الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور القراءة في الوعي

صالح مهدي محمد

2025 / 11 / 4
قضايا ثقافية


ليست القراءة فعلاً ثقافياً فحسب، بل هي تجربة وجود يتجاوز أثرها حدود الورق والكلمات. فحين يفتح الإنسان كتاباً، لا يفتح غلافاً من ورق، بل باباً إلى ذاته. القراءة هي المرآة التي لا تعكس ملامح الوجه، بل ملامح الوعي، وهي الخطوة الأولى نحو التحرر من الظلام الداخلي الذي تفرضه العادة والخمول والتلقين.

من يقرأ لا يكتفي بأن يتعلم، بل يتغير، لأن المعرفة ليست تراكم معلومات، بل إعادة بناء للعقل والرؤية. وحين يقرأ الإنسان بعمق، يبدأ في تفكيك ما كان يراه بديهياً، ويعيد النظر في المسلّمات التي رُبّي عليها منذ الطفولة. وهنا تحديداً يبدأ الوعي: في تلك اللحظة التي يتساءل فيها القارئ، لا حين يصدّق.

القراءة تخلق بين الإنسان والعالم علاقة جديدة قائمة على الفهم لا على الانفعال، فهي لا تزوده بالأجوبة الجاهزة، بل توقظ فيه السؤال، وتمنحه الجرأة على مواجهة ما لا يُقال. إنها لا تلقّنه الحقيقة، بل تدرّبه على البحث عنها، وكل قارئ حقيقي يدرك أن الحقيقة ليست نصاً يُقتبس، بل مسار يُعاش.

وحين تغيب القراءة من حياة الأفراد، يبهت الوعي الجماعي، ويصبح المجتمع فريسة للسطح والضجيج. فالعقول التي لا تقرأ تُقاد بسهولة، لأنها لا تملك أدوات التفكير المستقل، ولا القدرة على التمييز بين ما يُقال وما يُراد به. القراءة بهذا المعنى ليست ترفاً فكرياً، بل شرطاً من شروط الحرية، إنها ما يجعل الفرد شريكاً في صناعة المعنى، لا تابعاً له.

وفي أزمنة الازدحام الرقمي، حين تتنازع العقول شاشات متخمة بالسرعة والاختزال، تظل القراءة فعلاً مقاوماً. فهي تبطئنا لنفكر، وتعيد إلينا عادة الإصغاء إلى أنفسنا، في حين يدفعنا العالم إلى التشتت والسطحية. إنها تذكّرنا بأن الفكر لا يُزرع في العجلة، وأن الفهم يحتاج إلى صبر النصوص.

لقد كانت القراءة دائماً فعل وعي قبل أن تكون هواية. بها عرف الإنسان معنى التجربة، وبها صاغ ذاكرته الحضارية، وبها حفظ ما لم تحفظه الأسوار والسيوف. ومن يقرأ اليوم بوعي لا يهرب من العالم، بل يدخل إليه من بابه الأعمق، لأن الكتب ليست ملاذاً للهاربين، بل مدارس للذين يريدون أن يفهموا.

إن الوعي الذي تزرعه القراءة لا يظهر دفعة واحدة، بل ينمو مثل نبتة بطيئة في أرض صبورة. يبدأ بالدهشة، ثم بالتساؤل، ثم بالرؤية الجديدة التي تجعل القارئ يرى العالم بعين أخرى. وهكذا يصبح كل كتاب عتبة نحو نضج داخلي، وكل صفحة مرآة جديدة للعقل، وكل كلمة لبنة في بناء الوعي الإنساني.

ولعل أعظم ما تمنحه القراءة هو أنها تعلّمنا التواضع أمام الفكرة، فكل كتاب يذكّرنا بأننا لا نعرف كل شيء، وأن ما نجهله أوسع مما نعلم. وهذا الإدراك هو جوهر الوعي: أن نعرف حدودنا، وأن نواصل السير في طريق لا ينتهي، لأن المعرفة لا تنتهي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة عباس لماكرون... على ماذا اتفقا؟ | نشرة الأخبار


.. لماذا وافق الرئيس الجزائري تبون على طلب ألماني بالعفو عن صنص




.. سلام كواكبي: وزير التعليم العالي أمر بإلغاء ندوة عن فلسطين ف


.. أزمة -بي بي سي-: إلى أي مدى تهز الثقة بمصداقية الإعلام؟




.. عائلة فلسطينية تطرد مستوطنين جدد | #النقطة_صفر