الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية

أكرم شلغين

2025 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


في عالم تتغير فيه معايير المجد، لم تعد الأمم الفاشلة تخجل من فشلها، بل تحتفل به.
تقيم له المهرجانات وتطلق التصريحات وتستدعي الكاميرات لتوثق “الإنجاز العظيم” المتمثل في تركيب حنفية أو رصف شارع لم يكتمل. حقا، فالكلمات تتزين بينما الواقع يتآكل، ويرفع الشعار البراق ليغطي عجز الدولة وانهيار المعنى. في هذا المسرح المملوء بالأضواء الزائفة، يصبح المواطن متفرجا في رواية لا تنتهي، بطلها نظام يجيد التمثيل أكثر مما يجيد الحكم.
نعم، ففي الأنظمة الفاشلة، خصوصاً الديكتاتورية منها، تستبدل الكرامة بالخطابة، وتقايض الحقوق بالمهرجانات. لا أمن، ولا عدالة، ولا رعاية صحية، ولا تعليم حقيقي، ولا ماء نظيف أو كهرباء مستقرة أو أنترنت، ومع ذلك تجيد هذه الأنظمة فنا واحدا هو: فن التضخيم السياسي.
في تلك الدول، يقاس النجاح بعدد المقصات التي تقطع الشرائط الحمراء، لا بعدد المشروعات التي تغير حياة الناس. يفتتح مرفق صحي قديم بعد صيانته فيعلن عنه كأنه نقطة تحول في التاريخ الوطني. يوزع كيس طحين فيصور كأنه عطاء من القائد المحبوب، لا كحق بسيط من حقوق المواطن. يصلح طريق ترابي فيسمى "شريان الحياة الجديد" بينما الطرق الرئيسية تنهار تحت أقدام الناس.
والمفارقة الأعمق أن هذه الأنظمة لا تخجل من فشلها، بل تصنع منه عرضا مسرحيا مهيبا. تستدعي الكاميرات، وتحضر الخطب، وتقيم الاحتفالات، وكأن الشعب ينتظر أن يرى الحنفية تركب، لا أن يشرب ماءً نظيفا بكرامة.
أتذكر فيلماً قديماً وهو تراجيكوميدي فيه تحولت "الحنفية" إلى مهرجان قومي يرفع له العلم وتطلق بسببه الأغاني. لم تكن السخرية في الفيلم مبالغة، بل كانت نبوءة لواقعٍ متكرر: الماء، ذلك الحق الإنساني الأولي، يحتفل به كأنه إنجاز خارق. وحين تصبح الضروريات موضوعا للتمجيد، فاعلم أن الدولة سقطت أخلاقيا قبل أن تسقط إداريا.
الأنظمة الفاشلة تدرك أن إنجازاتها الحقيقية قليلة، لذا تتبع استراتيجية التهويل. ما هو في الأصل واجب حكومي روتيني، مثل تعبيد طريق أو توصيل مياه، يُقدم على أنه معجزة وطنية وقفزة حضارية. إنها فلسفة الخواء المتأنق: حين يغيب الجوهر، يضخم القشر، وحين يعجز النظام عن صناعة الحياة، يصنع الاستعراض بدلا منها.
ولخلق هذا الوهم، تستخدم أدوات معروفة ومنها:
خلق وهم بالإنجاز: لإيهام الشعب بأن النظام يعمل من أجله.
إلهاء الناس عن الإخفاقات الكبرى: الحديث عن "الحنفية" يصرف الانتباه عن أزمة المياه نفسها.
لغة الأرقام القياسية الوهمية: "أكبر ساحة"، "أطول علم"، "أضخم وليمة". مظاهر لعظمة هشة تستهلك الموارد بينما تنهار الخدمات الأساسية.
العدو الدائم والبطولة المصطنعة: فوجود "عدو" ضروري لاستمرار المسرحية. النظام يصور نفسه كالبطل الوحيد في مواجهة المؤامرات، حتى لو كان إصلاح عطل كهربائي يُقدَّم كأنه "انتصار في معركة الصمود الوطني".
