الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
رؤية كمال الحيدري في شمولية الحقيقة الدينية وتعدد طرق الوصول إلى الله
داود السلمان
2025 / 11 / 4العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يقول الحيدري إن ما وصل إليه من قناعة لم يأتِ عن تقليد أو تسليم، بل عن دراسة وتأمل وبحث طويل في الأديان والمذاهب والفلسفات. وهو يقرّ بأن المعرفة البشرية محدودة، وأن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه لا يستطيع أن يحيط بكل الحقيقة الإلهية. من هنا، فإن القول بأن ديناً واحداً يحتكر الحقيقة المطلقة يصبح تعبيراً عن نوع من الغرور المعرفي. فكل دين بحسبه هو محاولة بشرية لفهم الحقيقة الإلهية المطلقة، ولذلك فإن كل دين يحمل نصيبه من الصواب والخطأ، من النور والظل، من الكمال والنقص. وهذه الرؤية تفتح باباً واسعاً لفهمٍ أكثر تسامحاً وعدلاً بين أتباع الأديان، إذ تدعو إلى تجاوز منطق التكفير والإقصاء إلى منطق الاعتراف المتبادل والبحث المشترك عن الحقيقة.
ويرى الحيدري أن السبب في تمسّك الكثيرين بفكرة أن دينهم وحده هو الصحيح يعود إلى عاملين أساسيين: الأول نفسي، والثاني معرفي. أما العامل النفسي فهو ارتباط الإنسان بدينه منذ الطفولة، حيث يتربى على أن دينه هو الأفضل والأصدق، وأن الآخرين على ضلال مبين!، فيتشكل لديه وعي مغلق لا يسمح له بالنظر إلى الأديان الأخرى نظرة حيادية. وأما العامل المعرفي فهو الجهل ببقية الأديان. فالقليل من الناس يقرأ فعلاً في الديانات الأخرى قراءة متأنية موضوعية، والقليل من العلماء انفتحوا على الفكر الديني الإنساني خارج حدود ثقافتهم الموروثة. لذلك يقول الحيدري بوضوح: "لا يوجد إنسان قرأ جميع الأديان وقارن بينها وبين دينه"، أي أنه من الناحية الواقعية لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه درس كل الأديان دراسة معمقة تمكنه من الجزم بأن دينه هو وحده الصحيح.
ومن هذا المنطلق، لا يعني الحيدري أن كل الأديان على درجة واحدة من الصحة، بل يرى أن لكل دين نصيبه من الحقيقة، وأن هذا النصيب يختلف باختلاف درجة قربه من القيم الإلهية العليا كالتوحيد والعدل والرحمة والحرية. فالدين الذي يعزز هذه القيم هو أقرب إلى الحقيقة، والدين أو الفهم الديني الذي يبتعد عنها هو أبعد عنها، حتى لو ادّعى الانتساب إلى الوحي. في هذا الإطار، يميز الحيدري بين "الدين الإلهي" في جوهره، و"الفهم البشري" لذلك الدين. فالدين الإلهي واحد من حيث الأصل، لكن البشر فهموه بطرق متعددة وأنتجوا مذاهب وفرقاً وتفسيرات مختلفة. لذلك لا يمكن محاسبة الأديان من خلال مظاهرها التاريخية فقط، بل يجب النظر إلى جوهرها ومقاصدها الكبرى.
ويؤكد الحيدري أن البحث في الأديان يجب أن يكون بحثاً علمياً حراً لا يخضع للموروث ولا للسلطة، لأن كثيراً من النزاعات الدينية والمذهبية عبر التاريخ لم تكن في حقيقتها خلافات حول الله أو الحقيقة، بل صراعات على السلطة والنفوذ والتأويل. وعندما يتحرر الإنسان من هذه القيود يستطيع أن يرى أن كل الأديان في أصلها تدعو إلى الخير، وأن جوهر الدين ليس في الطقوس والشعائر فحسب، بل في القيم التي يحملها. هنا تلتقي الرؤية الفلسفية للحيدري مع الفكر الإنساني العالمي الذي يرى أن التنوع الديني والثقافي هو جزء من إرادة الله في خلقه، وأن التعدد لا يعني التضاد بل التكامل.
هذه النظرة تجعل من الحيدري واحداً من أبرز المفكرين الدينيين المعاصرين الذين يسعون إلى تجديد فهم الدين من الداخل، لا عبر رفضه أو استبداله، بل عبر إعادة تأويله بما ينسجم مع الوعي الحديث والكرامة الإنسانية. وهو يرى أن الحوار بين الأديان ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية لإنقاذ العالم من صراعاته العقائدية. فالعالم اليوم بحاجة إلى خطاب ديني يعترف بالآخر لا يُقصيه، بل يفهمه لا يُشيطنه، يحاوره لا يُقاتله. ومن هذا المنظور، يصبح الاعتراف النسبي بصحة الأديان جميعها خطوة في طريق تحقيق السلام الديني والإنساني، لأن كل اعتراف بالآخر هو في عمقه اعتراف بحدود الذات.
