الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العراق… بين الطين والوصاية
حامد الضبياني
2025 / 11 / 4قضايا ثقافية
العراق… ذلك الكائن الذي كُتب عليه أن يكون ساحةً تتقاطع فيها إراداتُ الآخرين قبل أن يكتشف إرادته. أرضٌ نُسجت من طين الأنبياء ودم الشهداء، لكنّها اليوم تُساق بخيوطٍ غير مرئية، تتدلى من أصابعٍ غريبةٍ تُدير المشهد من خلف الستار، وتدّعي الحماية وهي تمارس الوصاية. في كلِّ مرةٍ يُطلُّ فجرُ إصلاحٍ محتمل، تُطفئه يدُ السياسة قبل أن يُتمّ الشروق، وكأنّ العراق محكومٌ بأن يظلّ في المنطقة الرمادية بين الدولة واللا دولة، بين القرار والسيطرة، بين السيادة والولاء.في تصريحٍ أثار دهشةَ العارفين، رفضَ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني نزعَ السلاح من الميليشيات العراقية، وكأنّه يعلن أنَّ السلاحَ باتَ هويةً موازيةً للوطن، وأنّ من دون تلك البنادق لن تقوم للعراق قائمة. ربطَ نزعَ السلاح بانسحاب القوات الأمريكية، فصارَ الأمنُ العراقي مرهونًا بالمساومة، لا بالمؤسسات. نسيَ أن تلك القوات –على ما فيها من جدلٍ وتاريخٍ متشابك– كانت يومًا ما صمّامَ الأمان الذي حال دون انهيار البلاد حين تمددت الفوضى في 2014، يومها لم يكن السلاحُ العراقيّ كافيًا ولا الولاءُ الوطنيّ حارسًا.
هكذا يُدار العراق اليوم بمنطق المقايضة لا بمنطق الدولة. السياسة فيه سوقٌ مفتوحةٌ للمناورات، لا للتفاهمات. كلُّ شيءٍ قابلٌ للبيع: القرار، الولاء، وحتى الحلمُ البسيط لمواطنٍ يريد أن يعيش بلا خوف. الفصائل التي وُلدت من رحمِ الحروب صارتْ الآن أمًّا للدولة، تُرضعها الأوهام وتربيها على الاتكاء على الخارج. وما الخارجُ سوى إيران، تلك الجارة التي تحوّلت من جارٍ إلى قَدَرٍ، ومن شقيقٍ إلى وصيٍّ يرى في العراق ذراعًا طويلةً لمشروعه لا شريكًا في الوجود.إيران، وهي تحتفل بيوم “مقارعة الاستكبار”، لا تُقارع إلا شعبها. تهتف بالموت لأمريكا فيما يختنق الإيرانيّ في صفوف الخبز والحرمان، وتهتف للقدس وهي تسرق قوت الفقراء لتموّل ميليشياتٍ تنشر الموت باسم المقاومة. من يتحدث عن “مقاومة الاستكبار” وهو يُكمّم أفواه شعبه ليس ثائرًا، بل طاغيةٌ يختبئ وراء الشعارات المهترئة كمن يتدثر بثوبٍ مبلّل في عاصفة. خامنئي، في نشوته الخطابية، يعلم أن لا أحد يريد التفاوض معه، فيحاول حفظ ماء وجهه بادّعاء القوة، ويشترط انسحاب أمريكا قبل الحوار، كمن يشترط سقوط السماء ليؤمن بالمطر.أمّا العراق، فهو المرآة التي تنعكس فيها تناقضاتُ إيران. كلما ضعفت طهران، شدّت قبضتَها على بغداد. كلما جاع الإيراني، امتلأت جيوب سماسرة السياسة في الجنوب. وحين يحتجّ العراقي على الفساد، يُتهم بالعمالة، وكأنّ الوطنية أصبحت ماركةً مسجلة باسم الميليشيات، لا انتماءً فطريًّا لوطنٍ منهكٍ من الطاعة والانقسام.في المشهد الانتخابيّ، تتجلى الكارثة بأوضح صورها. أغلب المرشحين نتاجُ زمنٍ هجينٍ لا يفرزُ نخبةً بل يعيد إنتاج الرداءة. المستوى المتدني للخطاب، الفقر الفكريّ، انعدام الرؤية، كلّها تعكسُ عُمقَ الفساد الذي تحوّل من ظاهرةٍ إلى ثقافة، ومن ثقافةٍ إلى منظومةٍ أخلاقيةٍ مقلوبة. صار الفاسد ينتخب مثيله، والمنافق يُزيّن للمنافق سوءَ عمله، فغدت صناديقُ الاقتراع أشبه بمرآةٍ تعكس بشاعة المشهد السياسيّ لا إرادة الشعب.العراق اليوم يقف في مفترقٍ فلسفيٍّ لا سياسيّ: إما أن يُعيد اكتشاف ذاته كفكرةٍ تتجاوز الطائفة والوصاية، أو أن يذوب في خريطةٍ يُرسم لونها في طهران وتُنفّذ خطوطها في بغداد. لم يعد السؤال: من يحكم العراق؟ بل: هل ما زال العراق يحكم نفسه؟ بين سطور التصريحات والاتفاقيات، ثمة وطنٌ يبحث عن ملامحه، عن اسمه القديم حين كان يُدعى “بلاد الرافدين” لا “المنطقة الخضراء”.ربما لا يحتاج العراق إلى جيوشٍ جديدة، بل إلى ذاكرةٍ نظيفة. إلى وعيٍ يعيد ترتيب المعنى، لا السلاح. فالأوطان لا تُبنى بالبندقية، بل بفكرةٍ تُضيء الطريق وسط الظلام. وإلى أن يستعيد العراقيّ وعيه الجمعيّ، سيظلّ المسرح مفتوحًا للممثلين القادمين من وراء الحدود، وسيتحول الوطن من خريطةٍ إلى روايةٍ تُروى في مجالس السياسة، تُبدّل نهايتها حسب مَن يمسك القلم.لكنّ العراق، مهما انكسر، يظلّ كالفجرِ المؤجل، لا يموت في الغروب، بل يُؤجّلُ شروقَه ليومٍ يليقُ بدمه وتاريخه. يومٍ تُسكت فيه البنادقُ وتتكلمُ الضمائر. يومٍ تُكسر فيه وصايةُ الشرق والغرب معًا، ويقفُ العراق أخيرًا، كما وُلد أول مرة، سيدًا من طين الرافدين… لا من رماد الآخرين.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. العفو عن صنصال بعد طلب ألماني
.. -تقبلت فكرة الموت بهدوء-... سيباستيان يروي لفرانس24 لحظات رع
.. فرنسا: الجمعية الوطنية تصادق على -تعليق- تعديل نظام التقاعد
.. ترامب لفوكس نيوز عن تهديده بمقاضاة BBC: لدي التزام بذلك
.. هل تنجح حكومة العراق الجديدة في تجاوز ألغام الداخل وضغوط الخ