في مثل هذه الأنظمة، لا تقاس العظمة بما يتحقق فعلاً، بل بما يُقال إنه تحقق. تقام المهرجانات لافتتاح "حنفية" كما لو أنها فتح الأندلس من جديد. ترفع الرايات وتلقى الخطب ويسمى الإنجاز البسيط أسطورة وطنية.
الكلمة أهم من الفعل، والمشهد أهم من الحقيقة. يراد للناس أن يصفقوا لا لأن شيئا تغير، بل لأنهم أُمروا أن يصفقوا. تصنع البطولات في نشرات الأخبار، وتخترع الانتصارات في نشرات المساء. حتى الفشل يعاد تسويقه على أنه نجاح "استراتيجي"، والكارثة تعلن "نقطة تحول تاريخية".
من ديكتاتوريات القرن العشرين التي أعلنت "الخطط الخمسية" ولم تثمر سوى الجوع، إلى أنظمة جعلت من قص الشريط الأحمر لطريق لم يكتمل مهرجانا وطنيا، إلى روما التي كانت تقيم الاحتفالات في لحظات ضعفها لتوهم نفسها بالعظمة... كلهم جمعهم شيء واحد: التمثيل.
دولة تمثل أنها دولة، ووزراء يمثلون أنهم يعملون، وشعب يمثل أنه يصدق.
إنهم لا يخشون الفقر أو الجهل، بل الحقيقة؛ لأنها تسقط المهرجانات وتطفئ الأضواء. لذلك يبقون أسرى الوهم، يختنقون تحت لافتة كتب عليها: "الإنجاز مستمر".
الأنظمة الفاشلة حين تعجز عن تحقيق إنجازات حقيقية تلمس حياة الناس، تلجأ إلى "تمثيل" دور النظام الناجح. تصنع فيلما عن الإنجاز بدلا من صناعة الإنجاز نفسه. الهدف ليس التنمية، بل تمديد عمر النظام عبر خلق واقع بديل، حتى ولو كان هشا مثل ديكور مسرحية... ديكور ينهار بمجرد أن يرفع الستار عن الحقيقة.
"مهرجان الحنفية" إذن ليس مشهدا عابرا من كوميديا سياسية، بل رمز لكل استعراض يخفي فشلا، ولكل سلطة تبيع الوهم بدلا من الكرامة. وربما كان الدرس الأهم الذي يتركه لنا هذا الرمز البسيط: لا تفرح بإنجاز هو في الأصل واجب مهمل، ولا تصفق لسلطة تحتفل بما كان ينبغي أن تستحي منه.
في النهاية، ليست المأساة أن تركب حنفية في احتفال مهيب، بل أن يصفق الناس وهم عطشى. فحين يصبح الوهم عيدا، وتسمى الحاجة إنجازا، نكون قد دخلنا زمنا يختلط فيه الصدأ بالمجد، وتغدو الديكتاتورية أبرع المخرجين لمسرحية الفشل العظيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اكرم شلغين
جلال عبد الحق سعيد ( 2025 / 11 / 4 - 22:17 )
مساء الخير
ماساتنا ليست فقط بعدد المقصات التي تقطع شرايط ملونة تفتتح مشاريع تنموية وهمية
بل ايضا بعدد حجارات الاساسات التي يضعونها لمشاريع هزيلة كما ذكرت في مقالك
من كثرة حجارات الاساسات ظننا انه لم يعد في البلدان العربية جبال
انه مهرجان الحنفية اللعين
تحياتي

اخر الافلام

.. زيارة عباس لماكرون... على ماذا اتفقا؟ | نشرة الأخبار


.. لماذا وافق الرئيس الجزائري تبون على طلب ألماني بالعفو عن صنص




.. سلام كواكبي: وزير التعليم العالي أمر بإلغاء ندوة عن فلسطين ف


.. أزمة -بي بي سي-: إلى أي مدى تهز الثقة بمصداقية الإعلام؟




.. عائلة فلسطينية تطرد مستوطنين جدد | #النقطة_صفر