الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
-النظام الدولي القائم على القواعد-.. عندما تصنع القوّة قواعد اللعبة
ياسر قطيشات
باحث وخبير في فلسفة السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية
(Yasser Qtaishat)
2025 / 11 / 4
السياسة والعلاقات الدولية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تترددّ في الخطاب السياسي الغربي، لا سيما الأوروبي والأمريكي، عبارة أصبحت أشبه بالشيفرة الأخلاقية للهيمنة المعاصرة: "النظام الدولي القائم على القواعد" (Rules-Based International Order) .. هذه العبارة تُستحضر في كل أزمة أو صراع عالمي، وتُرفع في وجه خصوم الغرب، من روسيا والصين إلى الدول المتمرّدة في الجنوب العالمي، لكنها، في جوهرها، ليست دعوة إلى احترام القانون الدولي أو تعزيز العدالة الكونية، بل هي أداة خطابية لتكريس نظام أحادي المركز، يعرّف "القواعد" ويحتكر تفسيرها وتطبيقها
غير أن التكرار الممنهج لهذه العبارة يثير سؤالاً فلسفياً عميقاً حول طبيعة هذه "القواعد": من يضعها؟ ومن يملك حق تفسيرها وتطبيقها؟ وهل هي قواعد كونية تمثل روح القانون الدولي، أم منظومة معيارية غربية ذات طابع سلطوي وهيمني؟
يُظهر تحليل الخطاب السياسي الغربي أن عبارة "النظام القائم على القواعد" لا تحيل إلى منظومة الأمم المتحدة أو القانون الدولي بمعناه المؤسسي، بل إلى نظام موازٍ تضع الغرب في مركزه، فالقواعد هنا ليست تلك التي تم التوافق عليها دولياً، وإنما هي مجموعة معايير يحددها الغرب باعتباره الممثل الأسمى "للنظام" و"القانون" و"الحداثة".. إنها قواعد غير مكتوبة بالضرورة، لكنها تُمارس بوصفها معياراً للسلوك "المتحضر" بالمفهوم الغربي الخالص!
بهذا المعنى، تتحول "القواعد" إلى أداة لإنتاج الشرعية، لا إلى مبدأ للعدالة: فكما أشار "ميشال فوكو"، السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل عبر إنتاج الخطاب الذي يعرّف ما هو شرعي وما هو خارج النظام، وبذلك يصبح الخطاب الغربي عن النظام الدولي وسيلة لاحتكار تعريف "المشروعية"، ومن ثم تبرير الإقصاء والعقاب.
لقد نشأ النظام الدولي الحديث في رحم الهيمنة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، حين كانت "القواعد" وسيلة لإدارة الإمبراطوريات لا لضبط العلاقات بين الندّ للندّ، فبريطانيا وفرنسا، اللتان أسّستا مؤسسات "الشرعية الدولية"، لم تُحاسبا يوماً على جرائمهما الاستعمارية في آسيا وإفريقيا، من نهب الموارد إلى الإبادة الجماعية، كما لم تُساءل بريطانيا عن جريمة وعد بلفور الذي منح أرض فلسطين لغير أهلها!
هذه السوابق التاريخية تكشف أن فكرة "القواعد" لم تكن يوماً محايدة، بل كانت انعكاساً لتوازن القوة، فالسيادة في المنظور الغربي لم تُمنح إلا للدول الأوروبية، فيما كان "الآخر" الشرقي أو الإفريقي موضوعاً للإدارة والسيطرة، لا شريكاً في صنع القانون.
وتتجلّى هذه الازدواجية في الممارسة المعاصرة بأوضح صورها في المقارنة بين الحرب في أوكرانيا والإبادة في غزة: ففي الحالة الأولى، تُستدعى كل مؤسسات النظام الدولي لمعاقبة روسيا بوصفها منتهكة "للقواعد"، وتُحشد الموارد لدعم أوكرانيا تحت شعار الدفاع عن النفس والسيادة.
أما في الحالة الفلسطينية، حين تمارس إسرائيل –بدعم غربي مباشر– تدميراً ممنهجاً لشعب بأسره، فإن الخطاب ذاته يتحدث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! هذه المفارقة لا تعبّر عن خلل طارئ في تطبيق القانون، بل عن بنية غير متكافئة في تعريف "الحق" و"الشرعية"، فالنظام القائم على القواعد كما يطرحه الغرب لا يقوم على مبدأ العدالة المتبادلة، بل على مبدأ الاستثناء الغربي: (الغرب هو المشرّع والمستثنى في آن واحد) !
من منظور الفلسفة السياسية، يمكن النظر إلى هذا النظام بوصفه شكلاً من "العنف الرمزي"، فالغرب لا يفرض إرادته فقط بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل أيضاً عبر السيطرة على لغة القانون والأخلاق، فـ"النظام الدولي القائم على القواعد" هو الامتداد الخطابي للهيمنة الليبرالية الجديدة، التي تقدم مصالحها الخاصة في هيئة مبادئ كونية. أو كما يسميه الفكر السياسي بـ"الهيمنة الثقافية"، حيث تُخضع النخب الغربية العالم لمعاييرها عبر الإقناع الأخلاقي لا القسر المباشر.
التحوّلات الجارية في النظام الدولي –من صعود الصين وروسيا إلى بروز دول الجنوب– تفرض إعادة التفكير في مفهوم "القواعد" ذاته، فالعالم لم يعد أحادياً، ولا يمكن أن تبقى الشرعية محتكرة من قبل كتلة غربية تدّعي تمثيل القيم الكونية.
لا يمكن أن يقوم النظام الدولي المنشود على "قواعد" صيغت بلغة المنتصرين، بل على مبادئ العدالة المتبادلة والمساءلة المتكافئة، فحين تُحاسَب القوى الكبرى كما تُحاسَب الدول الصغيرة، وعندما يصبح القانون أداة لضبط القوة لا لتسويغها، يمكن عندئذٍ الحديث عن نظام دولي حقيقي، لا عن استعمار أخلاقي جديد!
إن العدالة الكونية لا تتحقق حين يلتزم الضعفاء بالقانون ويخرقه الأقوياء، بل حين يُعاد تعريف القانون ذاته بوصفه تعاقداً إنسانياً متبادلاً، لا امتيازاً جيوسياسياً، ومن هنا، فإن مهمة الفكر الإنساني النقدي ليست فقط فضح زيف هذا الخطاب، بل المساهمة في بلورة رؤية عالمية جديدة، تتجاوز المركزية الغربية وتستعيد المعنى الحقيقي للعدالة الدولية.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. العفو عن صنصال بعد طلب ألماني
.. -تقبلت فكرة الموت بهدوء-... سيباستيان يروي لفرانس24 لحظات رع
.. فرنسا: الجمعية الوطنية تصادق على -تعليق- تعديل نظام التقاعد
.. ترامب لفوكس نيوز عن تهديده بمقاضاة BBC: لدي التزام بذلك
.. هل تنجح حكومة العراق الجديدة في تجاوز ألغام الداخل وضغوط الخ