.. مي عز الدين تعلن عقد قرانها من خارج الوسط الفني