ولا يعني ذلك أن الحيدري يدعو إلى المساواة المطلقة بين الأديان أو إلغاء الفوارق بينها، فهو يقرّ بأن لكل دين خصوصيته وفرادته، لكنّه يدعو إلى النظر إلى هذه الفوارق بوصفها اختلافات في الفهم لا في الحقيقة الإلهية المطلقة. فالله واحد، والحقيقة واحدة، لكن الطرق إلى الله متعددة بعدد البشر وتجاربهم. ولهذا فإن من الخطأ أن يحاكم الإنسان ديناً آخر من داخل منظومته العقدية، لأن كل منظومة لها مفاهيمها ومصطلحاتها ورؤيتها للوجود. والإنصاف يقتضي أن يُفهم كل دين من داخله، بلغة أهله وتجربتهم الروحية، لا من خارجه أو من خلال أحكام مسبقة.
ويرى الحيدري أن الإنسان حين يدرك محدودية معرفته، يتحرر من التعصب، لأن التعصب وليد الجهل. فكلما اتسع العلم ضاق التعصب، وكلما تعمق الإنسان في معرفة الآخر اكتشف أن المشتركات أكثر من الفوارق، وأن أصل الخلاف في كثير من الأحيان هو في اللغة والتاريخ والمصالح لا في جوهر الإيمان. ومن هنا تأتي أهمية دعوته إلى قراءة نقدية مقارنة للأديان، قراءة تنطلق من احترام التجارب الدينية المختلفة لا من محاكمتها. فالمؤمن الحقيقي عنده ليس من يرفض الآخر، بل من يسعى لفهمه والتواصل معه، لأن الإيمان الحق لا يقوم على الخوف من الاختلاف بل على الثقة بالحق.
بهذه الرؤية، يقدم كمال الحيدري مشروعاً فكرياً يتجاوز حدود المدرسة الكلامية التقليدية، ليدخل في فضاء الحوار الحضاري الإنساني. إنه لا يلغي الدين، بل يحاول أن يضع الحقيقة في إطارها الإنساني الواقعي، حيث الإنسان هو الباحث الدائم عن المطلق، والعجز عن الإحاطة به هو ما يمنح التجربة الدينية معناها الأعمق. فالإيمان عنده ليس يقيناً مغلقاً، بل رحلة مفتوحة نحو الحقيقة. وهذه الرحلة تمر عبر الإصغاء للآخرين، لأنهم يشكلون مرايا مختلفة تعكس جوانب من تلك الحقيقة الواحدة التي لا يملكها أحد بمفرده.
إن رؤية الحيدري للأديان باعتبارها طرقاً متعددة نحو الحقيقة الإلهية تمثل دعوة جريئة لإعادة النظر في مفهوم “الحق والباطل” كما استقر في الوعي الديني التقليدي. فبدلاً من أن يكون الحق حكراً على جماعة دون أخرى، يصبح الحق قيمة مشتركة تتجلى بأشكال متعددة في مختلف الأديان. وهذا لا يعني تذويب الفوارق العقدية، بل إدراك أن الحقيقة الإلهية أوسع من أن تُختزل في صيغة واحدة أو نص واحد أو مذهب واحد. بهذا الفهم، تتحول الأديان من أدوات صراع إلى جسور تواصل، ومن أسباب فرقة إلى منابع وحدة، ومن مصادر خوف إلى ينابيع أمل.
وبكلمة واحدة نقول، إن كمال الحيدري لا ينكر خصوصية الإسلام ولا يعادي الأديان الأخرى، بل يسعى إلى تأسيس وعي ديني جديد يقرّ بأن الطريق إلى الله لا يُقاس بعدد الأسماء والشعائر، بل بصدق النية وعمق التجربة. فالله، كما يقول، لا يُحاصر داخل دين أو مذهب، لأن رحمته وسعت كل شيء. ومن أدرك هذه الحقيقة أدرك أن اختلاف الأديان ليس لعنة، بل نعمة، وأن الله تجلّى في كل دين بصورة ما، وأن الإنسان مدعوّ لأن يبحث عن الله في كل وجه من وجوه الخير والجمال والعدل، لا في حدود الهوية الضيقة التي صنعها التاريخ. بهذه الرؤية الإنسانية الواسعة، يضع الحيدري لبنة في مشروع الإصلاح الديني المعاصر، مشروعٍ يسعى إلى إعادة الدين إلى جوهره الأول: محبة الله ومحبة الإنسان.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخطط لبناء حي استيطاني ضخم لليهود الحريديم بعطروت وعلى أرض م
.. هل يتحرك ترمب في نيجيريا لـ -حماية المسيحيين-؟
.. أكثر من 12 قتيلا في تفجير انتحاري أمام محكمة في إسلام آباد ت
.. الحياة بعد مخيم الهول: نساء تنظيم -الدولة الإسلامية- يواجهن
.. عمر الرملى يحصد الذهبية فى دورة ألعاب التضامن الإسلامى 2025